18 ديسمبر، 2024 9:16 م

تجعلك كتابات كونديرا تحلّق في سحابة من البهجة الخالصة، من الدهشة والرؤى الملوّنة والخفّة.. والخفّة لديه قيمة إبداعية عالية، كما حددّها كالفينو في وصاياه للألفية الثالثة ( إلى جانب قيم أخرى كالبطء والدقة والاتساق )، قبل أن يغادر عالمنا بمدة قصيرة.. الخفّة التي تجعل النثر منقوعاً بالشعر والجمال والمعرفة.. هنا لا أتحدث عن رواياته، وواحدة منها أسماها؛ ( خفة الكائن التي لا تحتمل ).. رواياته التي تُمتّع بقدر ما تثير الخيال والأفكار، وتُشبع حاجات الروح. وإذن مَنْ ذا الذي يقرأ ( الخلود، والبطء، والحياة هي في مكان آخر، والهوية، وغراميات مرحة، وغيرها ) ولا يجد نفسه ملقى في دائرة السحر؟. في ذلك التيار العذب من اللعب، والمرح، والسرور، والحزن، والألم، والسخرية اللمّاحة، والمعاني العميقة، واللغة الرشيقة الآسرة الحلوة.. قلت، لست بصدد التحدّث عن رواياته، وإنما عن مقالاته. وكونديرا مقالياً بارع وفنان مثلما هو روائياً. وربما في كثر من مقالاته من الجودة الفنية ما تفوق جودة بعض من أعماله السردية. وإنْ كانت المقارنة، ها هنا، بين حقلين إبداعيين مختلفين، تستوجب شيئاً من التحفظ والاعتراض.

   لمقالات كونديرا نكهة خاصة.. إنه يكتب بتلقائية وثقة بالنفس من غير تكلف أو تبجح، لأن ما يكتبه في هذه المقالات يصدر عن ثقافة موسوعية ورؤية ثاقبة وحس جمالي مرهف، ليس في مجال اختصاصة السردي والروائي فحسب، وإنما في مجالات الفنون المختلفة لا سيما الرسم والنحت والموسيقى.. وكتابه “لقاء.. ترجمة؛ محمد بنعبود.. المركز الثقافي العربي.. الدار البيضاء ـ بيروت 2011” امتداد لكتب أخرى له في هذا الحقل كـ ( فن الرواية، الطفل المنبوذ، الوصايا المغدورة )، وفي كل كتاب من هذه الكتب يأخذك في سياحة خلابة بين لوحات الرسامين وألحان الموسيقيين وكلمات الشعراء والساردين.. كاشفاً عن وعي فني جمالي حاد بالغ النفاذية، لا يخلو من السخرية أحياناً، ويبعث على المتعة والانشراح في الغالب. فكونديرا متلقٍ ذو ذائقة حساسة راقية، وذكاء عجيب.

   دُعي كونديرا يوما ما لكتابة مقالة عن  بورتريهات الرسام فرانسييس بيكون.. كتابته عن لوحات الفنان هذا ستلهمه لإنجاز روايته ( كتاب الضحك والنسيان ).. يصف لنا كيف “تحط نظرة الرسام على الوجه، مثل كف عنيفة ساعية للاستيلاء على جوهره”. تماماً مثل حالته يوم كان شاباً والتقي بفتاة خائفة، مراقَبة ومطارَدة من قبل النظام البوليسي، فاعترته رغبة جامحة باغتصابها.. أن يستولي عليها “بشكل كامل، في لحظة واحدة”. ليخرق تناقضاتها الظاهرة إلى جوهرها، إلى: “ذاك الكنز، تبر الذهب، تلك الجوهرة المخبوءة في الأعماق”. قد يبدو هذا التشبيه غريباً، وحتى لا أخلاقياً. لكنها نوازع النفس الأمارة بالسوء وقد استطاع، ساعتها، كبح جماحها، لكنه لم ينس وقعها. وها هو بيكون يفعل ما يكافئ فعل الاغتصاب برسوماته للوجوه راغباً بنزع الأقنعة والوصول إلى المخبوء. إلى الأنا. “بورتريهات بيكون هي أسئلة حول حدود الأنا. إلى أي درجة من التحريف يبقى الفرد هو ذاته؟… ما هو الحد الذي تكف الأنا خلفه، عن أن تكون أنا”. ويعود كونديرا ليشير إلى علاقة التناقض بين بيكون وبيكيت وفنهما، وكيف تحدّث الأول عن الثاني. و”عندما يتحدث فنان عن فنان آخر، فإنه يتحدث ( بطريقة غير مباشرة ومواربة ) عن نفسه”. وبيكون، على عكس بيكيت لم يكن ناكراً لجميل أسلافه، وكان مقاوماً لدوغمائيات الحداثة. “والحال أن بيكون يعتبر نفسه منتمياً إلى تاريخ الفن بكليته. وأن القرن العشرين لا يعفينا من ديوننا لشكسبير” كما يقول.

   من ثمّ يلخِّص كونديرا مغزى فتنة رسوم بيكون، وما تخلِّفه من إحساس بالرعب، وهو ليس “الرعب الذي نعرفه، أقصد الرعب الناتج عن حماقات التاريخ، وعن التعذيب والحجز والحروب والمجازر والمعاناة. لا. يتعلق الأمر، عند بيكون، بنوع آخر من الرعب، ناتج عن الطابع الحادِثيِّ للجسد البشري وقد أزاح الرسّام عنه، فجأة، القناع”.

   يلتقط كونديرا أشياء قد تكون مهملة في نطاق اهتمامات الكتّاب.. أشياء وظواهر من مملكة الإنسان ومن الطبيعة، ومن عالم الفن والإبداع.. ففي سبيل المثال نراه يكتب عن الضحك، عن الضحك بلا سبب.. عن الضحك النادر والثمين، والضحك الذي لا يثيره شيء طريف وهزلي، والضحك الذي يوبِّخ.. وقبل ذلك يتساءل عمّا يجعل المرء يضحك؟.. إنه يجد تلك المفارقة في كون “الشخوص التي تضحك أكثر من غيرها لا تملك ميلاً للدعابة، بل على العكس من ذلك، تلك الشخوص هي التي لا تملك من ذلك شيئاً”. معتمداً في استقصاءاته على أبله ديستويفسكي الذي يمكن، بحسب تعبيره، أن نستخلص منه أنطولوجيا كاملة للضحك.

 *   *   *

  يقارن كونديرا، في كتابه ( لقاء )، ما بين ربيع براغ الذي توِّج بالاجتياح السوفيتي لتشيكسلوفاكيا، وربيع باريس الذي يُعرف بثورة الطلاب 1968. فالأول كان نتيجة تراكمات من الأحداث والضغوطات والأخطاء والقمع بدأت منذ السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية إذ أصبحت تشيكوسلوفاكيا جزءاً من المعسكر الشيوعي ووجدت نفسها طرفاً في الحرب الباردة. أما الثاني فكان انفجاراً غير منتظر بتعبير كونديرا الذي يصوِّر الربيعين بالقول: “كان ربيع باريس، الذي بدأ بمحاولة الشبّان أولاً، مطبوعاً بغنائية ثورية، أما ربيع براغ فكان مستوحىً من شكوكية الكبار، ما بعد الثورة”. وهنا يحكي عن ذكرياته عن تلك الأيام المشحونة بالتوتر والآمال.. “آه على سنوات الستينيات العزيزة”. وبنبرة متهكمة يؤكد أن النظام السياسي النموذجي من وجهة نظره هو النظام الديكتاتوري في طور تحللها، والجهاز البوليسي الذي يعاني الخور، فهما يحفزان الروح النقدية الساخرة.. وكانت هذه حالة النظام السياسي والبوليسي في بلاده قبل الثورة والاجتياح السوفيتي.

   كان في باريس يومها، تتناوشه الرغبة، أو كان مجبراً على العودة إلى براغ، فيما آخرون من أصدقائه يفكرون بالهجرة أبعد من باريس.. كانت القرارات صعبة ومصيرية. وأخيراً هم ذهبوا إلى منافيهم وهو اضطر للرجوع إلى حيث سيعاني الأمرّين، وتلك قصة أخرى.. المهم أنه سيخوض، بعد سنوات، تجربة ترك موطنه والهجرة.. سيذهب إلى باريس الذي كان ربيعه، مثلما يكتب عنه: “جدالاً فكهاً حول الثقافة الأوربية التي أُعتبرت مضجرة ورسمية ومتحجرة. أما ربيع براغ فكان عرضاً لتلك الثقافة نفسها، التي ظلت لمدة طويلة تختنق تحت غباء الإيديولوجية”. ويضيف كونديرا أن من بين دوافع الثورة في بلاده أيضاً؛ الدفاع عن المسيحية، وعن عدم التدين، وعن الفن الحديث.

   مثّل مشكل المنفى لكونديرا هاجساً دائماً.. أن تكون هناك، بعيداً عن موطنك، أو أن تكون في موطنك وتحلم بالمكان الآخر.. حين يكون الوطن سجناً مكفهراً فلابد من أن تشعر، أو تعتقد أن ( الحياة هي في مكان آخر/ عنوان رواية له ) وليست هنا.. تذهب إلى هناك وقد تسكن لغة أخرى، لغة الأمة التي استقبلتك ووفرت لك الأمان وحظوظاً جديدة للعيش، ( وهذا ما حصل معه على وجه التحديد، ورواياته الأخيرة كتبها باللغة الفرنسية ).. تنغمس في تيار حياة مغايرة لمدة قد يطول بانتظار أن يتبدل الوضع في موطنك الأصلي. وحين يتحقق حلمك تُفاجأ بأنك لا تقدر على العودة.. يتحول الماضي إلى طيف محض في الذاكرة. فيما يوفِّر المنفى مسرّاته ويكون بديلاً نهائيا، فلا وقت لتجربة ثالثة. والأوان يكون قد فات. وإلا، يتساءل كونديرا: “كيف يمكننا أن نفهم الأمر الصادم المتمثل في أن لا أحد، تقريباً، من الفنانين المهاجرين الكبار سارع بالعودة إلى بلاده، بعد نهاية الشيوعية؟”!.

  يخلق المنفى حساسية فريدة من نوعها، مواسية كما يسمّيها، وهو يتحدث عن كاتبة تشيكية منفية هي فيرا لينهارتوفا ترى أن هذه الحساسية اكتست بطابع أخلاقي فحُجب الطابع الحقيقي للمنفي الذي يحوِّل إبعاده إلى إنطلاقة محرِّرة نحو مكان آخر. وقد تكون حالة لينهارتوفا استثنائية بعض الشيء تعكس طبيعتها الشخصية التي تنزع إلى مغادرة المكان الأصلي إلى مكان آخر.. والتي تقول؛ “إنني أتعاطف مع الرحّل، فأنا أشعر أنني لا أملك روح إنسان مقيم. كما أن لي الحق في أن أقول أيضاً بأن منفاي قد أتى ليحقق ما شكّل دائماً أمنيتي الغالية: أن أعيش في مكان آخر”.

   والمثقف الذي لا يكون في مكانه، يمكن أن يلوذ بالإبداع الذي يتحوّل إلى موطن بديل.. يغادر عزلته وقلقه وشكوكه ليسكن في فنّه.

   يستذكر كونديرا حكاية شاب وشابة يهوديين التقاهما في مرحلة مراهقته بعد الحرب، وكانا قد عاشا سنوات في مدينة تريزين التي حوّلها النازيون إلى غيتو ليهود بينهم العديد من المثقفين.. وحين أبدى كونديرا مشاعر الخجل والضيق وهو يسمع قصتهما غضب الشابان وأفهماه أن “الحياة هناك كانت تحتفظ بكل مقوماتها، بدموعها كما بمزاحها، وبرعبها كما بلطفها”. كانت النازية تعرضهم أمام لجان الصليب الأحمر لتموِّه على جرائمها.. كانت ثمة حرية نسبية للمحبوسين هناك، ولم يرفضوها وهم يعيشون في غرفة انتظار الموت، كما يصفها كونديرا، لكن من غير أوهام.. وتلخصت إجابتهما الواضحة بأن “لإبداعاتهم ولمعارضهم ولحفلاتهم الموسيقية وحالات حبهم، وكل مشهد حياتهم أهمية أعظم، وبقدر لا يُقارن، من المسرحية الجنائزية لسجّانيهم. كان ذاك هو رهانهم”.

[email protected]