18 ديسمبر، 2024 8:50 م

لماذا أَهدَرَ عمر بن عبد العزيز قمح الزكاة على الجبال!؟ 2-2

لماذا أَهدَرَ عمر بن عبد العزيز قمح الزكاة على الجبال!؟ 2-2

نقل المؤرخون ان الناس قد اغتنت في عهد عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه). وان اموال الزكاة فاضت حتى انه لا يوجد من يأخذها. فقيل انه أمر بشراء القمح بفائض اموال الزكاة، ونسب اليه القول: “أنثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين”. وقد ناقشنا في الجزء الأول من هذا البحث الحكم على تلك المرويات التاريخية وعلى تلك المتداولة على النت وعلى المنابر في وقتنا الراهن.
وهنا لا نتعرض لموضوع غنى الناس، وفيض أموال الزكاة، وهي امور ممكنة، ونظن انها قد حدثت فعلًا وواقعاً، على اقل تقدير في مناطق وأزمنة معينة.. وانما ينحصر حديثنا فقط عن مصداقية المقولة بمقدار تعلقها بشخص الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رحمه الله). وعليه فلنتماهى قليلًا مع مقولة “. أنثروا القمح على رؤوس الجبال”، ولنفترض جدلاً انها قيلت حين فاض مال الزكاة. وأنه انتفى وجود مستحق تدفع اليه. ومن ثمَّ تم توجيهها لإطعام الطيور. فهل هذا الطلب أو الأمر يمكن ان يصدر من امير المؤمنين الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز؟. وهل هذا الفعل منقبة؟، أم مثلبة؟، وهل اطعام الطيور هو مصرف من مصارف الزكاة؟، أو مما صرح بجوازه الفقهاء؟. وهل هنالك من اولويات تأتي قبل إطعام الطيور؟. هذا مانناقشه فيما يأتي:
1- ألاصل في قضايا العبادات، التوقيف عليها وعندها، ولا يجوز تجاوزها. ولقد حدد الشارع الحكيم في القرآن الكريم مصارف الزكاة في ثمانية مصارف. فهي تدفع للفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل. ومن الواضح أنه ليس من مصارفها الإنفاق على إطعام الطيور والحيوانات في البرية، ولا على مداواتها والعناية بها. وانما هذه الأحوال ينفق عليها من صدقة التطوع. أو من بيت المال، من المال العام للدولة.
2- لقد عُرِفَ عن امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، انه كان وقّافًا عند كتاب الله وسنَّة نبيه (صلى الله عليه وسلم). ولا يُعرف عن احد من الفقهاء من التابعين وتابعي التابعين ممن عاصروه ، انه اجاز انفاق الزكاة على اطعام الطيور. وعليه فما هو الدليل والمستند الشرعي الذي اعتمدعليه امير المؤمنين في صرف أموال الزكاة على إطعام الطيور، “هذا فيما لو كان هو قائل العبارة موضوع البحث؟!”.
3- هل كان هنالك على سبيل المثال قول لمتربص أو حاقد أو منتقد، قال يومًا: “ان الطيور تجوع في ارض المسلمين”؟!. لكي تكون المقولة ردًّا مع مثل هذا القول. ومن البديهي ان لا وجود لمثل هذا القائل؟!. فلماذا كان التعبير المنسوب للخليفة “لكي لا يقال جاع طير”؟!. فمن هُم، أو من هو القائل المعني بهذا الرد؟.
4- هل شَكَت الطيور الجوع في ارض المسلمين!؟. كيف؟ واين؟ ومتى؟ ومن الذي عَرَفَ ذلك وأخبَرَ به؟.
5- وفق مضمون المقولة. فهذا الفعل لا يُعَدُّ عملا في سبيل الله يقصد به الأجر والثواب، ولا يُعَدُّ حبّاً في البيئة ورحمة بالطيور والبهائم. لأن الغرض والتعليل من هذا الفعل جاء حسب العبارة، لمرضاة متقولين (حتى لا يقال!). مع ان المفروض ان يكون الغرض هو ان تنثر الحبوب لوجه الله وقصد الإحسان الى الطيور، حتى لا تجوع، وليس: (حتى لا يقال…).
6- لو نُثِر القمح على رؤوس الجبال. فمن سيتحقق من اطعام الطيور.هل هنالك احد ما، سيتسلق او سيرتقي الى اعالي الجبال ليشاهد هذه الطيور وهي تأكل القمح هناك. فيقتنع، او يرجع فيقنع الآخرين، فلا يعود هنالك متقول ليقول ان الطيور تجوع في بلاد المسلمين!. ثُمَّ كيف سَيُعرف ان كانت قد شبعت أم مازالت جائعة؟ وهل شبعت لمرة واحدة؟، أم كل الموسم؟..
7- اذا كان الناس قد اكتفوا في ارزاقهم ولم يعودوا بحاجة لأخذ الزكاة، وتَحَسّن مستواهم الإقتصادي، فسيكون ذلك بمقابل ازدهار الزراعة (كونها اهم اعمدة الاقتصاد يومذاك). فمن باب اولى اكتفاء الطيور كذلك، لأن الخير إن كان عامّاً ووفيرًا، فسينعم به البشر والطير وبقية المخلوقات. فالخير يعني وجود حقول زراعية غناء واسعة ، تجود بالخيرات ومروج خضراء، وارفة الظلال،. وأخرى تُحرث وتُعَدُّ للبذار. وليس ثَمّة ثلج يغطي الأرض. وكلها اجواء مثالية تُشبع الطيور، فلا تغدوا جائعة، فالرزق للجميع وفير. ومن ثمّ فلا حاجة لنثر حبوب اضافية.
8- في البلدان الباردة في فصل الشتاء، قد تجوع الطيور حقًا وتموت جوعاً عندما تهطل الثلوج، فتغطي الإشجار والأرض ويختفي أي أثر للحبوب والحشرات والديدان.. يحدث هذا في بعض مناطق تركيا مثلاً. والتي ربما وكما يبدو على وقع العبارة المأئورة عن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) “أنثروا القمح على رؤوس الجبال …” ومن باب الانسانية والرحمة، تَعارف الأتراك على قيامهم بنثر الحبوب على الهضاب والتلال في فصل الشتاء حين نزول الثلج. فتسترشد الطيور اليها فتلتقطها مطمئنة من عدم الموت جوعًا. (وهنالك العديد من الصور والفيديوهات على شبكة الإنترنيت توثق عملهم الإنساني النبيل هذا).
عندما تتراكم الثلوج في فصل الشتاء القاسي، وبوازع انساني وحفاظًا على البيئة، فقد اعتادت بعض البلديات في السويد مثلاً، وكثير من المواطنين نثر الحبوب على الروابي والهضاب المكشوفة، او وضع الحبوب في حاويات صغيرة واقفاص وأكياس شبكية مخصوصة وتعليقها على اغصان الاشجار امام المنازل وفي الأفنية لتستطيع الطيور التقاط الحبوب منها بسهولة. كما يقومون بتوفير الطعام للبط المحلي السائم، حين تتجمد اسطح البحيرات والجداول التي يعيش البط بجانبها . وكل هذا أمر مُقَدَّر ومشكور، سواء دفعت الحاجة لفعله، او سبقت المبادرة اليه من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز.
ولكن عموم البلاد الاسلامية وخاصة في الشرق الاوسط حيث التضاريس الأرضية ليست عالية ولا تغطيها الثلوج، فقد انتفت الحاجة لمثل هذا الفعل.
9- انتهج عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) سياسة مالية حكيمة. مشفوعة بالمراقبة ولانضباط الشديد. مما اثمر عن ازدهارٍ اقتصادي مجيد في الدولة. ولقد عُرِفَ من سياسته المالية انه كان حريصًا على عدم التبذير حتى في ورق المراسلات، وان لا ينفق من بيت المال فيما هو خارج إطار النفع العام، أو فيما هو ليس بضروري. وإلاّ حاسب نفسه وإعتبرها مفرِّطًة بالأمانة. وهذه واحدة من مزايا هذا الخليفة. وعلى ضوء مُخرجات سياسته المالية شديدة الحرص هذه، فمن المستبعد ان يكون قد اهدر المال لطيور البرّية (التي في الأصل رزقها على خالقها)، واهداره لمال الزكاة أكثر استبعادًا.
كتب اليه ابوبكر بن حزم ثلاث حاجات في ثلاثة كتب، فرد عليها أمير المؤمنين في صحيفة واحدة، جاء في آخرها: “أن أدق قلمك، وقارب بين سطورك، واجمع بين حوائجك، فإني أكره أن أُخرِجَ من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به. والسلام” (1).
وكتب الى العمال، أن لا يكتبن في طومار (صحيفة كبيرة) بقلم جليل ولا يمد فيه (أي ليس بخط عريض ومد للأحرف) (2) فيستغرق اوراقًا أكثر. فهو يكره ان يبدد أو يهدر أي شيء من المال مهما قل شأنه، إن لم يكن فيه نفع للمسلمين … انظر أي بون شاسع لقداسة “المال العام” وحرمته عند عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)(3)، بالمقارنة اليوم مع المال العام المباح لكل ناهب وطامع يعتلي سدة الحكم والسلطة في البلاد.
10- ان كان الفقراء قد استغنوا، وبقيت اموال من الزكاة فائضة، فماذا عن عتق العبيد ضمن مصرف “وفي الرقاب” وكانت مشكلة الرقيق مازالت قائمة يومذاك في كل البلدان. وعتق الرقيق مطلب شرعي. وأولى من اطعام الطيور. لأن الزكاة انما شُرّعَت لبناء وصلاح الإنسان لا الحيوان. ناهيك عن مصرف الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، والذي ربما يستغرق كل فائض من اموال الزكاة مهما كثرت. ويومها كانت حركة الجهاد والفتوحات على أوجها.
يحيى بن سعيد مبعوث الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول:” بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها ، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيرا ، ولم نجد من يأخذها مني ، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين “(4). فالرواية هنا تتحدث عن استغراق زكاة افريقيا ضمن مصرفي (للفقراء، وفي الرقاب) فقط وهما من المصارف الثمانية. وليس ثَمّة اشارة الى فائض في الزكاة لتزويج الشباب او توفير مسكن أومركب او اطعام للطيور.
11- رؤوس الجبال تعبير يوحي بارتفاع الجبال ، وهي غالبًا ماتكون مغطاة بالثلج معظم اوقات السنة. فأي نوع من الطيور الملتقطة للحبوب يلجأ الى اعالي الجبال؟. ان رؤوس الجبال العالية وسفوحها هي في العادة اوكار للطيور الجارحة مثل النسور والصقور والعقبان وهي آكلة للحوم وهي تحلق في الجو عاليًا كي ترصد فرائسها التي تطير اسفل منها او ترصد فرائسها على الارض. فتنقض عليها وتقتنصها وتقتات لحومها . فهي آكلات للحوم وليس الحبوب.
أمّا الطيور الملتقطة للحبوب فتلجأ عادةً الى السهول والحدائق والحقول والغيطان، للحصول على قوتها، وليس في أعالي الجبال. وإلّا اصبحت فريسة سهلة للطيور الجارحة.
12- ان كان مقصود المرويات أنه ينبغي عدم ابقاء شيء من الزكاة، وانه يجب انفاقها بالكامل في ذات الموسم. فالسؤال التالي يطرح نفسه وهو:هل نفدت اموال الزكاة عند حالة اطعام الطيور؟. ياترى ماذا لو بقي شيء من المال فاض عن اطعام الطيور؟، ماهو المصرف الذي سيوجه اليه بعد ذلك؟.
13- ماذا لو ان الحبوب التي نُثِرَت كانت فائضة عن حاجة الطيور، هل سيدخل ذلك في باب التبذير وإهدار وتبديد الاموال واضاعة الزكاة وخيانة الأمانة؟.
14- إن لم يجدوا من يأخذها من المستحقين. أليس مقتضى العقل والحكمة أن يدَّخر الخليفة مال الزكاة لسنوات القحط والحاجة التي قد تأتي لاحقاً؟!. او الانتظار بها إلى أن يتيسر من يأخذها.
يقول الخطيب الشربيني رحمه الله (ت 977هـ) وهو من فقهاء الشافعية: ” إن لم يوجد أحد منهم في بلد الزكاة ولا غيرها حفظت الزكاة حتى يوجدوا أو بعضهم ، فإن وجدوا وامتنعوا من أخذها قاتلهم الإمام على ذلك كما قاله سليم في المجرد ؛ لأن أخذها فرض كفاية ، ولا يصح إبراء المستحقين المحصورين المالك من الزكاة “(5).
التدليس في نسبة المقولة الى علي بن ابي طالب:
ليس هنالك من أثر أو دليل تاريخي على ان قائل هذه العبارة هو امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (رحمه الله). أما وقد شاعت وانتشرت على مواقع التواصل الإجتماعي، فقد راقت هذه العبارة في اعين بعض الجهلة ومتعصبي مذهب معين، فنسبوها زورًا وتدليسًا الى امير المؤمنين علي بن ابي طالب (رضي الله عنه)!، وربما ارادوا بذلك رفع قدره، وما ادركوا ان قدره السامي محفوظ في قلب كل مسلم. وما أدركوا أن المقولة ربما تزري بقائلها، ان حُمِل المعنى فيها على الاهدار والتبذير وسوء التصرف في عصب الأمة الإقتصادي (المال). ومن هنا نقول إنَّ كلا النسبتين لا تثبت، ولا ينبغي تزوير التاريخ ونسبة قول الى غير قائله مهما كنا محبين لمن نريد النسبة اليهم من عظماء السَلَف في هذه الأمة..
اسباب انتشار المقولة:
لعلَّ من دواعي انتشار هذه المقولة: الكوارث الإقتصادية والجوع الذي المَّ بالناس في سوريا والصومال في آن واحد، مابين الأعوام 2010- 2012م. ففي سوريا وتزامنا مع الحرب التي قامت بين قطاعات من الشعب وبين السلطة. عاني قطّاع من المواطنين السوريين، البرد والصقيع والجوع والحصار حتى الموت. وخاصة في مخيمات اللجوء والنزوح داخل سوريا وعلى الحدود التركية. وكانت وسائل الاعلام تنقل وبشكل مأساوي يهز المشاعر، صور العديد من الاطفال والكبار وهم اشبه بالهياكل العظمية، يلفظون انفاسهم الاخيرة جوعًا.
في الصومال لم يكن الوضع احسن حالًا. فقد تعلق الأمر بأكثر من كارثة. الكارثة الأولى: الجفاف والتصحر الذي ضرب البلاد في موجات قاسية. والثانية: كارثة الإحتراب والإقتتال الداخلي الذي استعر بين الفصائل الصومالية المختلفة. والذي حصد ارواح مئات الآلاف، اغلبهم من الاطفال تحت سن الخامسة.
حصد الموت في تلك الكوارث ما يقدر بـ 4.6% من مجموع سكان البلاد البالغ عددهم قرابة العشرة ملايين نسمة. ونفوق قرابة 90% من المواشي في بعض اجزاء البلاد جراء موجات الجفاف. وتقلصت المساحات المزروعة. وارتفعت اسعار المواد الغذائية . مما إضطر الناس الى الشروع بموجات نزوح جماعي الى الدول المجاورة.
تلك المناظر المؤلمة والبشعة ربما ساهمت في تحفيز رواد النت والتواصل الاجتماعي لترديد مقولة (نثر القمح على رؤوس الجبال)، لإظهار الأسى لما يصيب الناس. وللمقارنة بين حالين: حال قديم زاهر يرفل فية حتى الطير بالنِعم ، وآخر معاصر مزري يأكل الناس فيه الثرى جوعًا. ولعلها كانت منهم محاولة إستدعاء نخوة من بيدهم الأمر ومن لهم القدرة على الاغاثة، لدرء فواجع الجوع والحصار التي حلت باخوانهم في اكثر من بلد.
المراجع:
(1) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز للحافظ ابن الجوزي ص 100-101 منشورات محمد علي بيضون ط دار الكتب العلمية/ بيروت – لبنان . وسير أعلام النبلاء ج 5 ص132 للإمام الذهبي تحقيق شعيب الأرنؤوط ط مؤسسة الرسالة. ، الطبقات 5/400
(2) المصدر السابق: سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز للحافظ ابن الجوزي ص88 و100.
(3) خامس الخلفاء الراشدين تأليف عبد الستار الشيخ ص 296 دار القلم دمشق سلسلة اعلام المسلمين رقم 40.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك وأصحابه. لعبد الله بن عبد الحكم (ت214هـ) (ص 65 ط عالم الكتب.
(5) مغني المحتاج الى معرفة معاني الفاظ المنهاج لشمس الدين الخطيب الشربيني 4/189 ط دار الكتب العلمية – بيروت.
الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]