23 ديسمبر، 2024 5:03 ص

قراءة ادبية تحليلية موجزة للجانب الانساني في رواية فرانكشتاين في بغداد …..

قراءة ادبية تحليلية موجزة للجانب الانساني في رواية فرانكشتاين في بغداد …..

قرأت رواية فرانكشتاين في بغداد على مدى ثلاثة ايام شعرت ان هنالك رغبة جامحة تجتاحني كي اعيد قراءة فصول الرواية من جديد وهذا ما كنت افعله اقرأ فصلا وانتهي منه وقبل ان ابدأ بقراءة الفصل الذي يليه اعود الى الفصل الذي سبق وقرأته …..
لا اعرف انتابتني عواطف عديدة ومشاعر غريبة الاطوار واحاسيس رائعة بل ساحرة فمن خلال هذه الرواية تذوقت طعم بغداد الذي حرمت منه في طفولتي شعرت انني اعيش مع شخوص الرواية بكل تفاصيلها …..
فمن خلال رحلتي مع القراءة والمطالعة التي فرضتها على شخصيتي الابداعية كشاعر وقاص وكاتب قرأت العديد من الروايات بعضها تأثرت بها فكريا بعضها اندثرت بين سطورها حالة العصبية والانفعال بعضها وقفت بحيرة امامها وتمنيت لو كنت امام مؤلفها كي اقول له لم تنتهي روايتك فيها المزيد من الفوضى اتمنى ان تسردها في عدة فصول اخرى تحت نفس الاسم لكن بجزئها الثاني …..
لكن فرانكشتاين في بغداد الهبت ذاكراتي وربما ابعد منها وجعلتني اعيش نشوة الكلمة الزاهية والمعطرة بالادب الحر فنحن الشعراء والكتاب لا نتأثر بسهولة بما نقرأه ربما نهضمه فكريا كي نحصل على طبق شهي يرضي طموحاتنا الابداعية لكن ما ان نتأثر بقصيدة او قصة قصيرة او مقالة او نص مفتوح يجن جنونا وتصدح صرخاتنا في فضاء الابداع هذا ما حصل معي في رواية فرانكشتاين في بغداد …..
جن جنوني واختزلت كل مشاعري واحاسيس في لحظة فارقة بكيت احيانا لأنني شعرت بحجم الوجع الهائل الذي يدونه الروائي احمد سعداوي على الورق فهو يكتب بجوارحه الخارقة للعواطف كي يلملم صورة الواقع الذي عاشته بغداد البارحة وربما اليوم رأيت كم يعاني الانسان البسيط في ظل شبح الارهاب قسوة الحياة ومرارة احلامه النقية …..
تعاطفت مع شخصية محمود السوادي وهادي العتاك ونوال الوزير وباهر علي السعيدي وعزيز المصري وابو انمار وفرج الدلال وشخصية ( الشسمه ) والعجوز ايليشوا والقائمة طويلة فكل هؤلاء ضحايا الارهاب …..
لكن هذا هو العراق ….. العراق العظيم الذين يتكلمون عنه فرواية فرانكشتاين في بغداد جسدت ملحمة بطولية يعيشها المواطن العراقي فرحا وحزنا فهي رواية استثنائية واضفت شيئا جديدا على فحوى عالم الروايات فالقصة مختلفة ولم يسردها قبل الان اي كاتب روائي وشخوص الرواية يختلفون كليا عن باقي شخوص الروايات التي قرأتها لأنهم ما زالوا احياء فهذه الشخصيات رغم كونها من خيال الكاتب الا انها موجودة على ارض الواقع وبالذات في بغداد فالاجواء العامة والفوضى المنتشرة وعدم استقرار الوضع السياسي هناك صنع فجوة وبؤرة لولادة هكذا شخصيات فالروائي احمد السعداوي قلب الطاولة رأسا على عقب من خلال هذه الرواية المفتوحة على مصراعيها لتقبل كل شيء يحدث في بغداد او في اي عاصمة من عواصم العالم التي انهكتها الحروب ربما حصلت في برلين في يوم ما او ربما كانت لندن او باريس او دمشق او بيروت …..
فمن الناحية الفنية استطاع الروائي ان يغير وجه الرواية العربية بصورة عامة وان يصنع لها طريقا اخر غير الطرق المعروفة فكل الروايات التي سبقت فرانكشتاين في بغداد كانت تمثل التكامل والاندماج في حلة نص مفتوح طويل يمسى بالرواية فالحب هو ذاته والالم ذاته والعشق ذاته والجنس ذاته كنت احاول ان اقرأ شيئا جديدا يضفي على ذاكراتي الاثارة والفوضى مزيدا كي انفعل واثور اكثر حتى اواصل الابحار بكلماتي وحروفي ضد الحضارة التي حطمت كرامة الانسان وما ان اخترقت سطورها شعرت انني امام حروف وكلمات غريبة الاطوار لم استطع تجاوزها ببساطة لأنني عشقتها من القراءة الاولى والنظرة الاولى …..
رواية فرانكشتاين في بغداد لا يمكن كتابتها في كل الازمان بل هي كالايقونة الماسية الملساء لا يمكن الوصول اليها في اعماق الجبال وان وصل الانسان لها تذوق طعم انتصاره على ذاته من خلال حصولها على الايقونة فهي رواية متكاملة الزوايا والجوانب من حيث الاماكن والشخوص وتركيبها الفوضوي وطريقة الكاتب في سرد الاحداث بشيء من الغموض وصولا الى ما هو اكثر غموضا …..
احيانا كنت انسى انني اقرأ رواية وفي نفس الوقت كنت اشعر انني اشاهد مقاطع هذه الرواية في فيلم سينمائي من خلال خيال ذاكرتي الواسع فلقد لمست فيها كم هائلا من كل شيء المشاعر والاحاسيس والفرح والغضب والارهاق والتعب ومعاناة الانسان البسيط وهو يواجه يومياته اليائسة المليئة بالمغامرة والشهوة التي يغلب عليها طابع الاغراء للوصول الى الامل المفقود من فوضى الحياة …..
فالرواية ناضجة فكريا ومليئة بدسم النضوج الادبي فهي عبارة عن عمل ادبي راقي ومتميز ولكي اكون عادلا في رؤيتي لها فهي رواية تحمل الكثير من الخيال والابتكار الذهني والعقلي لكن هذا هو الكاتب الحقيقي عندما يكتب بصدق فهو يحول ما يكتبه الى حقيقة رغم عدم وجود هذه الشخوص والاحداث الا في مخيلته هكذا يروي لنا احمد السعداوي فصول روايته الحزينة التي ارهقتني واتعبتني فكريا لكن اعطتني في ذات الوقت جرعة من الابداع يدوم مفعولها في شخصيتي كمبدع دون ان ينتهي …..
قبل ان اقرأ رواية فرانكشتاين في بغداد كنت قد قرأت بعض صفحات رواية لقيطة استانبول للرواية التركية اليف شافاق هذه الرواية الرائعة التي صدرت بالانكليزية وتمت ترجمتها للعربية لكن قررت ان اقرأ جديد ما احضرته واشتريته من كتب عند زيارتي لمكتبة المدى في اربيل فبدأت بقراءة فرانكشتاين في بغداد كنت اعتقد انني سأقرأ بعض صفحاتها واعود الى رواية لقيطة استانبول لكن خانتني ذاكرتي وبقيت اغوص في اعماق هذه الرواية لأنها امتلكتني روحا وجسدا …..
فرانكشتاين في بغداد رواية انيقة جدا في طرح قضية الوجع والالم الانساني وهذه الاناقة نابعة من شخوصها واماكنها واحداثها المتسلسلة الناعمة التي تبعث حالة من الهذيان الفكري نحو سطورها الغامضة فهذا العمل الادبي المخلوط بالفكر والفلسفة الوجدانية يستحق ان يطبع مرارا وتكرارا كي تكتسب صفة المواطنة الادبية بكل الجنسيات فهي حاملة البوكر العربية لعام 2014 وتستحق البوكر الانكليزية واذا ما وجدت البوكر في كوكب زحل والمشتري فهي تستحق ان تنالها لما تحمله من معاني انسانية نقية وصافية وعذبة رغم ان اجواءها لا توحي بذلك بسبب الدمار والقتل وسفك الدماء والمأساة التي تسردها بلكنة ولهجة مهذبة تضفي نوعا من الوعي والادراك الانساني متمثلة بالوجع والالم …..
بقي شيء واحد كي تكتمل فصول هذه الرواية الا وهو تحويلها الى عمل سينمائي عالمي وهذا يقتضي بعض العمل والمثابرة من كاتبها فمثلما استطاعت هذه الرواية ان تكسر حاجز الطبعة الاولى وصولا الى العاشرة كي تصل الى عشاق الثقافة والادب والفكر فيجب ان تكسر شباك التذاكر عبر فيلم سينمائي يسرد الاحداث بالصوت والصورة بعدسة الكاميرا …..
فالرواية تستحق ان توثق كعمل ادبي متميز ضمن مكتبة الاعمال الابداعية العالمية …..
قد يتسائل البعض لماذا لم اتناول الجانب السياسي في الرواية لكن ارد عليهم ان اي عمل ادبي يجب ان يفسر ويحلل بطريقة ادبية بعيدة عن السياسة فالرواية قبل كل شيء تتحدث عن اشخاص واماكن وطريقة عيش وطريقة تفكير ومعاناة في الحصول على لقمة العيش وصولا الى اسرار وخفايا الذات كالبخل والحسد والجنس والشهوة لكن هذا لا يمنع ان الرواية بمجملها تسرد الواقع السياسي في بغداد في فترة ما بعد سقوط البعث الفاسد لكن بطريقة درامية احيانا وميلودرامية احيانا تكسبها صفة الانسانية بعيدا عن السياسة …..
فشخصية الشسمه الشخصية الرئيسية في الرواية خلقت وصنعت بفعل الارهاب الذي اجتاح بغداد هنا الكاتب يتكلم بصفة عامة ويعرف الارهاب في صورة الشسمه على انه المدافع عن الانسان البسيط الفقير والبريء ضد الارهاب اي للقضية وجهان انسانية وسياسية لكن فضل الكاتب الغوص والتعمق في الناحية الانسانية وينطبق الحال على كل شخوص الرواية …..
لذا ذاكراتي الابداعية دائما تكون منحازة للعمل بصورته الادبية بعيدا عن السياسة رغم ان العمل برمته اضافة الى كونه ادبي صرف وبحت لا يخلو من الاشارات وعلامات الاستفهام السياسية التي تصب في النهاية في الارهاب على انه المدمر الوحيد لما تعانيه بغداد من مأسي وكوراث …..
الرواية في منتهى الروعة والسحر انصح بقرأتها مرارا وتكرارا واذا ما كنت اقول هذا الكلام فهو نابع من ذاكراتي الملتهبة بفحوى نصها المفتوح وعمق الكاتب في خلق اجواء ملحمية مليئة بالمأساة من ناحية مليئة بالانسانية من ناحية…..
استطاع الراوئي احمد سعداوي ان يحلل المواقف الانسانية الى لوحات تشكيلية واضحة المعالم فهو يعرف كل شخصية بسطور طويلة ويعلل تصرفاتها وتركيبتها بسطور اكثر طولا تعطي مساحة واسعة للخيال كي لا ينضب من الاحداث ومن ثم يدخل في سرد الحكاية بتسلسل فائق الدقة من شخصية الى اخرى ومن حدث الى اخر فيأخذ القارىء الى مساحات اكثر خيالا وبالتالي تطول الاحداث تلقائيا دون شعور بالملل والتعب والارهاق الفكري …..
لكن ما ان تنتهي الرواية سيشعر القارىء انه ملأ عقله بكم من الثقافة الانسانية لكن بالنسبة لنا كمبدعين نجحن الشعراء والكتاب سنبقى حائرين امام هذا العمل …..
فشخوص الرواية منهم من اختفى ومنهم من فضل الانعزال على فوضى الحياة فكريا لكن بقيت شخصية محمود السوادي ونوال الوزير وباهر علي السعيدي معلقة بدون ان تنتهي حكاياتهم …..
وهذا ان دل على شيء فهو ان الكاتب مؤمن ان هذه الشخصيات موجودة في الواقع وهي مستمرة في اداء ادوارها في رواية الحياة لكن بصمت دون ان يليها جزء ثان من الرواية المكتوبة على الورق …..
فالحوار فيها ناعم كنعومة الزهر والتركيب الفوضوي للشخصيات زاهي الى حد اللهفة على المزيد من الاحداث والاماكن التي ادرجها الكاتب ضمن روايته تمثل قلب بغداد بقديمها بحديثها فهي الشاهدة على الارهاب الذي يلحق الرعب والهلع في نفوس الساكنين فيها ….