18 ديسمبر، 2024 10:56 م

قراءة بالتحاور النصي : حميد الأمين في روايته ( تحت سطوة الحب)

قراءة بالتحاور النصي : حميد الأمين في روايته ( تحت سطوة الحب)

إلى أخي الكبير وأستاذي الناقد جميل الشبيبي
قراءتي للنصوص، تتمرد على مخطط القراءة النوعية الذي اعده بعد قراءتي الأولى، التي تغويني بقراءة ثانية للأعمال الادبية العميقة، ومنها(تحت سطوة الحب) للروائي حميد الأمين، التي وفرت لي كل أسباب الإمتاع والمؤانسة
أثناء قراءتي الثانية : التلقي يجري تحاوراً بين النص الذي أمام عيني وذاكرتي وبين نصوص شمسها لا تغيب بل تسطع أثناء القراءة، هذا السطوع لا يقلل من شأن النص المقروء للتو، فهذا المقروء ليس صدى بل هو الصوت الجديد الذي يريد تفردا له يوازي طموحه، كما أنني ليس بمقدوري أن أكبح تحاور ذاكرتي التي تختزن مكتبات بسعة نيف ٍونصف قرن من القراءة المتأنية الدؤوبة..
(*)
في الصفحة الأولى من الرواية تأملتُ السطر الثامن وبالقلم الجاف الأحمر وضعتٌ خطين أحمرين تحت الوحدة السردية التالية
(أتممتُ السبعين عاماً من عمري وما زلتُ أنتظر علاء انتظار فتاة يافعة يأتيها حبيبها على صهوة جواد أبيض..) !! امرأة عراقية مغتربة في أقصى الأرض تتمرى على حافة مياه المحيط الأطلسي وهي في أقاصي خريفها وتحلم ُبسذاجة مراهقة ما قبل الفيسبوك !! وهذا الحلم المتخثر للمرأة جعلني أذكرّ ماركيز في (الحب في زمن الكوليرا) .. وحين أنتهيت من القراءة الثانية للرواية رأيتني أمام امرأتين : (مدام بوفاري) للروائي غوستاف فلوبير. ودلال بطلة رواية حميد الأمين (تحت سطوة الحب) فالشهوة الجامحة متوفرة في الشخصيتين النسويتين والتمرد على أنظمة السلوك الجمعي والسبب الثانية هو تشابه الزوجين : زوج مدام بوفاري وزوج دلال.. لكن مدام بوفاري نفذّت في نفسها الشجاعة الهدّامة وقررت الانتحار
)*)
دلال تخبرنا بالكلام التالي (لقد مر أكثر من أربعين عاماً منذ فراقنا تحت جدارية فائق/ 6) وهذا يعني ان كل ما سوف نقرأه تداعيات ذاكرتين . أحداهما ذاكرة دلال وهي ذاكرة مصابة بمرض تثبيتات السعادة وبنكهة لا تخلو من سحرية ماركيز والتي لا تخلو من الخرف فهي امرأة بالسبعين
وتريد عجوزا اسمه علاء كان عشيقها قبل أربعين عاما (وأنا الآن بوحدتي القاتلة أحتاج علاء كثيراً فهو من يزيل عني رتابة الأيام وقسوة الغربة)!! ويعلو منسوب خرف العشيقة العجوز حين تتصور أن بمقدور العجوز علاء أن يجددها وبالحرف الواحد، وكما تقول دلال(ويُعيد ألق الحياة الذي بدأ يخبو)!! وهناك التمادي بالخرف في قولها(وليس سبب حنيني الحاجة لرجل يحميني فالرجال هنا كثر وأنا ما زلتُ أتمتّع بمسحة بارعة من الجمال../ 6) !! عجوز بالسعبين تعلن التصابي بشكل مقزز.. وتخبرنا دلال أن علاء انفصل عن زوجته وأن زوجها مات ويمكن لهما هي وعلاء أن يعاود العشق وربما الزواج وها هي تصوغ حيرتها وشوقها سؤالا (فكلانا وحيدان وقد نبت الريش على أطفالنا الصغار وطاروا بعيدا عنا….. فمن يبدأ الخطوة الأولى نحو رفيقه، هو أم أنا؟ هو تركني وحيدة مع أحزاني، ولو خطوت أنا ورفض استقبالي ففي هذا ستحل نهايتي)!! عن أي نهاية تتحدث هذه العجوز ثم تخبرنا( إذ أنّ قلبي الذي تحمل الكثير من الصدعات عندما كنت شابة لا يستطيع الآن الصمود لمثل هذا الازدراء)
(*)
في ص187يخبرنا علاء (عند ساحة التحرير انتهت قصتي مع دلال مثلما أنتهى الغرض من إقامة نصب جواد سليم ورسم جدارية فائق حسن وهم في القبور) وللمكان هنا دلالة باذخة لدى علاء في هذا اللقاء الأخير (تعمدتُ أن ألتقيك هنا في ساحة التحرير، في هذا المكان المحبب لنا والذي طالما شهد أحاديث عشقنا عنفوان عاطفتنا لعله يخفف من ألم الفراق الذي فرضته علينا الأقدار..)
(*)
تمتلك الرواية سيرورة تراجعية فهي تبدأ من النهاية وتنتهي بها وهكذا يكتمل تدوير حركية الفعل وليس تدوير السرد
(*)
تتكشف عبقرية المؤلف حميد الأمين بتوفير كل أسباب التشويق الروائي، وكذلك تمكنه من تقنية التعديد الصوتي، وحصة الأسد لصوتيّ العاشقين : دلال المتزوجة والأم / و عشيقها علاء المهندس الأعزب المتعاطف مع اليسار العراقي
(*)
التقنية ربما تعيدني الى تعددية صوتية ابدعتها فرجينيا وولف في رائعتها الروائية (إلى الفنار) لكن المدهش في مهارة حميد الأمين هو الانشغال المكوكية بين الشخصيتين وقليلا على صوت زوج دلال. والصوتان منشغلان بعشقهما فقط، لا يتداعى كلامها إلى سيرتهما قبل التلاقي وليس من كلام يتداعى نحو العائلتين بإسراف سردي
(*)
زوج دلال لا يختلف عن الطبيب شارل بوفاري زوج إيما التي هي مدام بوفاري: كلا هما من الشخصيات الثقيلة الدم. ماهران في عملهما لكنها يمثلان الإنسان بالبعد الواحد : دلال تصوغ ظهور علاء في حياتها هكذا (ظهر علاء في حياتي ممتطياً حصان أبيض ودراجة وموتو سايكل وسيارة وباخرة حربية وحتى غواصة ليقتحم قلاعي ويستولي على حياتي/ 7) لم تكن دلال شخصية منغلقة أو متشددة أصولية، فهي منفتحة تعيش حياة لذيذة مع زوجها وأصدقاء زوجها وتقيم حفلات ٍ مستمرة ً في بيتها، وتوصيفها يليق بمخيلة ساذجة مقارنة بمعايشة أصناف البشر في حفلات نهاية كل أسبوع في بيتها، وبالمقابل مدام بوفاري كانت تحلم بشرفة قصر في سويسرا تطله منه على الحياة . وكلاهما يمتلكان السذاجة نفسها
(*)
كما حرر العشيق ليون حياة مدام إيما من انجماد شخصية زوجها الدكتور شارل بوفاري، فقد حررت نيران علاء حياة دلال من زوجها الطيني الذي تصفه هكذا ( بقي طينا كما صنع الله أول إنسان وما بقية أعضائه التي أنبتها الله في جسده إلاّ كما يضع الأطفال الأنوف والأفواه في تمثال طين كنت أراه صنما من الطين صنعه مبتدئ … صنما لا يمكن عبادته حتى عند أقدم عصور الجاهلية) وهكذا جاء علاء ناراُ وقلب حياتها المستقرة على الطين وأوقدها في تنانير النار وهذه النار هي التي أوقدت/ أيقظت حياتها ودمرتها
ومن هذه النار صنعت دلال لنفسها مرايا شبقية تستفز فحولة الكل (كنت أشوى على فرن من طين لأكون أشهى طبق حلم به الرجال/8) وهي تعترف قائلة (فأنا أحب أن أكون محط أنظار الرجال الجالسين/ 17)..امرأة لذة لا تكترث لسواها، وبعظمة لسانها تعلن أن الوقت كان عصيا على العراقيين وعوائلهم والحكومة تحصي على المواطنين أنفاسهم وخطواتهم ويقظتهم واحلامهم وتلتقط كلاب الحكومة المواطنين من الشوارع والبيوت ومن دوائرهم أما دلال وبشهادتها(إلا أن ذلك لم يكن له أثر في حياتي الجديدة فأنا قادرة على أن أحيا في كل العصور/8) وتخبرنا دلال من خلال عشيقها علاء كيف انتشرت اغتيالات السلطة في هواء الشوارع لمن لا ترغب بهم وضاقت السبل بالشرفاء. إلاّ دلال فهي تخبرنا( كل هذا الرعب الذي عم البلاد لم يكن يعنني، فالتمتع في الحياة يجري في كل الأوقات إلا لدى الخائفين الذين لا يرون غير الجحيم. لم تصبني الأحداث بسهامها التي ألبست النساء السواد، فأنا ما زلت أرتدي الملابس الملونة القصيرة وأسرّح شعري الاشقر وأتبختر في الشوارع كالطاووس ما بين الغربان / 25) ..وبغواية لسان شهريار وليس شهرزاد كانت الزوجة والأم دلال وبشهادتها(كنت أصغي لعلاء طوال يوم كامل وهو يتحدث وبعدها أتركه يفعل ما يشاء، وكأن حديثه الطويل بمثابة عقار يخدر جميع حواسي ويجعلني أترك أطفالي في الليالي الباردة وأذهب معه إلى دفء الفراش/ 10) وكان ذلك أثناء حرب السنوات الثمانية والقصف الشديد وأطفال دلال يصرخون تتسرب أصواتهم من سماعة التلفون وهي تخبرنا(كان المتكلم زوجي المرعوب من صراخ أطفالي الذين يطلبونني الآن../ 11) وحين يوصلها علاء إلى بيتها تخبرنا دلال( طلبتُ من زوجي مرافقة الولدين الآخرين إلى الغرفة المقابلة ودخلت مع صغيري وعلاء غرفة النوم، تكورت حول صغيري أحتضنه فيما قام علاء باحتضاني من الخلف../12).. تواصل دلال كلامها (لا أدري هل أن زوجي قد سمع صراخي تلك الليلة؟ أم خشي من سلاح علاء الذي رافقه وقتها أم أن انتهاك بغداد كان أشد وطأة عليه من انتهاكي قربه) !! لماذا دلال تقارن نفسها برمز حضاري هو بغداد؟ ثم دلال لم تنتهك فهي زانية قبل هذه الليلة، وكانا هي وعلاء يمارسان الزنى في بيت علاء وبموافقة أسرة علاء وهي ليست عاهر بل زانية (أني زانية هذه الكلمة (زانية) أشد بشاعة من لفظ القحبة، فالقحبة تمارس الجنس أمام الملأ دون المساس بها بل أن عُلية القوم هم من يتوددون للعاهرات الراقيات فحتى الدعارة لها درجات أما الزانية ففي كل الأديان تُعامل كما تعامل النعجة العرجاء بين القطيع… فقد رجموها حتى الموت عند اليهود أما الإسلام فعقاب الزانية مائة جلدة / 15)
(*)
عشيقها علاء لا يقل عنها نرجسية، تكاد أن تجعله نخاسا فهو تصيبه الخيلاء وهو يعرضها أمام أنظار الجالسين المتزوجين من نساء دميمات، ولا يتورع من أخذها الى شقق أصدقاءه المكتظة بعاهرات الضباط زملائه وبيت دلال ماخور مسلفن (في عطلة نهاية الأسبوع يسهر معنا أصحاب زوجي وكان الرجال يتوددون لي منذ بداية اجتماعاتنا العائلية إلا أن توددهم كان يأخذ شكلا من التلميح، إلا انهم وبعد أن علموا بما بيني وبين علاء أخذوا يحثونني على ارتكاب الرذيلة وزاد نفور زوجاتهم مني خلال تلك الحفلة التي كان الرقص وشراب الكحول ملازما لها/ 30)
(*)
في ص39 يكمن الفعل المضمر النصي والذي سيتكشف لنا في ص152
المعلن في ص39 هو الكلام الذي يدور بين علاء ودلال حين تشكو له عن زوجات أصدقاء زوجها، فيطمئنها قائلا (قبل نهاية السهرة سوف يضاجع جميع نسائهم) فترد عليه دلال (أنكم بهذا الفعل تحاكون رجال الأمن الذين يغتصبون النساء المناضلات الصامدات بوجه التعذيب، هكذا استبدلتم هذه الممارسة الجميلة واللذيذة إلى أداة قهر) وكلام علاء لا يختلف عن كلام في رائعة الطيب صالح الروائية(موسم الهجرة إلى الشمال) يقوله مصطفى سعيد : سأحرر أفريقيا ب………ي. كلما أمتطى امرأة في لندن. في رواية (تحت سطوة الحب) يرتد السهم على الرامي بخصوص ما يتوعد به نسائهم
عندما يلقى القبض على علاء بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي ويمكث شهورا في السجن وبعد محاولات من عشيقته دلال يكاشفها ضابط التحقيق
(ما أريده منك أيتها الفاتنة أن أقضي معك ساعة في الفراش، ومن ثم أقوم بإتلاف ملف علاء أمامك / 152) وهكذا سيتم تسقيط و إطلاق سراح علاء الذي لا يمت بأية صلة حزبية مع الحزب الشيوعي العراقي.. وهنا تنتهي الرواية الرائعة التي صاغها بمهارة عالية الجودة الروائي حميد الأمين وفضح الشخوص بسرد موضوعي تميّز بالحيادية وما بعد ص152 محض هوامش ضرورية تقتضيها حرفية السرد حتى ص203
*حميد الأمين/ تحت سطوة الحب / دار المكتبة الأهلية/ البصرة – بيروت/ ط1/ 2022