18 ديسمبر، 2024 9:48 م

قتلة ضياء الخالدي: صرخة احتجاج دامغة ملء الفم في فضاء السماء والارض ..

قتلة ضياء الخالدي: صرخة احتجاج دامغة ملء الفم في فضاء السماء والارض ..

إن ما يعطي هذه الرواية أهمية خاصة ، هو أن كل كلمة ، وكل جملة ، وكل عبارة ، وكل فقرة ، وكل صفحة فيها ، تحمل شحنةمفعمة بالانفجارالعاطفي ، والأسى والحزن والالم .وتجسد الرواية بمجملها عذابات دراماتيكية يعجز الانسان عن تخيلها .” اليأس والحزن مفردات فقدت معناها . ينبغي اختيار مفردة يكون زخمها بحجم الكون ؛ مفردة يتداولها الناس البسطاء فيما بينهم . تماماً مثل مفردة الموت التي تغيّرت منذ الثمانينات وصولا للتسعينات ، وحتى اليوم ص 18.” وهكذا ،تناول المؤلف احداثا واقعية ارتفعت لبشاعتهاوهمجيتها الى مصاف التخييل ، وبرع في رسم جدارية سردية لإعادة تشكيل تأريخ حديث ، فاستقامت عملا فنيا ، بكل الوانها وظلالها وعتمتها وابعادها واطرها وفضاءاتها. وهنا تنماز قدرة المؤلف على الإمساك بخيوط العمل الفني – التاريخي باتجاه عدم انحراف الاحداث السردية عن مساراتها الحقيقية . وهنا يحضرني قول غابرييلغارسياماركيز في كتابه “عشت لأرويها ”  ” ليستالحياةمايعيشهواحدناوإنماهي مايتذكرهوكيفيتذكرهليرويه . “
كما إن اهميتها تأتي من تزاوج مرحلتين تاريخيتين الأولى وظفها الروائي سرديا حدثت بين سنتي 2006 – 2007 ، والثانية جهوزية الرواية بين يدي القاريء سنتي 2012 – 2013 ، مع فوارق بسيطة في تصاعد النفَس الطائفي وتخندقه في الاولى وخفته في الثانية . وكلتا المرحلتين تشكل مسارا معفرا بدم الانسان ، وتدمير البنية التحتية للوطن ، يحدث هذا عند بروز الغول في داخل الانسان العراقي الذي يَسبُت لحقب قد تكون طويلة او قصيرة ، ثم يظهر ليكشرعن انيابه ، ويغرزها دون رحمة في لحم الانسان ويوغل في دمائه ، في حقبة يجدها ناضجة وقد آن قطافها .
وما دام الأمر كذلك ، فلنا أن نؤكد أن قارئ هذه الرواية هو ليس قارئا مفترضا بعيدا عن احداثها، إنما هو قاريء عاش في أتون لهيب نارها ، وواجه مآسيها ودمويتها ، وبالتالي ، فإنه يشكل شخصية رئيسة في مجريات احداثها ، فهو عماد الغريب ، وهو ديار ، وهو بلال المخرَف ، وغسان ، وابو حمدان ، وحمدان ، وسلمى ، ومديحة ، وشكرية العرافة ، والطفل المعتوه ددو الخ.. اذا نحن شخوصها ، عشنا واسهمنا بنحو أو آخر ، في احداث الفترتين اللتين شكلتا منطلقا وارضية لاحداث الرواية ، ومحاورها الرئيسة ، كما نستطيع ان نزعم تماما أن ساردها وشخوصها الآخرين ، هم شخوص حقيقية لحما ودما وعظما وسلوكا؛ يدعم قولنا هذا ، ضياء الخالدي في احدى مقابلاته ،” الرواية تواريخ قديمة وحديثة واللعبة الروائية لديها القدرة في تغذية الفجوات ، واستثمار الحكاية المتخيلة في جذب الواقعية الحقيقية الى ساحتها ، وتذويبها ، لتعطيها ابعادا اخرى ، لتبدو مثيرة للتأمل ..”
هذه الرواية ، رواية احداث ووقائع دامية ، مارسها الانسان ضد اخيه الانسان ، ولأن ثيمتها القتل والتدمير والتمثيل البشع والعنف والتهجير لإبن الوطن ، نستطيع أن نقول إنها تخط تاريخا دمويا لشعب اثقلت كاهله دكتاتورية نظام دموي، وجاءت احداث ومتغيرات وعلى رأسها الاحتلال والارهاب والطائفية وتسييس الدين لتسحن ما تبقى من عظامه ووجوده .
من هنا ، نجد في العراق ، في مجريات احداثهالمأساوية، بخاصة في السنتين 2006 و 2007  احداثا لا يمكن أن تكون في مخيلة المبدع لفظاعتها إلاُ تخييلا . وهنا ، ايضا ، لا تتوقف مخيلة السارد عن التعبير عن تلك الاحداث والوقائع الفظيعة والهمجية التي يمارسها قتلة ضياء الخالدي ؛ وإنما خلق منها ومن واقعها تخييلا ، ومن احداثها كوميديا سوداء ، وجائحات لازمت تلك الاحداث ، الى حد سمت لغتها الى سردية شعرية ، حين اعتلت الى مستوى الحدث.
وعودة الى ماركيز مرة اخرى ، اذ سئل ذات مرة ، ما هي الواقعية السحرية ، فاجاب الواقعية السحرية ، هي ان تحوًل الواقع الى خيال ..
 كما إن الرواية بهذا ، استندت التحليل الاجتماعي والنفسيوالسلوكي لشخصية الفرد العراقي في تحولاته سلب – ايجاب على وفق ازدواجية الشخصيات ، كما نرى نموذجا رئيسا لها هو عماد الغريب وانتقالاته النفسية ؛ وعلى وفق المراحل الزمنية التي رأيناها في الرواية .. وهنا نود أن ننوه ، أن ضياء الخالدي بوصفه ساردا للروي ومحللا للشخصية الروائية كما رأيناه في نسيج احاديث وسلوكات شخصياته في هذه الرواية ؛ يبدو لنا ، أنه فهم طبيعة المجتمع العراقي ، والشخصية الجمعية وازدواجية الفرد العراقيوتقلباته النفسية والعاطفية والفكرية..
ولكي لا نطيل في حديثنا هذا، لاننا نستطيع ان نمتح الكثير من هذه الرواية ، اذ انها كما بئر ، كلما ادليت منه بدلوك ، كلما نزُ ماؤه وطفح نحو سطحه. ونكتفي هنا باختزال الشخصيات الرئيسة بوصف الرواية رواية احداث وشخصيات:
عماد الغريب الانتهازي
______________
يحتل عماد الغريب المسن والمتقاعد ، المساحة الاكبر في جسد الرواية ، فهو يقوم بدور مزدوج في الحكي ؛ فهو السارد الرئيس فضلا عن قيامه بدور شخصية المشارك في الاحداث . وعماد هذا ، شخصية انتهازية بامتياز ولديه القابلية على التلون الحزبي والسياسي وحسب مَن يستحوذ على الساحة السياسية ، وعلى مر المراحل التي عاشها في التقلبات السياسية في العراق ، فكان شيوعيا كما صديقيه ديار وعبود اللذان عادا من الخارج الى العراق . فكان يتبادل معهما الكتب الحمراء . لكنه تحول الى تنظيمات البعث . ثم اندفع بمهمة تفويج الشباب في صفوف ما يسمى بالجيش الشعبي .” طردت صور لينين ، وفهد ، وسلام عادل ، واستبدلتها بصور ميشيل عفلق ورفاقه . هكذا انتقلت بعد تفكيرعميق وامسكت خشبة النجاة كما ظننت ص20.” وبعد سقوط صدام  يتحول الى اسلامي .لكنه ما فتيء يشرب الخمرة في منزله ومع اصدقائه المقربين وبعد اداء طقوس الصلاة .
وحين عاد ديار من الخارج بعد الاحتلال ابدىعماد استعداده التام بكتابة التقارير له عما يعرفه عن احياء بغداد وناسها وشوارعها وبيوتها بهدف وضع الخطط لاستهدافها قتلا وتهجيرا الخ ..
كانت اول جريمة اسهم باقترافها وبناء على توجيهات ديارهي قتل صديقه أبي حمدان ” السيء ” في منطقة العامرية .لكن ، نرى بعد ذلك ، وفي بوحه مع ذاته وصراعاته النفسية ، وحواره مع ديار أنه يرفض ما تقوم به جماعة صديقه ديار ، من قتل وتفجير جثثوتهجير.ثم اختلف معه، وراح يرفض جملة وتفصيلا التعامل معه ،حين شعر أن ما يقوم به ديار ،هو تنفيذ مخططات لجهات اخرى، ويبيع ارواح الناس بالدولار ، خاصة ، بعد ان قام ديار باغتصاب الفتاة الشابة هناء حين كانت تنشر الغسيل على سطح منزله، مع انه ، اي عماد ، كان يمارس الجنس مع زميلته في العمل بين اروقة الارشيف. وهنا ، يحدث الافتراق التام بين عماد وديار. وقرر اخيرا ان يهرب وزوجه الى كركوك ليس شعورا بالذنب بما يقوم به ، او تخلٍ عن قتل ” السيئين ” إنما خشية ان يعتقد ديار أنه من ” السيئين ” وبالتالي يصفي حياته . بيد انه حين يصل الى مقام زين العابدين ينصحه رجل الدين القائم على صحن الامام بالعودة الى بغداد . في هذه الاثناء يتلقى تهديدات عن طريق الموبايل من ديار ومجموعته . وهنا ، تتملكه الحيرة بين نارين اهونهما نهايته . ويبدو أن عماد لا يزال بالرغم من الاسهام في اقتراف جريمته الاولى وتعاونه مع ديار يحمل بين طيات قلبة طيبة ، وما لبث يؤمن ببعض افكاره الشيوعية القديمة . لكنه حين هرب من ديار لجأ الى الجن وقراءة القرآن والتمائم والايمان بما تقوله شكرية العرافة وبلال صاحب الجن لانقاذ نفسه .

شكرية البغي
__________
ويبدو أن ضياء الخالدي ، ابتكر شخصية شكرية التي انتشلها عماد من الشارع بناء على تكليف صديقه ديار ، وبعد أن ذاع صيتها في الخارج. كانت عاهرة في مبغى الصابونجية امام وزارة الدفاع ،  . مارست البغاء طوال حياتها ، وحين امست رميماراحت تبيع الخواتم والاحجار والحصى الملونةعلى رصيف الشارع . ثم تحولت الى ساحرة وفتاحة فال تبدي النصائح والتنبؤات للاخرين بما فيهم السياسيون المعارضون في لندن.” ووهبت اللذة بعدالة للشيوعيين والبعثيين والقوميين وكل الاحزاب.  “وشكرية وقوتها الفريدة ، حيث تقول عن نفسها إنها من الصنف المتوسط ، عاهرة الافندية والموظفين وليس للجرخجية والعربنجية وعمال البناء . يمكنها التنقيب عن البشر والاشياء ومعرفة اسرار الحوادث والوقائع . ” تنبأت بهروب زوجيُ ابنتي الرئيس خارج البلاد . (وقتها ضحك معظم الحاضرين من فكرة الإعتماد عليها وعلى المشعوذات لإسقاط نظام مخابراتي عنيف . لكن بعد أشهر تأكدت معلومات وصلت لعبود ورفاقه عن طريق آخرين في البلد . اتصلوا بشكرية ، أن زوجيً ابنتي الرئيس يخططان للهرب خارج البلاد – ص 29) .وبعد مدة تاكدت نبوءاتها وصار الاتفاق مع ديار وعبود ، ان تعيش شكرية في بيت عماد لقاء مرتب معين لتساعدهم على تحقيق اهدافهم في تنبؤاتها .. وقد اقنع زوجه مديحة العاقر انها ستسليها في وحدتها في البيت .
بلال المخرًف
_________
 بلال المنجم ، يكره السياسة ،ويحب الفلك وقراءة مجلة طبيبك وشمس المعارف وسحر الكهان للطوخي .ويؤمن هو الاخر بالغيببيات والخرافات وما وراء الطبيعة . يتعامل مع عالم الجن منذ التسعينيات ، وتطورت ادواته في حقبة الاحتلال ص 157. ” ناهيك عن عماد الشيوعي،الذي لجأ الى  الايمان بعالم الجن بعدما استفحل القتل والذبح والتشريد على الهوية ؛ لعله يحميه هذا من خطر ديار او الميليشيات المسلحة ” افكر قد لا يستطيع غير الجن ايجاد حل للانفلات والجنون الذي نعيشه .”

من خلال هذه الشخصيات، شكرية العاهرة وبلال المخرًف وعماد الغريب، اراد الخالدي ان يظهر لنا جوهر العقل الخرافي العراقي في ظروف منفلته تكون حاضنة لاناس يمسكون بزمام الامور ويعيشون عقلية القرون ما قبل الوسطى ، القرون الظلامية ، قرون الانسان القديم ، وتنسحب هذه الظاهرة حتى على عقول المتنورين منهم ، كما هو الحال ، لدى الشخصيتين ديار وعبود اللذان عاشا في دول اوربية متحضرة ، وعادا للعراق لينتكصا عن افكارهما الحضارية ويستبدلانها بافكار خرافية عقيمة .
يحدث هذا ، في حاضنة مجتمعية متخلفة ، وحين ينتفي التفكير المتنور في المجتمع ، فإن وسط العقل المسطح سيكون البديل لذلك ، ويمتد ليشمل عقول السياسيين الذين يقودون البلاد ، لتجنح عقولهم نحو الغيبيات ، والتخريف ، والميتافيزيقيا عموما ، وبالتالي سيكون مؤشرا لانهيار المجتمع واهتزاز قيمه الفكرية والاخلاقية .وكان عماد صادقا تماما حين عبرعن حالته القلقة  ” حقا تأخذني السخرية الى ابعد مدى وانا المس كيف ان العقل كلما قلت قدرته على المحاكمة بمنطق عششت فيه الخرافات ص 158″. ويذكرني هذا بصدام حسين ، حين ذهب الى عرافة تسكن في بابل واعتقد انها ترابط في مقام الحمزة  لتنير مهمته السرية،  قبل قدومه على غزو الكويت، فقالت له ما معناه ، اذهب فالطريق معبد امامك .. وكانت نبوءتها صادقة ،اذ ان الطريق سالك نحو حفرته ، وانهيار دولته وجهاز مخابراته ، على يد الاحتلال ..
ديار القاتل
_____________
ديار صديق عماد الغريب ورفيق درب نضاله في احدى المنظمات الماركسية . سافر للخارج وحين سقطت بغداد عاد للعراق من جديد وفتح له مكتبا للاستيراد والتصديرفي شارع السعدون ، اطلق عليه اسم الأماني ل” قتل المسيئين ” عمل عماد الغريب معه ، براتب شهري 600 دولار اميركي . وساهم عماد في قتل اول ضحية له كما قلنا ، هو ابي حمدان .  وكان حلم ديار ” اغتيال السيئين “، وتنظيف البلد من الانتهازيين ، والجهلة والمجرمين واللصوص ، بايدينا ص 33.”
ويكشف ديار في نهاية الامر ، عن حقيقة مخططاتهم ” ان عملنا طيلة الفترة الماضية كان دافعه  المال واشياء اخرى .” وكان لديار القدرة للوصول الى الناس السيئين ص 14 ” وظهر في نهاية الامر ،انه يخطط لاغتيال الضحية ” السيئة ” مع اي طائفة ، وانه مرتبط بجهات اخرى يعمل لاجلها لكسب المال ولا يهمه من تكون الضحية . وقد اكد ديارهذا في حديث مع عماد انه يبيع الارواح بالدولار .
قال عنه عبود الذي حمل فكرة ديار الى عماد ، إن الكثير في المنافي يدعمون هذه الفكرة ، ويمدونه بالمال . لكن من هم هؤلاء ؟ ص 137. ودعم ديار هذه الفكرة حين قال لعماد الغريب ” الان ساخبرك ، ان عملنا طيلة الفترة الماضية كان دافعه المال واشياء اخرى .”
قال عماد له ، هذه نذالة وخسة ، وخيانة ، ولؤم ، و … ”
تنتهي الرواية بخيبة امل مريرة ، لعماد الذي رحل الى كركوك ثم عاد منها ، وفي منتصف الطريق وقف على مفترق طرق بين كركوك وبغداد وثمة رتل من اليات الهمفي الاميركي يحتل الطريق الواصل بين بغداد وكركوك ، وافترش عماد وسائق الاجرة الطريق الترابي وراحا يشربان الخمرة؛ في خضم حالة ؛ حالة اللايأس وحالة اللامل ، تشبه حالة ما بين الاحتضار وثمالة الحياة الاخيرة .
لكن ضياء الخالدي ، لم يسدل الستار على احداث رواية القتلة ، ربما كانت بصيرته تتوقع ان ما كان يجري في سنتي 2006 و 2007 ، سيتكرر في وقت اخر ، وكان هذا ما حدث ..
رواية قتلة ضياء الصادرة عن دار التنويرللطباعة والنشر والتوزيع 2012، مؤشر واضح لتأسيس رواية ما بعد الاحتلال ، وانعكاساته الدراماتيكية ، على مسارات المجتمع العراقي ومحاولة جادة لاعادة بنية نسيج ولحمة الشعب العراقي التي مزقها التخندق الطائفي بلبوس ديني غيبي احمق ..