23 ديسمبر، 2024 11:15 ص

في إصلاح التعليم الديني

في إصلاح التعليم الديني

في العام 2003، بعد أن بات تغيير النظام السياسي في العراق حقيقة لا يعتريها الشك، قررت مجموعة من الأصدقاء في المنفى استباق الأحداث وعقد حلقة نقاشية لتدارس الوضع الجديد. كان عدد المدعوين قليلا نسبيا (لا يتجاوزون الخمسة عشر شخصا)، “بصريون” جميعهم، ومن اختصاصات مختلفة؛ فيهم الكاتب والمحقق والتدريسي والخطيب. لن أتحدث عن دوافع المشاركين في ذلك الاجتماع ولا مقدار ما كانوا يأملون منه، لأنني لست واثقا من صحة ما سأقوله. في المقابل يمكنني وصف أجواء النقاش وبعض ما دار فيه من حديث.
كان النقاش مفتوحا وحرا، يتناوب الجميع فيه المشاركة، فيطرح كلُ من يصل له الدور ما يشاء من الأفكار والآراء، ثم يسمح للبقية بالتعليق على ما قاله. كانت الكلمات تعكس هموم أصحابها وأفقهم ونمط تفكيرهم ونوع الأسئلة التي يفكرون فيها. بدا وقتها أن جُلَّ المشاركين كانوا قلقين على مستقبل الثقافة والفكر الدينيين في العراق بنحو عام، وفي مدينة البصرة بنحو خاص. كانوا مهمومين بأساليب التكريس الأيديولوجي المذهبي لتعاليم طائفة دينية محددة ينتمون لها، بالانتصار لتاريخها وعقائدها وطقوسها وأعلامها، برفع الحيف الذي لحقها بحسب رأيهم جراء سياسات النظام القمعي الذي حكم البلاد لعقود. ومن هنا ارتأيت أن أقصر مداخلتي آنذاك على مقاربة هذه النقطة تحديدا بنحو مختلف عما قيل، فتحدثتُ عن مهمة إصلاح مناهج التعليم الديني في مدارسنا وجامعاتنا، عن طبيعة الدور الذي يجب أن ينهض به الكاتب والباحث والتدريسي ورجل الدين في مجتمعنا لمعالجة هذه المشكلة المعقَّدة .. قلت: إن أكبر نجاح يمكن أن نحرزه في هذا المجال، وفي هذا الوقت بالذات، هو الانتقال بمادة “التربية الدينية” من واقعها الأيديولوجي الدعائي الطائفي الممل، إلى مادة تعنى بـ”المعرفة الدينية” وموضوعها وأسئلتها وإشكالياتها ومناهجها، مع التركيز على الدين كـ”قيم” وليس كديانات وطوائف وطقوس. كنت أعلم ما سيثير هذا الرأي من اختلاف؛ ولذا لم يفاجئني تعليق أحد الأصدقاء حين قال مستنكرا: هل تريد أن نقود حملة تشكيك بالمذهب من داخل المذهب؟!!
اليوم أعود لتلك الذكريات بعد عشر سنوات من النظر في نتائج ذلك الرأي الذي مثّله التعليق الآنف الذكر، فأراها ومعي حشد كبير من الشواهد تسمح لي بوصفها بأنها نتائج “كارثية”، ليس في العراق وحده، بل وفي جميع البلدان التي تعتنق هذا الرأي أيضا من دول العالم الإسلامي كافة. نجد المتدينين يزدادون على بعضهم البعض غضبا وكراهية واقصاءً، يتعاظم يوما بعد يوم جهل الواحد منهم بالآخر، فيتشبثون بالطقوس، وتنمو في أوساطهم الروح الكيدية والثأر الدموي والاتهامات بالهرطقة ومكابرة الحقيقة.
كيف يحدث أن تسود البغضاء بين جماعة يدعي جميع أعضائها الحرص على نقاء السريرة وعفة الروح والاخلاص للحقيقة؟ و كيف نضع حدا لكل ذلك؟
سوف أستبعد وأنا أفكر بهذين السؤالين تلك الآراء التي تراوح بين تزييف الأسس التي تقوم عليها “المسألة الدينية”، وتلك التي تجد في “الدين” ضحية لدسائس و”مؤامرات” خارجية؛ لأني أجدهما عاجزين عن إقناعي بتفسير جميع تفاصيل المشهد الديني المعقد جدا والمتنوع بنحو مذهل. وفي الوقت نفسه فإني أفترض أن علي (طالما أن الحديث ذو أبعاد تربوية يستهدف أجيالا من الناشئة بنحو خاص) أن أقدم رأيي كتوصيات هدفها حماية ضحايا الفضيلة من الانزلاق نحو فخاخ التعصب والعنف والتورط في نرجسية الحقيقة وأوهام اليقين.
إن الجزء الأ كبر من الصراعات الدينية في العالم مردها إلى مصادرات فلسفية بشأن معنى “الحقيقة” ومضمونها وسُبُل الحصول عليها، والفكرة هنا واضحة: فالحقيقة مكتملة وبيَّنة ومصادرها محصورة في الخطابات التأسيسية (= الكتب المقدسة) للأديان. من هنا فإن المهمة الأكبر في تفكيك هذه القناعة الدوغمائية يجب أن تكرَّس في نظري لمعالجة أمرين:
الأول: يتمحور حول تفسير طبيعة الإدراك البشري وإمكاناته المنطقية وأساليبه وشروطه (= الإبستمولوجيا).
والثاني: يتمحور حول الانزلاقات الخطيرة التي تهدد الوعي البشري في مسعاه نحو فهم هذا العالم، وهي انزلاقات لايزال يتنامى الكشف عنها في كل يوم بفضل الأبحاث الثرية لعلم الاجتماع /وعلم نفس المعرفة.
إن انعدام الوعي التاريخي في فهم شؤون البشر الفكرية، وفصل التفكير الإنساني (في أي موضوع تعلَّق) عن سياقه التاريخي يعد مصدرا لأعنف الشرور وأحمق الجهالات التي وقع فيها الإنسان حتى الآن. لذا فنحن لسنا بحاجة فقط لتفكيك هذا التكريس اللاتاريخي للأفكار والقيم والمفاهيم الذي تمارسه الخطابات الدينية، وانما أيضا، وبنحو موازن، دراسة المناشئ الانثروبولوجية لتلك الخطابات، وكشف ما تختبئ وراءه من حوافز دنيوية تستثمر في عواطف الإنسان وآماله ومخاوفه من أجل بسط نفوذها وسيطرتها. إننا بأمس الحاجة لبناء نظرية شاملة في “مشاعر” الإنسان و”دوافعه”، والتي هي بمثابة طريق ملكي لإعادة قراءة وفهم كل تلك الصراعات والنزاعات والإقصاءات الحاصلة في تاريخ الإسلام باسم الحقيقة والشرعية والفضيلة … والإيمان بأنها لا تمثل في واقع الأمر إلا تنافسات “آدمية” وبدوافع”دنيوية” محضة.لقد مضت عشر سنوات عجاف على انعقاد تلك الحلقة النقاشية التي أشرت لها في مطلع مقالتي، ولم أر لهذه الأفكار والتوصيات (وهي آراء تعود لوقت أقدم من ذلك بكثير) من أثر أو عين، بل حصل ما يناقضها تماما، فهل لي أن أحلم بعشر سنوات “سمان” مقبلة تنجب طلاع جيل استغنى عن تذكيره بها؟
سننتظر ونرى