18 ديسمبر، 2024 7:14 م

على وقع أزيز نشرات الأخبار، واشتباكات الأنباء، وضحايا التقارير المصورة التي لا تعرف السكون منذ عقد او يزيد، استلمت رسالة أثارت الانتباه.

فقد كانت دعوة لحضور معرض فني أو هكذا قيل، وجاءت في هيئة مجسم نحيلٍ بدا للوهلة الأولى أنه متناثر الأطراف ومفكك الأوصال وغير متناسق، ولكن حين التمعن قليلاً يلمح فيه بقايا خارطة كانت قبل زمنٍ مثار ومدار الاهتمام، وسميت حينها (الوطن العربي)!!.

والغريب أن الأجزاء حين جمعتها لم تكوّن الدول المعروفة للجميع فحسب، بل أضافت لها عناوين أخرى هي حصيلة تشظي السنوات الماضية، والتي زادت على التقسيم المعروف عدداً وأضافت صعوبة على مستلم الدعوة ان يعيد الخارطة بسهولة كما كانت من جديد!!

عنوان المعرض: (كان يوماً وطن)، ومكانه اللا شيء، ولوحاته لن يضمها بناء بل ستجدها مرمية على قارعة الطريق هنا وهناك، فليس ثمة بناء يتسع لكلماتها المرسومة، مثلما انه ليس لمن كتمت انفاسه الامكانية ليقول ها أنا، إلا وسط الفضاء الشاسع الطليق الذي نفذ من الأسر ونجا من كمائن الأحداث!

سرت هائماً أبحث في الوجوه حتى وصلت مبتغاي، وهبطت بهدوء وحذر على المكان المقصود، فقد كان شعار المعرض قول أبي العلاء المعري (خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد)!! وليس ليّ في هذا المقام إلا الاصغاء لكل التعليمات والشعارات!.

ثم بدأت أطالع اللوحات باندهاش من لا يرى فناً فقط بل يلتقي عالماً بأكمله ينطق رسماً:

كانت اللوحة الأولى قد رسمت على قماش غريب، فاقد اللون وخشن الملمس وحاد الطباع، فلما سألت عنه قيل ليّ أنه أخذ من احدى خيام النزوح التي غدت لكثرتها وطناً لوحده يحكي ألف قصة وقصة للعذاب والشقاء ويعيد رسم خارطة العالم والأشياء، وليت شعري لو علم بهم الدكتور طه حسين لجعلهم مفتتح كتابه (المعذبون في الأرض)!!.

والثانية: تغطت باللون الأحمر القاتم إلا زاوية بيضاء رأيتها تزداد كل حين بشكل غريب جعلني أشك في نظري، جاءت هكذا بلا تفصيل إلا الصراع بين اللونين، إذ رسمت بحبرٍ جمع من اطلال سوقٍ شعبي عراقي التهمته قبل سنوات كالحات مضت المفخخات، فابتلعت حينذاك رواده وسكانه ووثقت لحظة اغتيال معنى البقاء، ورسمت ولاول مرة اختلاط الحابل بالنابل، ثم نطقت الزاوية المحاصرة بكيفية استعادة اللوحات ومعها الشعوب إذا امتلكت بياض الرغبة والارادة والوعي… الأنفاس!

والثالثة: كان ضجيجها عالياً وفوضاها كبيرة، اسمها الربيع العربي! لكن من رسمها يقول: لقد اتعبتني فبالكاد استطعت تجميع أطرافها ولملمة أقسامها، ويا للغرابة! فكلما وضعت اللون الأخضر لاوراق شجرها تحول إلى الاصفرار وتيبس في مكانه، فكأن الخريف هنا يعاندني ليكون هو الحاكم ويزيل أي اسم آخر، بل لم تفلح كل أثواب الربيع التي ارتداها تنكراً ان تقصي الدكتاتور الأكبر عن لوحتي التي بقي يرافقها أغتيال كلمة الشعوب الحرة وإشاعة لغة البؤس والخراب!

والرابعة: كانت تصور اكواماً من الحجارة، قيل أنه كان يوماً بيتاَ لمن كان لهم وطن، سلب في غفلة من الليل، ثم أمطرت عليهم الطائرات حمولتها وكانت للأمانة من أجود الأنواع، مما خف حمله وزاد فتكه، وقدمت بكونها الوصفة البديلة للاستبداد، فإما ان تعيش وانت منزوع النبض والروح وإما ان تعيش تحت الأنقاض؟ فأي صفقة هذه… بل أي حياة؟!!

والخامسة: تشققت اوراقها، تروي قصة زهرة لم تستطع كتم صراخها الذي مزق الأوراق، قيل ان الذئاب تعاقبوا عليها اعتداءً في الصحراء المقفرة الموحشة حين التقى خسوف القمر مع كسوف الشمس وضاعت البلاد في عتمة الليل البهيم شديد الظلام!

والسادسة: تصوّر عفريتاً ظهر وهو ينوء بتعب قرنٍ من الاستلاب، يتثاءب ضجراً، ولسان حاله يقول: هل ما زلتم تنتظروني ايها العرب؟! (شبيك لبيك) أيها العربي الحالم بحقوقك، اطلب اي شيء الا حريتك فهي بين يديك!!

أحسست بعد كل هذا بالدوار الذي ألقى بيّ عند لوحة الختام، وجدتها بيضاء ناصعة ساكنة، عنوانها الخلاص، أوراقها تعود إلى ما قبل الميلاد، تريد ان تقول لك ألا أعمق من تلك الجذور الراسخات، فكأنه ما زال وليداً لم ير النور، ومشروعاً له فقط العنوان ولم يمتلىء بعد بالتفاصيل ولا الأدوات، وينتظر من يمنحه المضمون ويرسم له الخطوات.

تشجعت وقتها وأمسكت قلمي، وكتبت على اللوحة البيضاء رسالتي:

لن يكون مشروع النجاة إلا عربياً بلا أهواء..

ولا بد من رسام شجاع لم يعرف غير الوطن انتماء، وريشة محلية الصنع، وأرضية بيضاء كانت يوماً عنوان الوطن قبل أن تباغته خفافيش السواد..

ولا بد من معرضٍ ترسم فيه الكلمات حرية وحقوقاً وعدالة تنبت على أساسها ثمار الغد المتحرر من الأصفاد..

ولا بد من بناء مجتمع الخير النابض بالروح، المكافح من أجل استرداد الذات، فهو الكفيل بمواجهة سيول الشرور، وذلك لن يكون إلا ببناء الإنسان مكتمل الصلاحيات، ليعيش بسلام على أرضه المتعافية من الظلم، والسائرة نحو فجر الخلاص..

ولا بد ان تلتقي الأيادي مهما اختلفت عناوينها والوانها على مستقبل سواء، لتعيد تجميع الوطن المفكك وتسترجع القوة الشاردة مهما غدت أثمان ذلك غالية، فالفرقة ستبقى دوماً ضعفاً وليس هناك أبلغ من اجتماع والتقاء قوة الأشقاء!

ثم كتبت قبل ان أرمي في مهب الرياح توقيعي: ودون كل ذلك كله ستظل لوحاتنا تكعيبية أسى، تجريدية من معنى الحياة، سريالية النظر، سوداوية المداد، محطمة سفينتها في بحر الظلمات، غرقى أهلها في الماضي السحيق بلا غدٍ ينتظر ضوء أنفاقه التائهات… بلا انقضاء!