23 ديسمبر، 2024 5:07 ص

قدسية النص وحروب العرب

قدسية النص وحروب العرب

لا تختلف المغالطات التي يصر بعض حملة القلم من البنيويين الجدد ودعاة التنوير على تسويقها من حيث الجوهر عن كاريزما الثقافة الجاهلية والتي تشترط المعجزات حتى تؤمن بإلهة ما. حيث تتعمد بعض الأقلام الانسياق وراء العبث المجنون في الطعن في مقدسات للمسلمين، حيث يجتهد العديد ممن يُحسبون على التيار المجدد في تقليب صفحات تاريخيه مشكوك في صحتها وتسويقها على انها تناقض جوهري في العقائد. بالإضافة الى ذلك تزايد عدد صفحات (الفيس بوك) التي تروج لهذا العبث وتزايد كم المنشورات التي تخدش الثوابت الروحية للمسلمين من قبل أقلام تعودنا ان نراها تقف عند حدود حرية الاخر واحترام عقيدة المختلف. فمثلا يصر البعض على معاملة النص الديني على انه عمل بشري ممكن التجاوز عليه وتحليله فينومينولوجيا كما يقول هوسلر وحتى السخرية منه كما كانت قريش تفعل. او الطعن بقداسته عن طريق تبنى خرافات التاريخ مثل قصة (وتلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجي) وتسويقها على انها حقائق تكفي لدحض الثوابت، والانقلاب على المعاني السامية في الحياة الروحية للمسلمين.
النص الديني نزل في محيط لغوي ثري لا تغيب عنه عيوب النص، ولم تكن تنقص قريش النوايا ولا تعارض المصالح في اسقاطه وهدم بناءه الروحي والاعجازي، بل كانت لديهم القدرة على التمييز بين كلام العرب وسماوية القران، ولم تكفي ظاهرة التدليس والانتحال في الشعر الجاهلي من تغيير القناعات العقلية في اصالة التنزيل الإلهي. رغم ان طه حسين يشكك تماما” بأصالة الشعر الجاهلي الذي يستند عليه البعض في تشابه المعاني والبناء اللغوي.
أن سوء أدارة الخطاب الديني جعل النقد الموجه للفهم البشري للنص ينعكس على النص المقدس نفسه. وهنا لا يجد النص الديني من يدافع عنه كنص وانما كتأويل متعدد التجليات في المفاهيم والمذاهب. بالإضافة الى تحول رجل الدين الى ناطق حصري باسم الحقيقة المطلقة وبالتالي اكساء دعواته الانيه بقدسيه استثنائية تجعل اي تشكيك بإيجابية الخطاب الديني تتحمل جريمة الطعن في النص وتداعياتها. ان انفصال الخطاب الديني عن التاريخ وتحوله الى واقع افتراضي بعيد عن متغيرات الزمن ومستجدات الحياة أيقظ الثقوب السوداء في العقل العربي والاسلامي وسلحها بأيديولوجيا سامه أربكت السلم العالمي وانتجت الموت والدمار في ارجاء الأرض. 
الدين هو الإيمان بخالق الكون والإنسان، وبالنبوة والمعاد وبالتعاليم والوظائف العمليّة الملائمة لهذا الإيمان وهو ايضا مجموعه من الرموز المقدسة والتي يعلو بعضها فوق النقد، وتحمل صفات استثنائية من التعظيم وتتجلي فيها معاني الكمال المطلق لواجب الوجود. والقداسة بشكل عام قد تكون في النص (الكتب السماوية) او في المكان (الكعبة، الكنيسة) او في الأشخاص (اهل بيت النبي، الحواريين) او قد تكون في الشعائر (الصلاة والصيام). ولكن اعلاها وأكثرها قدسية هي القران والذي رغم قداسته لازال المسلمين بين الاخذ والرد في محتوياته في الناسخ والمنسوخ، والظاهر والباطن. ولكن اخر جريمة ارتكبها المسلم على دينه هو اعتناقه للدين السياسي. فالإسلام السياسي شرعن لكل ما يستهلك الجمال وسكينة الروح في اركان التدين.تحرص جميع الديانات على ان تضفي عل نصوصها المقدسة صفة الثبوت والهية التنزيل. حتى ان بعض الديانات الأرضية ربطت الوجود المادي بوجود أسمى في بالسماء لكي تعيش في ذاكرة غير مرئية في وجدان المريدين. ولذلك تصاب بالدهشة عندما تقرأ الديانات الشرقية وطريقة معالجتها لأوجاع الروح في النرفانا والعبادات الغنوصية كما يقول هنري كوربان تجد معظم هذه الديانات ترتبط بعالم علوي مقدس لا عناء فيه ولا الم، مما يترك انطباع ثابت بان معظم الديانات الشرقية ماهي الا اقتباسات وتجليات لثقافة الأنبياء بين الأمم.النص الاسلامي له قدسيتان في ان واحد، الاولى قدسية القراءات (الشكل) والثانية قدسية المفهوم (المضمون)، من خلال التتبع البسيط لأغلب النتاج والحوارات الإعلامية تجد ان الدعاة ومعارضيهم ينحصرون في ثلاث أطراف فمنهم من يرى ان النص الديني له فقط قدسية المفهوم. ومن يرى ان القدسية لابد ان تشمل الشكل والمضمون بلا مساس بهما. اما الطرف الاخر لا يعبا” بكليهما ويظن انها مجرد اخبار او عقائد ارضيه سببت الخراب والدمار ويجب فورا” التوقف عن تقديسها وتطبيقها. الخطاب الديني هو الفهم البشري للنص المقدس وهو فهم متغير مع الزمن, أذ يمكن القول انه من السهل ان نقبل ان ثبات القداسة في النص شكلا” لا غبار عليه ولكن المضمون ( التأويل ) يجب ان يتناغم مع المعطيات الاجتماعية ومتغيرات التاريخ وليس ثابتا”, لان الدلالات اللغوية تأخذ تطبيقا” وفهما اجتماعيا” مختلف تماما” بين عصر وعصر, نتيجة اختلاف العادات وطبائع البشر. كما ان البعض يعتقد ان اختلاف المضمون الديني من زمن الى اخر لا يقدح في قدسيته، بل يعزز الهية التنزيل وحكمة المُنَزِل.
رجل الدين المسلم بعد الصدمة الحضارية باحتلال نابليون لمصر وانكشاف خواء الكبرياء الساذج والمنعة الوهمية في الكيان الإسلامي تحت عرش العثمانيين انهارت أقدس قيمه الاعتبارية التي تربط الماضي بالحاضر في وعيه الجمعي وتربط حياته بالنعيم فبدأ نكوصا” غريبا” في منظومته المعرفية اذ لم يستطع ان يستوعب الواقع الجديد ويعيش مع الاختلاف الهائل بين حضارته المتأكلة في الرمال، وحضارة متجدده مزدهرة منتصرة في حروبها تحت اسم إله اخر. فحاول العقل العربي الهروب من الواقع اللغز فابتكر البعث والعودة الى الماضي لأنها تعفيه من قلق تفسير الواقع الذي لم يجد له ما يفسره في النص.
تم استنساخ الرؤية المصرية المرتبكة بكل تناقضاتها وحملها للمزاج المصري المميز في اغلب الدول العربية في بداية القرن العشرين. فكانت الفتاوى في ذلك الوقت تثير السخرية الطرافة فمثلا” حرم رجل الدين العراقي القطار في اول دخول المخترعات الى العراق، وحرم اخرون الراديو والتلفزيون وبعض الأدوية، ومعظم معطيات الحضارة ولكن رغم ذلك وتحت ضغط الانجذاب المذهل للحضارة الحديثة أخذ رجل يتنازل عن فتواه ببطيء رغما عنه ولكنه لم يستطيع ان يسخر النص ويوجد فيه تحليلا لهذا التغير الهائل.عندما بلغت الامور ما بلغت من التحام حالة التغيير ودخول المتغيرات الى ابعاد سحيقة في ثقافة العرب ومنافستها لهيبة حاملي النصوص في مكانتهم الاجتماعية، تحولت وبقوة الاعلام حالة النكوص من حاله عرضيه الى شعور جماعي بالعودة الى الماضي ليس لرجل الدين فقط وانما دفع المجتمع بكامله الى بهذا الاتجاه، وتحول النص الديني والحديث النبوي الى مصدر انبعاث لكل سلوك غارق في السريالية والفنتازيا والجنون وأصبحت كلمة الله أكبر رمز للموت والرعب والانتحار في ارجاء الأرض. فأصبحت جبال تورا بورا تزاحم مكانة مكة في الفتح الاسلامي وتزايد الجنون ألي درجة ان المواطنين في العراق في المناطق الساخنة يرتدون الملابس الأفغانية وكأنها كوفية فلسطينية او طاقية تشي غيفارا في قيمتها الرمزية. النكوص هو نظام دفاعي يمارسه العقل الجمعي لمجتمع ما عندما يفقد هويته ورموز وجوده بتعرضه الى صدمه حضارية او ازمه أخلاقية، حيث يعود افراده الى مراحل سابقه في التاريخ تظهر فيه هوية المجتمع أكثر وضوحا وتأكيدا من الحاضر، حيث يبدأ الافراد وعلمائهم في فحص الواقع واقتباس حوادث التاريخ والتي تعمل على تعريف الجماعة البشرية وتميزها عن الجماعات الأخرى. وعندما تصاب المجموعات المتجاورة بنفس المرض يبدا صراع خفي بين الجماعات في تأكيد التفوق، وغالبا ما يتحول صراع المفاهيم بين الجماعات المصابة الى صراع دموي لا ينتهي الا بفناء المجموعات الضعيفة وبروز مجموعات وهويات أكثر وضوحا. عندما يرافق الصراع بين الجماعات البشرية الناكصة نصوص مقدسه تبرر الحرب وتبيح اراقة دماء الخصوم فانه يلهب حماس الأجيال الحية ويقدس الحرب ويبررها بقداسته ويبيح المحرمات، ويسقط الحضارة ويميت المفاهيم، ويشكك بالقدسيات الاخرى وإذا كان الطرفين يتبعان نصا” واحد فأنها خسارة ما بعدها خسارة، عندها يضيع النص في ظلمة كراهية الانسان للإنسان ولن يبقى نصا” ولا مقدسا” بل هو أحد أدوات الحرب فقط. [email protected]