23 ديسمبر، 2024 1:44 ص

لماذا أَهدر عمر بن عبد العزيز قمح الزكاة على الجبال!؟ 1-2

لماذا أَهدر عمر بن عبد العزيز قمح الزكاة على الجبال!؟ 1-2

وردت في السنوات الأخيرة في كثير من مواقع الانترنيت، والتواصل الاجتماعي، وعلى السنة خطباء المنابر، واصحاب الفكر والدعوة، مقولة غريبة تنسب الى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، قوله: “أنثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين”. ويسوقون لها روايات يشيرون بها على عدل هذا الخليفة الراشد، وانسانية الحضارة الاسلامية، ومراعاتها التي تمتد الى كل مخلوقات الله. والى الأثر الاقتصادي الكبير للزكاة في المجتمع، والى العز والعفة التي عاشها العرب والمسلمون في ظلال هذا الدين.. وهذه المزايا والوقائع لا شك فيها. وهي لاتدخل ضمن نطاق بحثنا هنا. فنحن لا نتحدث هنا عن اهمية الزكاة. ولا عن عدل عمر. ولا عن عظمة قامته وارتفاع شأنه في التأريخ والنفوس. فكل ذلك من المُسَلَّمات. ولكن البحث ينصب بالذات على تلك المرويات التي تنتهي خلاصتها بمقولة: “أنثروا القمح على رؤوس الجبال….”: فما صحة تلك المرويات؟. وما مصدرها؟. ولماذا انتشر تداولها في السنوات الاخيرة؟. وما الدليل على ان قائل هذه العبارة عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)؟.
هذه المرويات لا تخلو من غرابة، تتقاطع فيها الإسطورة بالواقع. وتجعلنا نقف أمام صورة متباينة لحدث يفترض أنه (تاريخي إستثنائي)، مما تستدعي منّا هذه المرويات وقفة يسيرة نتعامل معها بالنقد والتحليل، لكي لا يُتَقَوّل متقول على التاريخ ما ليس منه، ولا تُزيف وقائعه، حتى ولو كان بحسن نيّة..
قصة انثرو القمح (المشترى بفائض أموال الزكاة) انتشرت على النت ومواقع التواصل الإجتماعي، وجاءت بأكثر من صيغة وبتفصيلات متباينة. اورد هنا اكثرها تداولاً:
الصيغة الاولى: جاءوا إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز بأموال الزكاة .
فقال :أنفقوها على الفقراء .
فقالوا ما عاد فى أمة الإسلام فقراء .
قال :فجهزوا بها الجيوش .
قالوا جيوش الإسلام تجوب الدنيا .
قال :فزوجوا الشباب .
فقالوا من كان يريد الزواج زُوِج .وبقى مال
فقال :اقضوا الديون على المدينين .فقضوها وبقى مال .
فقال :أنظروا الى المسيحيين واليهود من كان عليه دين فسددوا عنه .ففعلوا وبقى مال .
فقال :اعطوا أهل العلم .فأعطوهم وبقى مال .
فقال :اشترو بها قمحاً وانثروه على رؤوس الجبال لكي لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين
الصيغة الثانية: فاض بيت المال وفوجئ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بشكاوى من كل الأمصار المفتوحة (مصر والشام وأفريقيا…)، وكانت الشكوى من عدم وجود مكان لتخزين الخير والزكاة، ويسألون: ماذا نفعل؟
فيقول عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه): أرسلوا منادياً ينادي في ديار الإسلام:
أيها الناس: من كان عاملاً للدولة وليس له بيتٌ يسكنه فلْيُبْنَ له بيتٌ على حساب بيت مال المسلمين.
ياأيها الناس :من كان عاملاً للدولة وليس له مركَبٌ يركبه، فلْيُشْتَرَ له مركب على حساب بيت مال المسلمين.
ياأيها الناس: من كان عليه دينٌ لا يستطيع قضاءه، فقضاؤه على حساب بيت مال المسلمين.
ياأيها الناس: من كان في سن الزواج ولم يتزوج، فزواجه على حساب بيت مال المسلمين.
فتزوج الشباب الاعزب وانقضى الدين عن المدينين وبني بيت لمن لا بيت له وصرف مركب لمن لا مركب له.
ان الشكوى ما زالت مستمرة بعدم وجود اماكن لتخزين الاموال و الخيرات!، فيرسل عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) إلى ولاته: “عُودوا ببعض خيرنا على فقراء اليهود والنصارى حتى يسْتَكْفُوا”،فأُعْطُوا، والشكوى ما زالت قائمة.
فقال: وماذا أفعل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء: “خذوا بعض الحبوب وانثروها على رؤوس الجبال فتأكل منه الطير وتشبع. حتى لا يقول قائل: جاعت الطيور في بلاد المسلمين”.
التعليق العام على القصة::
أولاً: هذه الروايات المتقدمة، ليس هنالك أحداً من كل من اوردها أو استشهد بها، قد عزاها الى مصدر او مرجع تأريخي، سواء أكان المصدر موثوقًا أو غير موثوق!.
ثانيًا: بعد مراجعة أهم التآليف المتيسرة القديمة والحديثة، والمعنية بتفاصيل حياة امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، وعلى سبيل المثال المصنفات التي ادرجها ادناه في ثبت المراجع (1). فليس لهذه القصة بهذه الصيغ وجود في كتب التاريخ والسِيَر.
الصيغة الثالثة: ذكرتها المصادر التاريخية، وهو أثر قريب من المعنى العام للروايات المصنوعة المتقدمة. ولكن ألاثر يتعلق بفيض المال في بيت مال المسلمين بشكل عام، ولا يختص بالزكاة ولا الفائض منها. لذا سنمر عليه سريعا، مع ابداء الملاحظة عليه بشأن سند الرواية.
اخرج ابي عبيد القاسم بن سلّام: روَى سعيد بن ابي مريم عن عبد الله بن عمر العمري عن سهَيلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: أنَّهُ بعدَ أنْ فاضَ المال في بَيتِ مالِ المُسْلِمين؛ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى” عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ”، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ: أَنْ أَخْرِجْ لِلنَّاسِ أُعْطِيَاتِهِمْ؛ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُالحَمِيدِ: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ لِلنَّاسِ أُعْطِيَاتِهِمْ، وَقَدْ بَقِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ انْظُرْ كُلَّ مَنِ ادَّانَ فِي غَيْرِ سَفَهٍ وَلَا سَرَفٍ فَاقْضِ عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ، إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ عَنْهُمْ، وَبَقِيَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ انْظُرْ كُلَّ بِكْرٍ لَيْسَ لَهُ مَالٌ فَشَاءَ أَنْ تُزَوِّجَهُ فَزَوِّجْهُ وَأَصْدِقْ عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ زَوَّجْتُ كُلَّ مَنْ وَجَدْتُ، وَقَدْ بَقِيَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَخْرَجِ هَذَا: أَنِ انْظُرْ مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ فَضَعُفَ عَنْ أَرْضِهِ فَأَسْلِفْهُ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى عَمَلِ أَرْضِهِ، فَإِنَّا لَا نُرِيدُهُمُ لِعَامٍهم هذا وَلَا لِعَامَيْنِ. (2). وهنالك آثار اخرى وشواهد تقرب أو تبعد عن مثل هذا الأثر. وعلى أي حال:
1. هذا الأثر ضعيف الاسناد. فيه عبد الله بن عمر العمري (ضعيف)، بالإضافة الى جهالة الرجل الانصاري . وكذا الشواهد الاخرى في مصادرها المختلفة، تشترك كلها في ضعف السند، وجهالة بعض الرواة.
2. ليس في هذا الأثر (التاريخي)، ولا في الشواهد الأخرى في كتب التاريخ التي على شاكلته عبارة: “اشتَرُوا قَمحاً وانثُروهُ على رُؤوسِ الجِبالِ؛ حتّى لا يُقالَ جاعَ طيرٌ في بلادِ المُسلمين”. وعليه فإن هذا البحث ينصب على: {الروايات التي تتحدث عن فيض الزكاة والتي تنتهي بالعبارة متقدمة الذكر والمنسوبة لأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)}. وبالله التوفيق.
نقد ومناقشة الروايتان (الصيغتان) الأولى والثانية:
1- الإضطراب والتباين الكبير في النصين، بين الصيغة الأولى والثانية. كاف لاسقاط صحة الصيغتين، ودليل على انهما مصطنعتان.
2- الخلط في مضمون القصة. او بتعبير أدق عدم مراعاة ألأولويات والمصارف الثمانية. فمثلًا: تم تقديم العطاء لتزويج الشباب، أو توفير مركب لمن ليس له مركب، على بند المدينين (الغارمين) والذي هو مصرف اساسي من مصارف الزكاة. وكذا تم تأخير الانفاق على طلبة العلم وقُدم ماهو اقل حاجة منه…الخ. فتزويج الشباب، وصرف مركب لمن لا مركب له، ينبغي أن تأتي لاحقًا بعد المصارف ألمُلحّة الثمانية.
3- ورود لفظ (المسيحيين) في الصيغة الأولى. وهذا اللفظ لم يكن متعارفًا عليه في ذلك الزمان وأنما كان المستخدم لفظ النصارى، أو لفظ أهل الكتاب. وتسمية النصارى مأخوذة من أسم (الناصرة) بلدة السيد المسيح (عليه السلام). أو نسبة الى عبارة (انصار الله) المذكورة في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ سورة الصف
4- أن مصارف الزكاة قضية معلومة، ومبسوطة في الاحاديث الشريفة وفي المصنفات الفقهية. وكون مفردات الصرف معلومة، فلا يحتاج فيها للأستشارة، ولا الى الرجوع الى مركز الحكم والخلافة!. فعلام يُستشار الخليفة ويُشغل في مفردات معلوم للولاة والعمال كيفية انفاذها.
5- اليس من الحري بالولاة وعمال الجباية وخزّان بيت المال، إن أرادوا الفتوى والإسترشاد في اموال الزكاة أو فائضها، أن يرجعوا الى الفقهاء الاجلاء الكبار في عصرهم، ونحن نتحدث هنا عن جيل التابعين وتابعيهم وهم كُثُر، أمثال : الحسن البصري، وإبن سيرين، وإبن شهاب الزهري، وزفر بن الهذيل (أحد كبار فقهاء الأحناف)، ومسلم بن يسار، وغيرهم كثير، منتشرين في عواصم ومدن الخلافة بغداد والبصرة والكوفة والفسطاط والشام وخراسان وكل الامصار. وغالبهم في العموم، ليسوا بعيدين عن الولاة، ولا عن اصحاب القرار. وقد يحدث تواصل ومجالسة، بين الولاة والعلماء والفقهاء.
6. دفع الزكاة الواجبة لليهود والنصارى قضية خلافية بين العلماء وان كان الاغلبية مع المنع. (باعتبارها قضية تعبدية خاصة بالمسلمين)، ولكن لايوجد في سيرة عمر بن عبد العزيز ما يدل على انه أمر بدفع الزكاة لليهود والنصارى وانما يعطون من المال العام.(3).
7- عبارة (ما عاد في امة الاسلام فقير!) هذا أمر من الخيال. إذ من المستبعد تصور القضاء على الفقر تماما في أي زمن من الأزمان فالغنى والفقر أشكالية قائمة على الدوام. وهما أمران متلازمان وفق الطبيعة الثنائية لمكونات الوجود ، وعنصر اساسي من عناصر التدافع والصراع في الحياة فإن تعافى من الفقر مكان ما، فربما يكون بجواره مكان آخر يرزح بالفقر. “أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ” ﴿ 32 ﴾ الزخرف
8- ان كان الامر يتعلق بفائض الزكاة، فلنفترض جدلاً صحة المراسلات بين امير المؤمنين في الشام، وولاته (واليه في العراق حسب الرواية التاريخية) أو في بقية الأمصار في دولة واسعة الأرجاء شرقًا وغربًا. كيف سيتم تصريف شؤون البلدان ان كانت مسألة واحدة (اموال الزكاة) استغرقت كل هذه المراسلات والوقت والتكاليف في البريد الرائح والغادي، بين العراق والشام، أو مصر والشام؟.
9- ان كان الموضوع يتعلق بالزكاة وليس بالمال العام، فعلامَ يطالب الخليفة الولاة او عماله باخراج اعطيات الناس. فالزكاة تؤخذ من اغنياء البلد لترد على فقراءه. اليس من مسؤولية الولاة وعمال الجباية، المبادرة دون انتظار التوجيه. فالأمر منوط بهم. ولماذا ينتظروا التوجيه والامر، في مفردات مصارف زكاة معلومة النصاب والمصارف.
تأمّل احد العمّال او المبعوث الرسمي لجباية الزكاة في افريقيا، كيف تصرف فيما أؤتمن عليه من أموال الزكاة، وكيف انه لم يكن بحاجة للرجوع الى امير المؤمنين. قال يحيى بن سعيد:” بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها ، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيرا ، ولم نجد من يأخذها مني ، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس ، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين”(4). وهذا يعني ان العمال لهم مساحة من الأجتهاد والتصرف الرسمي والشرعي في توجيه اموال الزكاة وفق ضوابطها ومصارفها الشرعية.
مع ملاحظة ان الرواية هنا تتحدث عن استغراق الزكاة في افريقيا ضمن مصرفَي (للفقراء، وفي الرقاب) فقط وهما من المصارف الثمانية. وليس ثَمّة اشارة الى فائض في الزكاة لتزويج الشباب لمن اراد الزواج، او توفير مسكن لمن لا مسكن له، أوتوفير مركب لمن لا مركب له، او اطعام للطيور.
عن مروان بن عبد الملك قال: سمعت أبا هاشم (5)، يقول : ” كان الرجل يُخرج زكاة ماله في زمن عمر بن عبد العزيز فلا يجد أحداً يقبلها “.(6). لايشك في ذلك أحد، ولكن هذا في محيطة ودائرة تواصل المتصدق أو الوسيط، لا يجد مستحقًا يأخذ الزكاة. وهذا شائع في كل زمان ان لا يجد المتصدق في محيط عمله ومسكنه من يحتاج للزكاة، حينما تكون هنالك عدالة في توزيع الثروة.
10- لنفترض ان الزكاة فاضت عن حاجة بلد ما، واستغنى الناس في ذلك البلد عن قبول الزكاة، وهذا أمر معقول ومقبول وممكن الحدوث. فالاولى بها ان تدفع في هذه الحالة الى البلد المجاور، الاقرب فالاقرب وربما الاحوج والاشد حاجة. ولن تعدم الخليقة من وجود الفقر والفقراء بينهم في كل مكان وزمان.
11- قد يكون الخير قد عمّ لتلك السنة واكتفى الناس، فماذا عن العام القادم، ألا يجب إدخار الزكاة وعدم تبديدها. ألم يدّخر يوسف (عليه السلام) محصول القمح لسبع سنين. إلا اذا كان الإحتجاج بعدم توفر اماكن للتخزين. فإن كانت العلة في نقص اماكن التخزين، فينبغي بالفائض من الزكاة، المباشرة بإعداد وبناء المخازن الخاصة لذلك. وتكاليف بناء المخازن يمكن ان يكون ملحقًا بسهم (العاملين عليها) من كُتّاب ومحاسبين وجباة وحراس…الخ. أو تدفع التكاليف من المال العام. باعتبار ان الزكاة امانة بيد الدولة لأيصالها لمستحقيها. ويجب عليها توفير المخازن لحمايتها.
12- سلَّمنا بما اورده بعض المؤرخين من ان الخير قد عمَّ إبّان عهد امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (رحمه الله). ولا نشك في ذلك. ويعزوا البعض هذه الطفرة الإقتصادية التي حدث في الأمة ، الى العدل الذي اقامه بين الناس. والواقع ان العدل ضروري لبناء مجتمعات سليمة، واساس رئيسي من أسس التوجه للنهضة والتنمية الشاملة. ولكن هذا الحدث (الإزدهار الإقتصادي ووفرة الزكاة) لم يكن استثناء في تاريخ الاسلام ولم يكن طارءًا بدون سوابق، وانما بني على مقدمات ومعطيات سابقة. ونحن لا نشك ولا نشكك في سيرة عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، ولا في عدلة ورعايته لأبناء الأمّة. ولكن نتسائل:
هل كان عدله يتجاوز عدل جدّه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)؟! وهل كان هو أعدل من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟!. أن مثل هذا الخير وما يقابله من عفة الناس عن أخذ الزكاة. لم يحدث زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ولا زمن أبي بكر وعمر. لم يحدث رغم ان مجتمع الصحابة غالبه عفّة ونزاهة. فكيف وقد اختلطت المجتمعات في زمن عمر بن عبد العزيز، وابتعد الناس عن زمن النبوة وتنوعت الاجناس، وضعف أثر الدين. وكان أغلبهم حديثوا عهد بالاسلام. هل هم خير من القرن الذي كان فيه النبي لكي لا يقبلوا الزكاة تورّعًا؟!.
قد يحدث ان يغتني الناس فلا يوجد من يستحق الزكاة. وهذا يعني فيما يعني ان الناس انصرفوا الى الزراعة والتجارة والعمل والإنتاج، وهذا مؤشر لكثرة عدد دافعي الزكاة. انصرفوا للعمل، والّا من اين ستأتي الموارد؟. انصرفوا للإنتاج ولم يستكينوا كسالى بانتظار اعطيات عمر من الزكاة ، يقابله في نفس الوقت انخفاض عدد المستحقين للزكاة. ولكن هذا سيكون محصورًا في فئة معينة من الناس، او مدينة او منطقة أو بلد ما. كل ذلك ممكن ، ولكن ان يعم ذلك الأمة والبلدان جميعًا، فهذا فيه نظر، وفيه مبالغة. ويشي بضعف تلك المرويات ويشكك في صحتها. وان هذه المرويات (على الأقل) لا تؤخذ على إطلاقها.
روى ابن عساكر بإسناده عن سليمان بن داود الخولاني أنه حدثه – وكان عبدة بن أبي لبابة بعث معه بخمسين ومائة درهم فأمره أن يفرقها في فقراء الأنصار – قال : فأتيت الماجشون (7)، فسألته عنهم ، فقال : والله ما أعلم أن فيهم اليوم محتاجا ، لقد أغناهم عمر بن عبد العزيز ، فزع إليهم حين ولي فلم يترك فيهم أحدا إلا ألحقه (8) .(أي الحقه بديوان العطايا). فالمتصدق هنا ارسل الى فقراء الانصار ولا بد انه كان يتوقع ان فيهم فقراء وإلا ماارسل اليهم. بمعنى ان الرواية مُسقطة على مكان او فئة من الناس قد استغنت عن الزكاة وليس سائر البلاد. ومعلوم ما للأنصار من مكانة في نفوس المسلمين.
النهضة الاقتصادية تقوم على تعاضد الجهد الشعبي مع التخطيط والدعم الرسمي. وعليه لم يكن الناس خاملين مستخذين في زمن عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) ينتظرون هبات واعطيات امير المؤمنين ليصبحوا أغنياء، وانما كانوا فاعلين. وبالمقابل كان منهج عمر بن عبد العزيز الاقتصادي قائم على التشجيع واستنهاض همم الناس وطاقاتهم، ليمارسوا اعمالهم الزراعية والتجارية والتنموية، في ظل دولة عادلة تضمن حقوق الجميع، وتقدم لهم الدعم المناسب، والقروض الميسرة، الضامنة لإستمرار مشاريعهم الاقتصادية في الأنتاج. وبالنتيجة تتجاوز اقتصاديات الدولة الاكتفاء الذاتي، وصولاً الى تحقيق الرفاه الاجتماعي لكل فرد من افراد المجتمع. وتصبح المحصلة ان الأفراد هم انفسهم سيكونون اصحاب يد عليا، دافعين للزكاة. ولا يعود فيهم محتاج لأخذ مال الزكاة.
لقد استهوى الكثيرين في وقتنا الراهن نشر تلك المرويات والتحدث بها على النت والمنابر لما تحمله من متنفس وأجواء وردية يحلم بها كل انسان، ويعوض بها عن معاناته النفسية الحالية، المتمثلة في ضيق المعيشه، وشدة الكرب الإقتصادي الذي يرزح تحته. وربما عجزه عن التصدي للقوى المتسلطة المسببة لهذا الكرب.
ويبقى السؤال التالي ينتظر الإجابة!:
لنفترض جدلاً ان اموال الزكاة قد فاضت بشكل عام عن حاجة كل الناس شرقًا وغربًا، في زمن عمر بن عبد العزيز (رحمه الله)، وبلغ الخير ان شمل الطيور في البريّة، فقيلت العبارة الواسعة الشهرة والإنتشار: اشتروا قمحا (أو حَبَّاً) بفائض اموال الزكاة “وأنثروا القمح على رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين” فما هو الموقف من هذه العبارة، هل هي صحيحة أم غير صحيحة؟، ولماذا انتشر تداولها مؤخرًا؟. وهل صدر هذا الطلب حقًا عن امير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه)؟. وهل هذا الفعل في نظر الفقهاء جائز في اموال الزكاة؟. هذا ما سنبينه –إن شاء الله – في الجزء الثاني من هذا البحث.
المراجع:
(1): لا يوجد ذكر للقصة بهذه الصيغ في المصنفات والمراجع المهمة التالية:
أ. سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك بن أنس وأصحابه ، لابن عبد الحكم (ت214هـ) عالم الكتب ط 6
ب. أخبار أبي حفص عمر بن عبد العزيز ، رواية أبي بكر الآجري (ت360هـ)، ورواية ابن بشران (ت430هـ) مؤسسة الرسالة.
ج- الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد (ت230) ج7 وفيها ترجمة لعمر بن عبد العزيز تحت رقم 1820 في الصفحات 324 الى 397.
د. سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد ، لابن الجوزي (ت597هـ) دار الكتب العلمية- بيروت .
هـ. منهج عمر بن عبد العزيز في الإصلاح الاقتصادي ، الدكتور علي جمعة الرواحنة.
و. عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين تأليف عبد الستار الشيخ دار القلم دمشق سلسلة اعلام المسلمين رقم 40.
ز. عمر بن عبد العزيز معالم التجديد والاصلاح الراشدي للدكتور علي محمد محمد الصلابي ط1 دار التوزيع والنشر الاسلامية- القاهرة.
(2) رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاَّم في كتاب الأموال.رقم 636 ج1 ص 363 ورواه حميد بن زنجويه من طريق ابي عبيد في كتاب الاموال برقم 936 ج1 ص 566 تحقيق د. شاكر ذيب فياض.
(3) من موقع الاسلام سؤال وجواب تحت اشراف الشيخ محمد صالح المنجد.
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز على ما رواه الإمام مالك وأصحابه لعبد الله بن عبد الحكم (ت214هـ) (ص/ 65 ط عالم الكتب.
(5) هو يحيى بن دينار وقيل اسمه نافع (ت 232هـ).
(6) تاريخ واسط لأسلم بن سهل الرزاز الواسطي (ت292هـ). (ص/184)، تحقيق كوركيس عواد ط مكتبة العلوم والحكم/ المدينة المنورة.
(7) هو عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون، من فقهاء المدينة ورواة الحديث. توفي عام (164هـ)
(8) تاريخ دمشق لابن عساكر (37/388) ملفات وورد من على موقع ملتقى أهل الحديث http://islamport.com/d/1/trj/1/111/2454.html

الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]