علي الراعي / ناقد من سوريا
«قالَ شاعرٌ كهلٌ لشاعرٍ شاب: لا تكن تعيساً مثلي ولا تحوّل عمرَك لدواوين حبٍّ طويلةٍ لامرأةٍ لا تستحقُّ حرفاً منها.. في النهاية، وبعدَ فوات الأوان لا فرق بين نظرات العاشق والأبله..».
هذه الدفقةُ الشعرية من مجموعة «استعارات جسدية» للشاعر نمر سعدي، الصادرة مؤخراً عن دار دلمون الجديدة بدمشق، هذه الدفقة لن تكون النموذج الذي يُمكن لمتلقي هذه المجموعة أن يقيس عليها، أو أن تكون جزءاً من كل المجموعة، ذلك أن الشاعر سعدي سيوزع نصوصه في سبعة أبواب، يكاد كلُّ بابٍ فيها يُفارق ما سبقه من أبواب أو ما تقدّم عليه لدرجة الاختلاف، ومثل هذا «التنويع» قلما يجده المُتلقي في تجربةٍ كاملة لشاعر، فما بالك في مجموعةٍ شعرية واحدة؟ بمعنى أن أول ما يتبادر لقارئ «استعاراتٍ جسدية» هو التنويع في سكب القصيدة في أوعية البياض، سواء من حيث الشكل، أم من حيث بنية القصيدة، وإن بقيت «الشواغل» هي نفسها التي تكاد تكون الملمح الوحيد الذي يأتي كخيط عقدٍ أو سلسلةٍ تجمعُ بين مجموعات أبواب هذه القصائد:
«راقصةُ الفلامنكو الجميلةُ،
تلكَ التي من حفيداتِ لوركا،
النحيلةُ كالغصن..
راقصةُ الفلامنكو التي لا تُشير إلى قمرٍ في السماء،
ولكن لمن يتفحّصُها من بعيدٍ بعينينِ من وهجِ الهندباء؛
تُضيءُ المكانَ بوشمٍ على شكلِ حوريّةٍ تتأهبُ للطيران،
ويتبعُها شجرٌ عائليٌّ إلى آخر الأرض..»
في أول نصوص هذه المجموعة التي يطلق عليها الشاعرُ سعدي «ثعلبٌ ينامُ في حدائق السرياليين»، هنا معظمُ النصوص تُقارب نوع القصة القصيرة جداً، سواء بالحكائية التي يشتغلُ عليها كمتحدثٍ بضمير الأنا، بمعنى شخصية الحكاية هي هنا «الضمير» الحاضر «أنا»، أو حتى بطريقة شكل الصياغة التي لا تهتمُّ بتوزيع التراكيب، أو ربما يقتربُ أيضاً صوب ما اصطلح على تسميته بـ«القصيدة العارية».. هنا حيث النص يفتقدُ أي موسيقا، حتى من نوع الموسيقا الداخلية للنص، وكل ذلك لصالح سردٍ كان حريصاً في مجموعة النصوص هذه على ألا تطولَ كثيراً.. لنقرأ هنا مثل هذا النص، الذي حرصت على أن أنقلهُ كما كُتب، وذلك للمقارنة بينه وبين القصة القصيرة جداً، سواء من حيث السرد الحكائي أم حتى بالكتابة على البياض:
«منذُ سنينَ طويلة، وأنا لا أفعلُ شيئاً؛ فقط أحوّلُ أغاني «اليوتيوب» إلى مناديل ورقية أسحبها بلطفٍ بالغٍ من «لابتوبي» الشخصي، وأمسح بها الدموع التي تتكورُ على ضفاف قلبي».
غير أن مثل هذا الشكل القصصي لن يبقى مع المجموعة الثانية من النصوص، تلك النصوص التي أطلق عليها الشاعرُ «مجازات وردةِ الحيرة».. هنا السرد سيطول من دون أن يتخلى عن «الحكائية» لكن من دون أن يصبح قصة قصيرة بالمُتعارف عليه، وإن كان الكاتب يبقي على مناخاته السوريالية التي يفعمها بالكثير من الشعرية العالية.. هنا تُفارقُ النصوص القصيدة إلى مناحٍ سردية إلى «قلبٍ مُخرّم بالسفرجل»، حيث يبلغُ السرد ذروته الحكائية، لكن من دون أن يُضحي بصياغة التراكيب المُدهشة التي نسجها من خيوط مفردات من سياقاتٍ مُختلفة، وليزيد في حالة السرد فإنّ الشاعر لا يهتمُ بشكلِ القصيدة على البياض، كأنّ ثمة نفوراً بينه وبين بياض الصفحة، فيزحمها بتلاحق التراكيب وتواليها خلف بعضها.
إذاً، السرد الحكائي، حتى لا أقول القصصي، ما يُميز البابين الأولين من نصوص هذه المجموعة، وهي بكلِّ الأحوال هي غواية – الحكائية – وهي ليست جديدة تماماً، غير إنه يوجد الكثيرون اليوم في «ديوان الشعر العربي» ممن يستخدمها حتى تكاد تُمحى من خلالها الحدود بين الكثير من الأنواع الأدبية لاسيما بين القصة القصيرة والشعر، فيما يتجه بالكتابة الجديدة منحى «الأقصودة»، أي ذلك النص الذي ينهض على مُكر نوعين إبداعيين «القصة والقصيدة»، يأخذ من الأولى الحكائية، ومن الثانية الشعرية، ومن ثمّ نوع ثالث يكاد يكون مختلفاً عنهما:
«آخر الليل عندَ تقاطعِ حلمين فوق البياض،
وعند ارتماء السكارى..
تقولين: هل مرَّ أعمى اشتهاءاته من هنا؟
وهل مدَّ قلباً لحزنِ امرأة؟»
غير إن الشاعر، وفي أبواب المجموعة التالية، سيتخذُ منحىً ثالثاً في شكل القصيدة، ومن دون أن يبتعد عن مناخات البابين السابقين، هنا ستُكثف القصائد إلى متوالياتٍ شعرية، يجمعُ كل عددٍ منها تحت عنوانٍ عريض، والحقيقة الجمالية اللافتة في مجموعة «استعارات جسدية» أن الشاعر كان مشغولاً بتشكيل عناوينه، فقد جاءت هي نفسها بتراكيب شعرية مُدهشة.. عناوين هي نفسها يضعها الشاعرُ في مهبِّ تأويلات القارئ، ومنها نقرأ: «العصافيرُ رزقُ المُحبِّ، اشتهاءاتُ قلبٍ فاشل، قمصانُ زليخة، الحبُّ كلبٌ من النار».. هنا حيثُ تنسلُّ المتواليات الشعرية من تأويلات العنوان، متواليات لا يفصل بينها سوى بمجموعةٍ من النقط:
«الشاعرُ، النزقُ، الأثيم
الصاخبُ، القطُّ المشاغبُ والأليفُ
الذئبُ، والولدُ المُدلَّلُ
والأميرُ الضالُ..
ضيّعَ في المرايا وجههُ
ضيّعَ قلبَهُ في رغوةِ الصلصالِ
أو طينِ الأنوثةِ للأبد..».
ومنذُ البداية، أي منذُ بداية المجموعة، «يشرحُ» سعدي ماهية القصيدة التي يُشكلها، يُحددُ اختلافها عما اعتادت عليه الذائقة العربية من نصوصٍ لشعراءٍ عرب كان لهم النصيب الأوفر بالتلقي في محنة القراءة في الليالي العربية.. يُفسّرُ سعدي قصيدته بنفسه من دون انتظار ناقدٍ، بل هو يوجهها إلى ناقدٍ ما، ربما قد يلتبسُ عليه أمرها.. يتحدّثُ عن «نصٍّ شعري» مُختلف بملامحه في كتابة القصيدة، وهو يذكرُ كلَّ ذلك بنصٍّ شعريٍّ أيضاً يقول:
«قصيدتي امرأةٌ صامتةٌ لا تصهلُ كأحصنةِ نزار قباني، ولا تذرعُ دهاليزَ التّبع كالسيّاب، وقطعاً لا تحبو على الأرضِ عاريةً كجدّها جرير، ولا تصطحبُ عشيقها في رحلةٍ نهريّةٍ.. الشيء الوحيدُ الذي تفعلهُ عندما تأتي هو أن تمدَّ يدها النحيلة مثلَ عودِ ثقابٍ وبدهشةِ طفلٍ غجريّ تُشعلُ وردةَ دمي المُطفأة..».
ربما يكون الشاعرُ مُحقاً فيما يوصفُ به نصه الشعري، أو «قصيدته» كما يُسميها، وهو يقولُ لك: ثمَّة طعمٌ آخر للشعر كهذا مثلاً، وثمة شجرةٌ أخرى للقصيدة، وهذه بعضُ ثمارها.. غير إنَّ ما أراهُ أنَّ لدى الشاعرُ «غواية» جمالية طالما دفعته في مختلف نصوص أبواب مجموعته لـ«ارتكابِ» المواربة.. هنا ثمَّة نص مُخاتل تماماً كالأبواب المواربة.. يذهب الشاعرُ من خلالها إلى الكتابة «عبر النوعية»، فهو وإنْ دوَّن على غلاف المجموعة «شعر»، غير إنَّ نصه كثيراً ما فاضَ عن القصيدة، أو قل كثيراً ما انحرف عنها صوب أنواع إبداعية أخرى، كنا قد ذكرنا بعضها في بداية هذا المقال، أو قل إنّ الشاعر يستدعي أكثر من نوعٍ إبداعي لمؤازرة قصيدته، والحقيقة أن القصة القصيرة طالما تحرشت بمكرها الجمالي بالشعر لدرجة التماهي معه في كثير من الأحيان، ومن بوابة «المواربة» أيضاً، إنه يُمكن للمتلقي أن يتلمس الأشكال الشعرية كلها تقريباً في نصوص هذه المجموعة من قصيدة النثر إلى قصيدة التفعيلة إلى تخوم الموزون، كما يستدعي «التشكيل» أيضاً، ويُمكن الحديث مطولاً عن المشاهد البصرية في نص الشاعر سعدي لاسيما وهو يقوم بجمع مفرداتها وتراكيبها تماماً كمصوِّر فوتوغراف أو كملوِّن في لوحة تشكيلية:
«كنتُ أخفي دموعي في أكمامي كالثعالبِ العاشقة
وأنا أبحثُ عن تفاحةِ قلقٍ ناضجٍ
في مطالع الجاهليَّة
وأبتسمُ في وجهٍ لا تعبيريٍّ لنادلةِ حياتي..».
*