مرَّ معنا في الجزء السابق التلميح الى ان عِلمَ الكلام استُخدم في طرح ونقاش مباحث الإمامة بالأدلة والبراهين. في حين كان أهل السنة يعتبرون بحث ألإمامة، لا من خلال علم الكلام، وإنما من خلال أبواب الفقه والأصول والتوحيد السليم بعيدًا عن علم الكلام. والى ذلك اشار الإمام الغزالي حيث يقول: (ان النظر في الامامة ايضًا ليس من المهمات، وليس ايضًا من فن المعقولات بل من الفقهيات)(1)، ومع ذلك جرى الإعتياد مع الأيام على إستخدام علم الكلام بشكل أكبر. وبُحِثَت المسائل المتعلقة بالعقائد الإيمانية ووجود الله (سبحانه وتعالى) وأسماءه وصفاته، وبقيّة المعتقدات، بالأدلة اليقينية، ضمن موضوعات علم الكلام. وبما أنّ بعض الطوائف “الشيعة” إعتبرت الإمامة من العقائد ، لذا تجاوب الآخرون مع هذا الإختيار. وعَمَد عموم العلماء والمتكلمون الى الخوض في الإمامة، وتخصيص فصل، أو فصول متعددة للحديث عنها كموضوعات كلامية. ويشهد بذلك الإيجي (ت 756هـ) اذ يقول: (وإنما ذكرناها في علم الكلام – أي مباحث الإمامة – تأسيًا بمن قبلنا) (2). ثُمّ إنهم خَتَموا بها كتب الكلام والعقائد!. وكان ينبغي ان توضع في بداية المصنفات لا في أواخرها، بإعتبار ان المعتقدات مقدَمة على غيرها من المواضيع. وعلى أي حال، فقد انتقل هذا الاسلوب عبر فترات طويلة من التاريخ، ينقله اللاحق عن السابق على نفس النمط .
امّا عن ذكرها في نهاية مصنفاتهم فيبرر ذلك الجرجاني (ت 471هـ) بقوله: (وقد جرت العادة من المتكلمين بذكرها في أواخر كتبهم للفائدة المذكورة في صدر الكتاب) (3). ويعلل صاحب كتاب غاية المرام سبب هذا النوع من الإعتياد بقوله: (جَرَت العادة بذكرها في أواخر كتب المتكلمين، والإبانة عن تحقيقها في عامّة مصنفات الإصوليين، لم نرَ من الصواب خرق العادة بترك ذكرها في هذا الكتاب، موافقة للمألوف من المصنفات وجريا على مقتضى العادات)(4).
وكذلك هو شأن الغزالي بعد ما وضّح ان الرسم جرى بإختتام المعتقدات بموضوع الإمامة برر ذلك بقوله: (اردنا ان نسلك المنهج المعتاد فإن فِطام القلوب عن المنهج المخالف للمألوف شديد النَفار)(5).
مبررات اخرى:
ويمكن ان نضيف اسبابًا ومبرراتًا اخرى الى ما اثبته العلماء من مبررات في ترتيب مباحث الإمامة في نهاية كتبهم الكلامية العقدية، وهي مبررات إن لم تكن منسجمة مع هذا الاتجاه الذي سلكوه وافصحوا عنه، فلا نظنّ أنها تتنافى او تتناقض معه.
1- الاقتباس من قوله صلى الله عليه وسلم: (كما تكونوا يولّى عليكم.- وفي رواية – يُؤمّر عليكم) (6) فشكل الحكم مترتب على نوعية الرعية، فكلما كانت الرعية أقرب الى الصلاح، كان الحكم اقرب الى العدل والتقوى، والعكس صحيح، فاللبنة الاولى هو الفرد، ثم المجتمع، وينتهي الأمر بالحكم السديد. ولذا إستُحسِنَ دراسة شؤون المجتمعات وفق هذا التسلسل، إبتداءً بشؤون الفرد وانتهاءً بشؤون الجماعة.
2- الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضًا الحكم وآخرهن الصلاة)(7) وهو خبر ثَبُت صدقه في المجال العملي. إذ أول ما اُزيل عن الناس من امور الشريعة هو الحكم بينهم بكتاب الله تعالى. بينما بقي إهتمام الناس بالصلاة والصوم والحج والشهادة والأطعمة و…. قائمًا الى يومنا الحاضر. وهو إهتمام تَنصَّب فيه وحوله جلّ الأبحاث والدراسات والدعوات، وخطب المنابر، لأنّه ألصق بحاجات عموم الناس. بينما يختلف الحديث عن الحُكم والحديث السياسي عن ذلك قليلاً.
3- التوفيق بين تسلسل التشريع، وتسلسل الدراسات الشرعية. فأمور العقيدة البحتة (أي الاصول) والشعائر (التعبدية) البحتة، امر بها الشارع أولاً، إذ جاءت من حيث فرضيتها والالزام بها والتوجيه اليها سابقة من الناحية الزمنية على امور الحكم ومقتضياته. فكان ذلك توافقًا في الدراسات الشرعية لواقع الحال التشريعي من حيث البدء بامور العقيدة البحتة والانتهاء بتشريع المعاملات وأمور الحكم والسياسة. أو لعلنا إن كنّا سنختار أن نعتبر الحكم والامامة من أمور العقيدة، إلّا أنها ليست مما يُصطلح على تسميتها بامور العقيدة البحتة.
4- الخوف من إثارة الفهم الخاطئ، اذ العالِم لا يخوض في مباحث الحكم الاّ بعد أن يستوعب الامور الاخرى، وقد يكتفي الناشئ الجديد، بالمباحث الاولى من صوم وصلاة وحج وغيرها .. وفق ما تعارفت عليه أُطر مدونات الفقه. ولو عكس الأمر وقُدّمَت مباحث الحكم على ابواب الفقه الاخرى فسينشغل الجميع بهذه المباحث، ويخوض كل قارئ من الناس في امور الحكم فتكون الخلافات، والفتن، والآراء، والتعصبات، مما يستعصي التحكم فيها او حسمها. فكان من المصلحة المرسلة إرجاء مثل هذه البحوث الى نهاية المؤلفات، وربما إغفالها تمامًا.
هذه المبررات في عمومها تؤكد القول القائل بان الإمامة: (هي المشكلة الرئيسية الكبرى التي دار عليها البحث السياسي في الاسلام خلال العصور المختلفة) (8) وهي التي قامت بالدور الاكبر في الخصومات السياسيه والفقهية والانقسامات العقدية، وحولها تكوّنت اهم الفرق الاسلامية (9).
اما مصادرنا في دراسة نظرية الحكم في الإسلام، فلا تقف عند مباحث علم الكلام، وإنما تسترشد بكتب اصول الدين، والعقائد، وكتب الأحكام السلطانية والسياسات الشرعية، ومباحث الإمامة في امّهات الكتب الفقهية، وكتب النظريات السياسية، وغيرها.
المصادر والمراجع:
(1) الاقتصاد في الإعتقاد للامام ابي حامد محمد بن محمد الغزالي/ ص290 ،عُني به انس محمد عدنان الشرفاوي/ دار المنهاج.
(2) المواقف في علم الكلام لعضد الدين ألايجي/ ص 395 (وما بين الفاصلتين ليس من النص)، توزيع مكتبة المتنبي بالقاهرة، ومكتبة سعد الدين بدمشق./ وانظر كذلك هامش العصام على شرح التفتازاني على العقائد النسفية/ ص 146 مطبعة دار احياء الكتب العربية/ (طبعة قديمة)
(3) المواقف للإيجي بشرح الجرجاني 8/ 344 مطبعة السعادة بمصر/ط1/ 1325هـ – 1907م.
(4) غاية المرام للآمدي 363 تحقيق حسن محمود عبد اللطيف/ إصدار لجنة إحياء التراث الإسلامي بالقاهرة/ 1391هـ – 1971م.
(5) الاقتصاد في الإعتقاد ( مصدر سابق) ص 290 / وانظر كذلك العقيدة النظّامية للجويني ص 19بتحقيق أحمد حجازي السقا، مطبعة دار الشباب بالعباسية، 1399هـ – 1979م.
(6) رواه الحاكم من طريق الديلمي عن ابي بكرة مرفوعًا، وأخرجه البيهقي بلفظ: يؤمر عليكم ، بحذف ابي بكرة فهو منقطع. أنظر كشف الخفاء للعجلوني 2/ 126-127 دار احياء التراث العربي./ والمقاصد الحسنة للسخاوي، ص 326 تحقيق عبد الله الصديق، وعبد الوهاب عبد اللطيف دار الكتب العلمية بيروت/ ط1/ 1399 هـ – 1979 م. فالحديث معلول، وإن صححه الحاكم. وأوردناه لإشتهاره على ضعفه، كما أنّ الواقع التاريخي يُكَذّبه، فكم من حاكمٍ صالح يعقب حاكمًا سيئًا والشعب ذاته هو هو في الحالتين.
(7) مسند الإمام أحمد 5/ 251 المكتب الإسلامي للطباعة والنشر بيروت./ وكذلك في المستدرك للحاكم بلفظ مقارب 4 / 103 دار الكتب العلمية بيروت، ط1، 1411هـ – 1990م.
(8) النظريات السياسية الاسلامية لضياء الدين الرَيّس 89 ، وراجع كذلك تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار 1/ 255 تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان/ دار العربية للطباعة بيروت.
(9) الخوارج في الاسلام لعمر ابو النصر صفحة 10 الناشر مكتبة المعارف بيروت.
الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]