لماذا يريد كل الناس في عصرنا ان يتكلموا في الفقه و أسس العقيدة! لا اقصد الكلام في الدين و نظريات حوله او فيه او رؤى او محاججات ، فربما صح هذا الامر في بعض جوانبه اذ هو يتعلق بمعاش الانسان ومعاده ، وحيث كل يحاسب بفرده كما اخبرنا الله تعالى ، فالاصح ان يكون مثل هذا الحديث والفكر متاحا لكل ذي عقل او لديه نظر . لكن الفقه ، صحيح المعاملات و أحكام العبادات و الاستنباطات و الاصول و الحديث و هذه العلوم الخطيرة الشأن التي تتطلب دراسة ومؤهلات عظيمة لا يكاد يعرف عنها الذين يحشرون انوفهم في هذا الميدان اليوم أي تأصيل او تفريع او تقعيد او تأويل .
فضلا عن طرق الاستنباط ووسائل المقارنة والمضاهاة و المطابقة والمراجعة و الظن والقطع ، زائدا شروط الاجتهاد المعقدة التي اوصلها بعض اهل العلم الى اكثر من عشرين شرطا وثلاثين قيدا ، كل واحد منها لايكاد -لدقته وصعوبته- يتوفر في الواحد من الف الف نفر من خاصة العلماء والذين هم واحد في الالف من جملة المختصين انفسهم !.
فظن العوام من قولهم (للمجتهد أجر ان اخطأ) ان كل امريء له ان يجتهد حيث الخطأ لاشيء عليه الا الاجر ، فحسبوا -لضعف عقولهم- ان الامر بهذه السذاجة وعلى هذا المنوال . ونسوا ابسط مباديء التحذير من الخوض في الاحكام والفقه والفتوى وهي الحديث المرسل : “اجرأهم على الفتيا اجرأهم على النار” ،
فإن لم يصح عندك الحديث فانظر الى ماهو أوضح منه و اصدق واخطر ، قول الله تعالى : ﴿وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِۦ سُلْطَٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ فجعل القول على الله بغير علم بمرتبة الشرك و بمحاذاته ، فأي نهي وتحذير تريد اكبر من هذا.!
شيء غريب جدا ،، تقلب صفحات الاعلام و قنوات التواصل فتجد عددا كبيرا بل مبالغا فيه من الرجال من اصحاب الشهادات و الاختصاصات الاخرى ؛ التاريخ و الهندسة و المحاسبة و منهم “مطهرچية و حدادين سچاچين” بل و حتى النساء . الكل فتح دكانا و يتاجر بالفقه و يفتي و يناقش العلماء . بل انه ينقدهم و احيانا يشتمهم .
ما الذي يجري؟!
حقيقة لا اكاد افهم ، نريد ان نفهم ،،أعرف ان الزمن سخيف و تافه و نحن في ايام الرويبضة و و و ، لكن لماذا هذا التداعي على الفقه؟ كونوا شعراء.
الشعر مطية طيبة لمن يريد التعلم . و ها قد اصبح لدينا مليون و 572 الف شاعر في بلد عربي واحد ، أي بقدر عدد شهداء الجزائر لقرن الاستقلال كله!
كونوا كتابا في القصة او الادب او جربوا مواهبكم مع الرسم او الغناء . فهذه امور على الاقل يعالج الخطا فيها و يمكن ان تكون محلا للتجارب ولا خشية كبيرة من نقادها فهم لا يعاقبون ، و ليس فيها فتيا تودي بصاحبها الى النار وتقود سامعها الى الضلال.
لكن لماذا الفقه الاسلامي؟ ما الذي حدث؟ أناس يتقولون على الفقهاء و أناس يدعون فهم كل العبادات و المعاملات من خلال قراءة القران المباشرة ، دون فقهاء او مفسرين او حتى احاديث او سنة .بينما الصحابة الذين هم صحابة و عرب اقحاح كان يستشكل عليهم امر فيسالون النبي ثم ابن عباس ثم الامام علي ثم آل بيته.
﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰٓ أُوْلِى ٱلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنۢبِطُونَهُۥ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لَٱتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَٰنَ إِلَّا قَلِيلًا﴾
فأنت امام امرين ، اما ان ترد العلم الى الرسول واولي الامر (العلم) الذين يستنبطونه (فقه واحكام وتفسير) فهذا فضل الله عليك ، او تتبع الشيطان.
فلما غابت العترة الطاهرة انكب العلماء على التشرب من علمهم السابق، وكل علم ، و قبلهم كتاب الله و ماصح عندهم من اثر نبيه قولا وعملا ، كل ذلك مؤطر بلغة عربية كاملة ، وعلوم النسخ والمقارنة والعقل والاجماع وعلم القياس و العلم بشرع من قبلنا و العلم بآراء الصحابة و البحث في المصالح المرسلة و الغوص في علم سد الذرائع و إحكام علوم المنطق والكلام و علم فحص الادلة والتحليل و علوم اخرى حوتها الاف الكتب والمجلدات ، طورتها وتناقلتها الاجيال من العلماء جيلا عن جيل فدققت ، ورد منها بعضها و أقر على البعض الاخر كمثل كل علم.
فما لكم ايها الناس؟ فريق يلعن البخاري و آخر يدعي انه هو شيخ الاسلام ، و ان ابن تيمية كان مجرد ارهابي من تنظيم القاعدة .و ثالث يدعي انه حجة الاسلام و إن الامام الغزالي ليس الا كاتب فيلسوف. و اناس يهجمون على فقه ال البيت و يدعون انه لاقيمة له طالما هو واصل بالروايات ، و كأن القران وصل بالبلوتوث !؟
مالذي جرى لكم؟ هل جننتم .!
انا لسنوات اتحدث بالمحاججة العلمية دون تجاوز او غضب كما يعرفني من يقرأ لي .و مقالاتي موجودة على ال (گوگل) وفي صفحتي .لكني و الله وقفت حائرا تلك الايام مصدوما . لا اقول عجزت او انتهى عندي الكلام ابدا. ساظل باذن الله اكتب وأحاجج الى ان يبين ضحى لهذا الليل البهيم الطويل .
لكن دهشت ، ماذا جرى لكم ايها المثقفون؟
ما لكم و لعلوم الفقه و القران؟ لماذا ترون ان عليكم الفتوى والتخصص فيها و انتم مهندسون و مدرسون و اطباء و اعلاميون و ما الى ذلك؟ لماذا تظنون ان التحدث من قبل غيركم في علوم دنيوية تخصصتم بها امر خطير و تجاوز وخطأ ، بينما تجيزون لانفسكم التحدث بل المجادلة والفتيا في اخطر العلوم واكثرها دقة وفهما وحاجة لذكاء .
لماذا تتوهمون -او ربما تعرفون ولكن تدلسون على الناس- ان امر الدين غير امر الهندسة “لأن الدين للجميع”، ما هذه المغالطة السمجة؟ نعم الدين للجميع ولكن الفتيا والفقه والعلم ليس كذلك. فالهندسة للجميع ولكننا ارسلنا فرقة منا للتخصص بذلك وسلمناهم رقابنا ومايترتب على هذا العلم من نجاح او فشل يؤدي الى سقوط بناية وانهيار سد وتداعي جسر يودي بحياة الالاف و يخرب بيوتهم.!
الطب ايضا للجميع ولكننا اخترنا طائفة منا يتخصصون به و وثقنا بهم في علاج اجسادنا او ربما افسادها او افنائها بخطأ من احدهم لم يخلص في علمه او لم يكن مؤهلا له.
وهكذا كل علم ، فكلها للجميع ولاشك ، ولكن منهم عالم ومنهم متخصص ومنهم متعلم ومنهم مستفيد.
﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾
مالذي يجري ! لمن فتحت الجامعات العلمية و الشرعية و الفقهية و الكليات و كم الاساتذه و المشايخ الهائل هذا على مر القرون و الكتب و المؤلفات المتخصصة بمئات الالاف إذن .
هل تظن و انت جالس الى (الكيبورد الجامد) و البحث على محرك مبرمج و بنقرة و لدقائق انك ستحوي تلك العلوم كلها وتفهمها وتحفظ اصولها وطرق استخراجها ومصادرها ومواردها و تكون عالما ربانيا او فقيها او مفتيا ، فقط لانك تملك حجة ان الدين للجميع !.
اكيد للجميع . و الشعر للجميع ايضا و الزراعة للجميع و الفن للجميع و النجارة للجميع.
فلنكن كلنا نجارين اذن و مزارعين وشعراء و فنانين. ماذا دهاكم ! لماذا هذا التزاحم على العلم الشرعي و ادعاء امتلاكه من قبلك و نقصانه عند من سبقك ممن هم اهله.
كن واثقا اخي المتنطع في الدين وشأنه وعلومه , ان وساوس الشيطان وأوامره وراء اكثر ماتقوله : ﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾