في مكالمة هاتفية، قالت لي القاصة الأردنية إنصاف قلعجي، إن طالبة جامعية عراقية، قادمة من أميركا لإنجاز فصل دراسي في اللغة العربية، بإشراف الدكتورة بلقيس الكركي، وتود أن تلتقي بك، وحددنا موعد اللقاء في مقهى فوانيس، الذي أقضي فيه ساعتين من صباح كل يوم.
وفي صباح اليوم الذي حددناه، وصلت إلى المقهى شابة مشرقة، لعلها دون العشرين من العمر، وتوجهت إليَّ مباشرة وقدمت لي نفسها فعرفت والدها، وكنت قد التقيته في مدريد، أيام كنت هناك في سبعينات القرن الماضي، وهو من مدينة سامراء المعروفة بعراقتها وحيوية أبنائها، وأخبرتني بأن والدها يقيم برفقة العائلة في ولاية كاليفورنيا، وهي أصغر الأبناء حيث ولدت في أميركا. كانت تتكلم العربية بمستوى طيب، يشوبه اختلال في نطق بعض الحروف، ليس من اليسير تبينه، وتتوقف بين الحين والحين عند بعض المفردات والصياغات، لتتأكد من دلالاتها.
وأخبرتني بأنها تعد للكتابة عن بغداد التي لم ترها، واللقاء بي فاتحة مشروعها هذا، فهي لا تريد العودة إلى ما كتب عن بغداد،
وستعتمد شهادات من ستلتقي بهم من أدباء وفنانين وأكاديميين وشخصيات اجتماعية، وأَدركْتُ من خلال أسئلتها، أنها تريد التركيز على طبيعة الحياة في بغداد بكل جوانبها، حيث كان الصفاء والحب والطموح والسلوك الحضاري، ما يجمع بين أبنائها، قبل أن يعصف بها الاحتلال، وما جاء به، فكانت جاهلية الجهلاء، وهذا ما عَرَفَتْهُ من قراءاتها ومتابعاتها وما سمعته من عائلتها ومن معارفها، فأرادت أن تتأكد منه وتكتب عنه.
إن هذه الشابة التي ولدت وعاشت بعيداً عن بغداد، تعرف عنها وتحمل لها من الحب الطاهر النبيل، أكثر بكثير من بعض ممن
يقيمون فيها ويعملون على تخريبها، واقعاً ورمزاً.
حينَ غادرتُ المقهى بعد هذا اللقاء، على موعد أن نلتقي مرة أخرى، تَذكَّرتُ تجربة من قبيل هذا اللقاء، كانت في بداية العام 1999،
يومها كنت في طهران لحضور مؤتمر وزراء إعلام الدول الإسلامية، وإذ كنت في فندق الاستقلال برفقة السفير العراقي الدكتور
عبدالستار الراوي، وهو أستاذ فلسفة لامع ورسامٌ وشاعر، وكنا لا ننقطع عن الحوار، والحوار معه مصدر متعة ومعرفة.
وقف حيث كنا نجلس في بهو الفندق شابٌ وسيمٌ، وسألنا بلهجة بغدادية هل أنتما عراقيان؟ فأجبته: نعم، هذا هو سفير العراق في
إيران، وأنا هنا في مهمة رسمية، واستأذننا في أن يشاركنا جلستنا، فرحبنا به، ثم بدأ يتحدث عن بغداد، عن أحيائها القديمة والحديثة،
عن شوارعها وجسورها وشواخصها وميادينها، عن بعض شخصياتها الاجتماعية وأَعلامها، ثم يسأَلُ فجأةً.. ما رأيكما بلهجتي العراقية
وهل هي صحيحة؟
فأجبته: إنها أحسن من لهجتي!
فقال: لقد ولدت وعشت في طهران، ولم أزرْ بغداد، وكل هذا الذي حدثتكما عنه، عرفته بالسماع والقراءة والمشاهدة، فوالدي تاجر
بغدادي كبير، شاءت ظروفه أن تكون تجارته هنا، فنشأت حيث كانت تجارة الوالد.
وأذكرُ أن الدكتور الراوي، دعاه لحضور نشاطات البيت الثقافي العراقي، وقد كان في قصر، هو من دون مبالغة، من أجمل قصور
طهران، اشترته وزارة الخارجية العراقية من أحد الأثرياء الإيرانيين، مما أغضب الشاه محمد رضا بهلوي على ذلك الثري.
إن بين اللقاءين تشابها واضحا، فكل من الشابة التي التقيتها في عمان، والشاب الذي التقيته في طهران، قد ولد وعاش بعيدا عن
العراق، وكلٌ منهما عاشت بغداد في عقله وضميره، وكل منهما يستحضرها بمحبته وصدق وعمق انتمائه إليها.
فأين من هاتين التجربتين الفريدتين، هؤلاء الذين يعيشون في البلاد، وينتسبون إليها بالحقد والضغينة والمزيد من التخريب؟ وما أكثرهم
في أوساط الحاكمين والمتحكمين في العراق الآن؟!
نقلا عن العرب