بعض المناسبات تتحول إلى مفتاح للحديث عن أشياء أخرى أعمق وابعد غورا بحيث تمت بصلة واهية إلى سبب المناسبة نفسه. فقارئ كتاب (هتلية) لشوقي كريم حسن يبدأ بالتساؤل، كما سنفعل في مقالتنا هذه، عن الكتابة وجدواها، والتجنيس، وعن طرق التعبير بشكل عام أكثر مما يثيره الكتاب نفسه.
بالطبع، طرق صياغة العنوان لا حصر لها ولا يمكن أن تقولب في شكل ما. يمكن ان تكون جملة كاملة أو عبارة أو كلمة معرفة أو نكرة، كما يمكن أن تستثمر اللهجة أو المثل. لكنها في جميع الأحوال يجب أن تحيل إلى شيء داخل أو خارج الكتاب كي يكون لها جدوى، وكي تؤدي وظيفة ما. عنوان الكتاب (هتلية) والذي صيغ كي يكون صادما، مجانياً في محاولة لتحقيق الدهشة. لكن ما يعاب على صيغ كهذه أنها لم تعد صادمة. فالقارئ يتعرض، سواء في حياته أو على شاشة التلفاز أو الانترنت إلى جمهرة من الألفاظ التي تغدو أمامها لفظة (هتلية) عارية عن التأثير. وما يجعل هذا العنوان مؤثرا هو تلك الشبكة من العلاقات التي يقيمها مع المتن؛ إضافة إلى عدم القابلية على استبداله بلفظة أخرى دون الإخلال بالكتاب. مع عنوان كهذا، ووفق البناء العام، يبدو أن قابلية استبداله لا نهائية.
ثم، يطرح موضوع التجنيس في (هتلية) على اعتبارها ليست رواية، وكأن نفي كينونة الشيء تأكيد على كينونته. فمن أين جاء افتراض أنها رواية بالأصل كي تتم عملية النفي. ولماذا ليست رواية؟ يبدو أن محاولة التخلي عن التجنيس تتبع موضة العنوان في محاولة الإدهاش، وكذلك تجنب مسئولية
الجنس الأدبي المفترض. ففي حال كونها رواية؛ تصبح عبارة (ليست رواية) خالية من المعنى، وفي حال كونها (ليست رواية) فعلا؛ تتناقض بعض مفاصل البناء معها. إن اقرب شكل للكتاب هو الإنشاء أو ما يشاكل مادة التعبير في المدارس لكن بشكل مطول وبشعرية أعلى، فهو يفتقر إلى الأسلوب ويبدو تجميعا لانثيالات وذكريات ونصوص متباعدة العلاقة وقصص قصيرة وحواريات مضمخة جميعها بشعرية فائضة (رغم أنها عميقة أحيانا)، إلى درجة أنها تصبح قصائد نثر مكتملة في بعض المواضع؛ من غير أن يؤدي هذا التنوع إلى وحدة منسجمة متماسكة. فالسيل المتدفق من العبارات والجمل التي لا ترسم فضاء يمكن أن تعيش وتتنفس فيه القراءة يؤدي إلى هبوط مستوى التبادل بين النص والمستقبل. يسري الكتاب بشكل أفقي، ويتمدد بشكل أفقي، بحيث يفقد عنصرا من أهم عناصر أي فن أو أدب: التعليق، مما يسبب خيبة أمل في القراءة. لولا التعليق لما تحققت المتعة أو لذة النص بتعبير بارت، وهي وحدها التي تجعل القارئ ينتقل من غلاف الكتاب الأمامي إلى غلافه الخلفي برشاقة وسلاسة وتلهف. فقد كتاب (هتلية) التعليق لأنه إنشائي لا يبني عوالم قابلة للتواصل.. وهو نوع من نقل القيم أكثر من خلق الإيهام.
ويأتي سؤال الشكل لكي يعزز فكرة المجانية المهيمنة على فضاء الكتاب. غياب وظيفية اي شكل من أشكال التعبير سواء كان واقعيا أو رمزيا يسبب اختلالا في البنية، ويضع التبرير في خانة التساؤل.مثلا، الاختلال في العنونة الداخلية واستخدام اللهجة. فيما يخص العناوين الفرعية فإنها تفتقر إلى الضرورة، ويمكن أن تنتقل أو تتبادل الأمكنة مع غيرها من العناوين، بل يمكن حذفها فلا تعود العنوان متعالقة بما هو تحتها أو منضو فيها. حتى توزيع العنونة يعاني من عدم التوازن: فبينما ترادفت العناوين في الصفحات الـ(24) الأولى؛ كادت أن تغيب كليا خاصة من صفحة (94) حتى نهاية الكتاب. وفيما
يخص استخدام الحوار باللهجة العامية -في هذا الموضع أو ذاك- لا يوجد مسوغ جوهري، ناهيك عن عسر الانتقال من اللهجة إلى الفصحى وبالعكس..
هناك حالات يفقد فيها السارد التواصل مع القارئ؛ بالأخص حين يعتمد على الشعرية فيصبح غير مؤهلا للثقة، حيث يضع المجاز الشعري حاجزاً يفصل العوالم ويؤدي إلى التجزئة على عكس النمط السردي الذي يميل إلى الائتلاف. يزداد فقدان الثقة حين تحل الريبة خاصة إذ يقيد السارد البوح القصصي في فضاء الشعر. كتاب (هتلية) تجسيد على عدم الثقة هذه؛ وبالتالي انتفاء نقاط التماس بين لغة النص ومستقبله. ويؤدي بنا ذلك إلى السؤال السلبي: إلى أي مدى يمكن لذاتية السارد أن تخلق مشاركة كونية؟
إجمالا، يعاني الكتاب من الإسهاب والتعبير المجاني، وإمكانية أن يمتد إلى ما لا نهاية؛ لأنه غير مبني على نمو عضوي، وتشكل الفوضى إضافة إلى انفصال الأجناس الداخلية علته الرئيسية. كذلك، يعرض الكتابُ الفكرَ ليس في مرحلة الاكتشاف؛ بل في كونه قاراً قد حدد مساره ولم يعد هناك ما يكتشف.