23 ديسمبر، 2024 4:32 ص

في الأربعين… جوارح المؤمنين تسعى الى أوطان رب العالمين

في الأربعين… جوارح المؤمنين تسعى الى أوطان رب العالمين

حين تتدفق هذه الارتال المتواصلة من الزوار الكرام، الى مرقد أبي الاحرار الامام الحسين عليه السلام، فإن هذا الفعل لم يكن عشوائيا، أو لا إراديا، بل ثمة دوافع ومحركات إنسانية صرفة، مدعمة بالإيمان الجاد بوقفة الامام عليه السلام، هي التي تقف وراء هذه الحشود المتزايدة من الزوار، وتوجهها الى كربلاء المقدسة من كل حدب وصوب.
إن ملايين العراقيين الوافدين الى أبي عبد الله الحسين عليه السلام، من جميع مدنه وأريافه وحتى صحاريه ومئات الألوف من زائري بقية البلدان الاسلامية، إنما يعبرون بمسيراتهم الطويلة مشيا على الاقدام، عن إسنادهم لكلمة الحق، ووقفة البطولة الخالدة للإمام الحسين عليه السلام، التي أعادت مسار الاسلام الى طريق الصواب، بعد أن حرفه عن ذلك أعداء الاسلام، وتؤكد هذه المسيرات إيجابية الشخصية التي تشارك بمثل هذه الشعائر والطقوس، حيث يصبح الجميع تحت دافع ومحرك واحد، هو تأييد الامام الحسين عليه السلام، ثم الاستعداد التام للسير على نهجه القويم.
فالأمر لا يقتصر على الجانب التأريخي فحسب، أي أن السير الى أبي عبد الله عليه السلام، لا يمثل رفضا للظلم الذي تعرض له آل بيت النبوة، وينتهي الامر عند هذه النقطة، بل هو إعلان قائم، لرفض الظلم والطغيان في أي زمان ومكان، وهذا تحديدا سر خوف الطغاة من ملحمة الحسين عليه السلام ومبادئها التي هددت ولا تزال تهدد عروش الظلم، كونها تدفع باتجاه التحفيز الايجابي الدائم للتغيير نحو الافضل.
وهكذا فإن المشاركين في المسيرات المليونية المتواصلة نحو كربلاء المقدسة، إنما يعبرون عن وحدة الموقف والكلمة، لهذه الملايين المنتصرة لذواتها ولموقف الامام الحسين عليه السلام، وهذا بحد ذاته تعبير واضح ودقيق عن ميول الانسان ونزوعه صوب الحق، وهذا أيضا ما يُطلق عليه العمل حسبما تمليه عليه فطرة الانسان التي تدفعه نحو الصواب وأعمال البر والاحسان.
ولا ننسى أن نشير الى مبدأ التلاحم الاجتماعي الذي ينتج عن هذه المسيرات، حيث يشترك الجميع في تقديم الخدمات المطلوبة للزائرين، وهم يقطعون مئات الكيلومترات مشيا على الاقدام قد تتعدى 500 كيلو متر من بعض المحافظات والقرى النائية، فيجدون ما يحتاجونه في السرادقات المنصوبة على الطرقات والمواكب والبيوت التي تستقبلهم، وتقدم لهم ما يحتاجونه من مأكل ومشرب ومنام، وهذا ما يدفع بدوره الى تعميق اللحمة الاجتماعية للشعب، وكلنا تابع او شاهد على شاشات التلفاز، او سمع من الآخرين، أو قرأ في الصحف وغيرها، مشاركة غير المسلمين وغير الشيعة في تقديم هذه الخدمات للزائرين، وهذه الخطوة تنم عن روح ايجابية، تتطلع الى المشاركة والعطاء والتفاعل مع الجميع، وهي احدى بذرات هذه الزيارة، التي تجمّع المسلمين وتقرّب بينهم، وتجعلهم يتمتعون بالروح الايجابية المستعدة للتفاهم والتسامح والتعايش وفق رؤية متوازنة، مستمدة أصلا من مبادئ أبي الاحرار عليه السلام، التي تضع الانسان كقيمة عليا، وتحثه على مقارعة الظلم أيا كان نوعه او مصدره.
ان من أعظم مظاهر الولاء لأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هي تلك الجحافل والجموع التي نراها ويراها العالم بأسره تسير ولا من هدف لها إلا الوصول إلى البقعة التي اقتطعها الله سبحانه من الجنة ووضعها على الأرض، إلى كربلاء، إلى ترعة من ترع النعيم، ولا يكاد الناظر إلى هذه الجموع ينقضي عجبه من كثرة ما يرى من وقائع وأحداث وصور يحير لها عقل اللبيب، كيف لا وزيارته عن وعي ومعرفة تختزل عنه الذنوب وتجعله كمن ولدته أمه صفحة بيضاء بيد أنه ينبغي استئناف العمل كي لا يلوثها بالمكدرات مرة أخرى، عن الحسين بن علي بن ثوير بن أبي فاختة قال: (قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا حسين من خرج من منزله يريد زيارة الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام إن كان ماشيا كتب الله له بكل خطوة حسنة وحط بها عنه سيئة، حتى إذا صار بالحائر كتبه الله من المفلحين، وإذا قضى مناسكه كتبه الله من الفائزين، حتى إذا أراد الانصراف أتاه ملك فقال له: أنا رسول الله ربك يقرؤك السلام ويقول لك: استأنف العمل فقد غفر لك ما مضى). (تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ج6 ص43).لا يخفى ان أصل المشي إلى العتبات المقدّسة بصورة عامّة كالمشي إلى مكّة المكرّمة يرجع تاريخه إلى نبي الله آدم عليه السلام، فانّه مشى إلى بيت الله سبحانه سبعين مرّة، وأمّا زيارة الإمام الحسين عليه السلام مشياً على الأقدام، فانّه يعدّ من أفضل القربات إلى الله عزّ وجلّ، كما أكّد ذلك ائمّتنا الأطهار: فانه من أبرز مصاديق هذه الفقرة في دعاء كميل عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (وليت شعري يا سيّدي ومولاي أتسلّط النار على وجوه خرّت لعظمتك ساجدة وعلى جوارح سعت إلى أوطان تعبّدك طائعة) فمن أوطان التعبّد وأبواب الإيمان محمّد وآله الطاهرين، شفعاء الخلق أجمعين.
ثم لمشينا على الأقدام لكلّ المراقد المطهّرة لأئمّتنا الأطهار، ولاسيّما لسيّد الشهداء عليه السلام وفي خصوص يوم الأربعين، دلالات واضحة تعلن عن ولائنا الخالص لأهل البيت، وتجديد العهد والبيعة منّا له صغاراً وكباراً قلباً وقالباً، شعوراً وشعاراً، بالجوارح والجوانح، وكلّنا نصرخ ونهتف ليسمع العالم بأجمعه، إنّنا مع أئمّة أهل البيت معهم معهم لا مع عدوّهم، أجل مع الغائب منهم ومع الحاضر، ونلبّي صرخة الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء: (هل من ناصر ينصرني ) فنقول بكلّ وجودنا وحياتنا: (لبّيك يا حسين ) مهما تباعدت الأزمنة والدهور، وإذا قال ولده المهدي المنتظر الطالب بثأره: (يا لثارات الحسين ) فانا نقول بكل اخلاص وفداء: (لبّيك يا داعي الله ان لم يجبك بدني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وعيني وبصري) يا قرّة عيني، عسى ان نؤدّي جزءا لا يتجزأ من حقوقهم المهدورة بهذا المشي المليوني من كلّ أرجاء المعمورة، وفي كلّ عام في مثل زيارة الأربعين.