لقب أمير المؤمنين:
لبساطة الحياة المجتمعية والسياسية في زمن الخلافة الراشدة،لم تكن هنالك حاجة لإصطناع نعوت والقاب تمييزية وذات معان ألأبهة والتبجيل لمن يتولى أمر المسلمين. خاصة وأن الدولة حديثة الظهور الى العالم، وخالية الى حد ما من العقد السياسية الحادة التي كانت تشهدها الأمم الأخرى حول الحاكم وطبيعةالحكم. ولذا اقتصر الجيل الأول من الصحابة على مناداة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) بلقب خليفة رسول الله. وهو لقب أستُنبِطَ بِعَفَويّة ليُعَبّر ببساطة عن الوظيفة والمهمّة الموكلة اليه. غير أن الأمر سرعان ماتغير بعد تولي الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين خوطب بخليفة خليفة رسول الله. ليظهر أن اللقب لا يمكن أن يمضي على هذا النسق كلما جاء خليفة. إذ لم يعد يناسب إطلاقه على الخليفة اللاحق فيقال خليفة خليفة خليفة رسول الله فيطول اللقب، أو أن يقال خليفة من سَبَقَه، فينادى عمر ياخليفة ابا بكر، وينادى عثمان ياخليفة عمر، وهكذا مما يصعب ضبطه وتسلسله في كِلا الحالين. لذا لا مناص من إيجاد صيغة أُخرى للخطاب، تخفف على الرعية في مخاطبتهالولاتها. وكان القدر يومها حاضرًا في اِنبثاق لقب سياسي آخر أكثر مرونة من لقب خليفة خليفة رسول الله، أو خليفة الخليفة السابق. وهو: لقب أمير المؤمنين.
الأميرُ: ذو الأَمر. والأميرُ: الآمِر… وفي الشعر:
والناس يَلحَون الأميرَ إذا هُمُ … خَطئوا الصوابَ ولا يُلامُ المرشِدُ (1).
وقد قال أغلب العلماء على أنه لقب محدث وهو من سمات الخلافة، وأول من دُعيَ به الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)(2). ثُمّ توارث هذا اللقب من بعده بقية الخلفاء الراشدين (عثمان وعلي والحسن- رضي الله عنهم أجمعين-)، وكذا سائر خلفاء دولة بني أميّة
ويعلل إبن خلدون مناسبة ظهور هذا اللقب بقوله: (لما بويع ابو بكر الصديق (رضي الله عنه) كان الصحابة (رضي الله عنهم) وسائر المسلمين يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الأمر على ذلك الى أن هلك. فلما بويع لعمر لعهده اليه، كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانهم إستثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول اضافته وانه يتزايد فيما بعد دائما الى ان ينتهي الى الهجنه ويذهب منه التمييز بتعدد الإضافات وكثرتها فلا يعرف، فكانوا يعدلون عن هذا اللقب الى ما سواه مما يناسبه ويدعي به مثله. وكانو يسمون قواد البعوث اسم ألأمير. وكان الصحابة يدعون سعد ابن ابي وقاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسية، وهم معظم المسلمين يومئذ.
وإتفق ان دعا بعض الصحابه عمر (رضي الله عنه) يا أمير المؤمنين، فإستحسنه الناس وإستصوبوه ودعوه به. يقال أنّ اول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش، وقيل عمرو بن العاص، وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينه وهو يسال عن عمر ويقول: أين أمير المؤمنين، وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه، إنه والله أمير المؤمنين حقًا، فدعوه بذلك، وذهب لقبًا له في الناس)(3). أما عبد الله بن جحش الذي مرّ اسمه – فموصوف بكونه أعمى- ويقال نزلت فيه وفي ابن أم مكتوم آية:(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غيرُ أولي الضرر: 95 سورة النساء) وهو غير عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي الذي إستشهد يوم أحد ودفن الى جوار حمزة (رضي الله عنهما)(4).
وذكر القلقشندي عن أبي هلال العسكريّ في كتابه “الأوائل“: (أن أصل ذلك (أي أصل لقب أمير المؤمنين) أن عمر (رضي الله عنه) بعث إلى عامله بالعراق أن يرسل إليه رجلين عارفين بأمور العراق يسألهما عما يريد، فأنفذ إليه “لبيد بن ربيعة“ و“عديّ بن هشام“، فلما وصلا المدينة، دخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص فقالا له: استأذن لنا على أمير المؤمنين، فقال لهما عمرو: أنتما أصبتما اسمه!، ثم دخل على عمر فقال السلام على أمير المؤمنين. فقال: ما بدا لك يا ابن العاص؟، لتخرجنّ من هذا القول!. فقصّ عليه القصة، فأقرّه على ذلك، فكان ذلك أوّل تلقيبه بأمير المؤمنين، ثم استقرّ ذلك لقبا على كلّ من ولي الخلافة بعده.)(5)
غير أن الطبري ذهب بعيدًا حين روى عن أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ حَسَّانٍ الْكُوفِيَّةُ عن أبيها ان عمر هو من إتخذ اللقب لنفسه. قال: لَمَّا وَلِيَ عُمَرُ قِيلَ: يَا خَلِيفَةَ خليفه رسول الله، فَقَالَ عُمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ): هَذَا أَمْرٌ يَطُولُ، كُلَّمَا جَاءَ خَلِيفَةٌ قَالُوا: يَا خَلِيفَةَ خليفة خليفةرسول الله! بَلْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَنَا أَمِيرُكُمْ، فَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ)(6)
ومع أن رواية الطبري لا تخلو من الطعن، إلّا أن الشيخ ألأميني علق عليها نافيًا عن عمر بن الخطاب إصطناعه للّقب لنفسه، أو معرفته به قبل أن يُطلق عليه. فبعد أن أورد مجموعة من مرويات أهل السُنّة، قال: (ان عمر نفسه ما كانت له سابقة علم بهذا اللقب، لا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا عن غيره، ولذلك إستغربه).(7) وواضح أن تعليق الشيخ الأميني يأتي من منطلق أنه يرى ان اللقب من خصوصيات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).
وعلى أي حال، فكلمه الأمير عُرِفَت منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يتسمى بها من يقود المسلمين للغزو أو الحج ( وكان ألأمير في عهده عليه السلام يؤم الناس في الصلاه بالإضافه الى قيادته للجيش او اشرافه على شؤون الحجيج… وقد ارسل عليه السلام أبا بكر (اميرًا) على الحج سنة تسع من الهجرة.)(8)
ودعا (صلى الله عليه وسلم) المسلمين الى طاعه أميرهم ذاكرا لفظ الإمارة الصريح كما في قوله : (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن اطاع اميري فقد أطاعني، ومن عصى اميري فقد عصاني)(9). الا انه لا يعرف اطلاقها بصيغتها الأخيرة كأمير المؤمنين إلّا على عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بعد توليه الخلافة.
وذهب البعض الى أن أول من قيل له أمير المؤمنين عبد الله بن جحش. وجرى التعقيب على هذا القول بأن عبد الله بن جحش(رضي الله عنه) لم يُلقّب به رسميًا، وإنما خوطب بمسمى الأمارة كأول مخاطبة بأمير في الاسلام حين كان على رأس سرية بعثها (صلى الله عليه وسلم) الى وادي نخلة بين مكة والطائف ليتحسسوا اخبار المشركين في المنطقة.(10) وقد إستخدمت قبل ذلك الفاظ مثل (استعمل) ، و(إستخلف). ولا بأس مجددًا أن أُنَوّه الى ان مناقشة أدلة وحجج الاطراف التي خاضت في القاب ومفاهيم الحكم، ليس هنا موضعها.
لم يشاطر الشيعة أهل السنة رؤاهم ومروياتهم التاريخية المتقدمة عن أولية ظهور اللقب. وإنما قالوا ان لقب امير المؤمنين خاص بسيدنا على بن ابي طالب (رضى الله عنه)، واللقب من مختصّاته، وجنحوا الى أنه لا يجوز لأحد أن يتسمى به حتى الأئمة المعصومين. وان رسول الله هو الذي أطلق عليه هذا اللقب. وأوردوا على ذلك نصوص خاصة بهم.(11) هي عند أهل السنة مرويات واهية وغير معتبرة.
فقد ورد أن عليّاً بن أبي طالب (رضي الله عنه) كان ممن خاطب عمر بن الخطاب بأمير المؤمنين.قال أبو جعفر النحاس أن أبا وَبرة قال: (ان أبا بكر كان يجلد في الشراب أربعين، وكان عمر (رضي الله عنه) يجلد أربعين. فبعثني خالد بن الوليد الى عمر (رضي الله عنه)، فقدمت عليه، فقلت: يا أمير المؤمنين ، إن خالدًا بعثني اليك. قال: فيم؟. قلت: إن الناس قد تجافوا العقوبة، وانهمكوا في الخمر، فما ترى في ذلك؟. قال عمر لمن حوله، ما ترون؟. فقال عليّ (رضي الله عنه): نرى ياأمير المؤمنين ثمانين جلدة، فقبل ذلك عمر، فكان خالد أول من جَلد ثمانين، ثم جَلَدَ عمر – رضي الله عنه- ناسًا بعده)(12).
والخلاصة أن الشيعة إتخذوا اللقب كمصطلح ديني مقصور على علي بن ابي طالب (رضي الله عنه) يكتسب خصوصيته وقدسيته من نصوص مروياتهم. في حين يرى أهل السنة انه لقب سياسي إقتضته الضرورة التعريفية لوظيفة الحاكم المسلم، الذي يكتسب هيبته وإعتباره من السلطة المتاحة له شرعًا وقانونًا لأداء واجبه في حماية الدين وسياسة الدنيا.
المصادر والمراجع:
(1) لسان العرب لإبن منظور4/27 (بتصرف). دار بيروت للطباعة والنشر/بيروت 1388هـ/1968م.
(2) شرح روض الطالب لأبي يحيى زكريا الانصاري 4/111 الناشر المكتبة الاسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ. وانظر كذلك كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا لأحمد بن علي القلْقشندي ج1 ص470 شرح وتعليق ومقابلة النصوص: محمد حسين شمس الدين/ نشر دار الكتب العلمية، بيروت /ط1/ ١٤٠٧هـ – ١٩٨٧م.
(3) المقدمة لإبن خلدون ص178 طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. وانظر كذلك في تاريخ المدينة لإبن شبَّة 2/677- 680 تحقيق فهيم محمد شلتوت / دار الاصفهاني للطباعة/ جدة.
(4) أنظر الإصابة لإبن حجر العسقلاني 4/37 تحقيق علي محمد البجاوي/ دار نهضة مصر للطباعة والنشر/ القاهرة.
(5) صبح الأعشى للقلْقشندي (مصدر سابق) ج5 ص446 .
(6) تاريخ الرسل والملوك، لمحمد بن جرير الطبري/ ج4 ص208 دار التراث بيروت/ط2/ 1387هـ.
(7) الغدير للشيخ عبد الحسين أحمد الاميني/ ج8 ص87 دار الكتاب العربي بيروت- لبنان/ ط 3/ 1387هـ- 1976م.
(8) النظم الاسلاميه نشأتها وتطورها للدكتور صبحي الصالح/ ص289. دار العلم للملايين ط1/ 1385هـ- 1965م.
(9) صحيح البخاري 8/ 104وفي باب الجهاد بلفظ (ومن يطع الامير فقد اطاعني، ومن يعص الامير فقد عصاني/ 4/8 المكتبة الإسلامية/ تركيا طبع مؤسسة اليف أوفست 1979م. واللفظان في صحيح مسلم 3/1466. تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي/ نشر وتوزيع دار البحوث العلمية والدعوة والإرشاد بالسعودية/ 1400هـ – 1980م.
(10) البداية والنهاية للحافظ إبن كثير القرشي الدمشقي/ ج3 ص 248 مكتبة المعارف– بيروت/ 1412هـ – 1991م.
(11) اليقين بإختصاص مولانا علي بإمرة المؤمنين/ للسيد رضي الدين علي بن طاووس الحلي/ وأورد اكثر من 175 حديثًا / تحقيق الأنصاري/ دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع/ مؤسسة الثقلين لإحياء التراث الإسلامي/ الطبعة الأولى 1989.
(12) صناعة الكُتّاب/ لأبي جعفر أحمد بن محمد بن اسماعيل النحاس/ ص96 تحقيق د. بدر أحمد ضيف / دار العلوم العربية/بيروت ط1، 1410هـ- 1990م. (والمؤلف – رحمه الله-عاش في خلافة الخليفة العشرون من خلفاء بني العباس محمد الراضي بالله على رأس المائة الثالثة للهجرة).
الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]