لا تتوفر لديَّ ، بأسف شديد ،الإصدارات الشعرية لمهدي باستثناء بعض القصائد التي نشرها هنا وهناك قبل نهاية العقد السبعيني.أصدر مهدي في المنافي المتعددة المجموعات الشعرية التالية: “رحيل” عام 1978- وزارة الثقافة السورية – 1983 دمشق، و “سر التفاحة” دار بابل – دمشق 1987 ، و “شمعة في قاع النهر” وزارة الثقافة السورية – دمشق 1995 ، و “خطى العين” اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1996، و”سماع منفرد” دار المدى للثقافة والنشر/ دمشق – 1996، و “ضوء الجذور” وزارة الثقافة السورية – دمشق 2001 ، و “قطر الشذى” وزارة الثقافة السورية – 2008 – دمشق. سأتناول ،هنا، المختارات الشعرية التي اختارها الشاعر “عبد الكريم كاصد”،إصدارات – اتحاد أدباء وكتاب البصرة – على نفقة شركة آسيا سيل للاتصالات – دار الروسم -الغلاف ماجد الابطح – بغداد – ط1 – 2016. وتعد المختارات الأشعار الأولى التي تصدر لـ(مهدي محمد علي) في العراق منذ أن غادره مجبراً عام 1978، حتى وفاته ليلة 27 – 28 كانون الأول 2011، في حلب بسوريا. وأخمن أنها – المختارات – تعطي صورة شبه كاملة شاملة للتعرف على فضائاته الشعرية. في مقدمته المعنونة “بساطة الشعر وصنعته الماهرة”،يـقـر (كاصد) انه حتى هذه اللحظة، لا يمكن أن يتخيل مهدي غائباً، وقد يحتاج إلى زمنٍ ليقتنع إن رحلة (مهدي) هذه هي الرحلة الأخيرة : ” قبل أسبوع فقط من رحيله، اتصلتُ به، فكلّمني دون أن يبدو عليه أبداً أنه سيشرع برحلة على الأرض، أو في السماء، فلا صوته نمّ ولا ألفاظه، انه سيغادرني إلى الأبد. بضعة أيام هي ويدخل (مهدي) الأبدية.. تلك الأبدية التي كان يمرّ بها في شعره، فيمسها مسّاً رفيقاً وهو يبتسم أو يضحك. مهدي الذي يخشى المغامرة ويدخلها مغامراً،لا يفارقه الهدوء أبداً “.ويتحدث عن رحلتهما في الصحراء،على جمل، وحينها لم ينقطع (مهدي) عن طرائفه!!.” طرائفه هذه
التي لم تغادره حتى وهو في أصعب المواقف،ولعل هي ما يجعلني شديد الانتباه لجِدِّهِ أيضاً”.ويذكر، إن مهدي، في دمشق، بسبب العوز والحاجة ، كان يبيع ما يكتب بالقطعة ليعيش وأسرته الصغيرة عيشة الكفاف،وبالترافق مع مرض زوجته المزمن : “فما أكثر المقالات التي نشرها بدون اسمه، والمقاولون الذين باعوا مقالاته للصحف كثر وهم بارعون في تسويق بضائعهم أو فضائلهم”؟!.ويعلن”عبد الكريم كاصد” انه :” لن يتحدث عن الكتب التي كتبها (مهدي) والتي ظهرتْ بأسماء أخرى” ؟!. يبدو شعر (مهدي) لأول وهلة بسيطاً، ولكن ثمة صنعة خفية، صنعة ماهرة، وإمكانية ملموسة ، خلف تلك البساطة والتي لم تفارقه نهائياً،بل أنها ميزت قصائده وباتت أكثر وضوحاً واشد إحكاما في قصائده القصيرة، وحتى لا يبدو هذا الأمر، وكأنهُ رأيٌ أملاه الغياب النهائي المتجسد بموت مهدي، يعمد” عبد الكريم” إلى تضمين نهاية المختارات، مقالة بعنوان” طوفان المشاعر وبوصة الورق – قراءة في ديوان رحيل عام 1978″،وقد كتبها قبل ما يقرب من ثلاثين عاماً وهي فصل من كتابه (متنٌ.. هامش؟)، ليكتشف القراء أنهم إزاء شاعر من بين أجمل وأهم الشعراء العراقيين، و:” لم يستطع نقدُنا القاصر اكتشافَ عالمه الغنيّ،لانشغاله بما هو خارج الشعر”.لا نحاجج الشاعر “عبد الكريم كاصد” هنا ولا ندافع عن قصور النقد ، بل نُذَكّْر، بعد عام 1979، ذلك الزمن الـمـر، تغيرت الخارطة الثقافية- الاجتماعية كثيراً، بالترغيب والإكراه والبطش، وبات من الصعب جداً ،حتى الهمس، بأسماء الكتاب ، والشعراء ، والفنانين ، والمثقفين..الخ الذين عرف عنهم الانتماء ،أو مجرد (المولاة أو الصداقة) مع جهة سياسية ، كانت ، خلال تلك الحقبة ، حليفة للنظام ، وكذلك عدم توفر مجموعات “مهدي” في المشهد الشعري – العراقي، ولا زالت حتى الآن غير متوفرة ؟!. ولكن لنا حق السؤال في : لماذا صمت النقاد العراقيين،خارج العراق عن المجاميع الشعرية التي صدرت لمهدي في الخارج ، وبطبعات متعددة، وكانت متوفرة أمامهم، بمنتهى الحرية؟!.حتى كتابه النثري “البصرة.. جنة البستان”، لم يحظ بما هو مناسب ، على أهميته؟!. والأكثر دهشةً، وغرابة ، وألماً ، إن مهدي لم يدع إلى مهرجانات “المربد” الشعرية المتعددة، بعد
سقوط النظام، إلا مرة واحدة وفي المهرجان الأول فقط ، وضمن الشعراء والضيوف الذين يحضرون على نفقتهم “الخاصة”؟!. رسخت تجربة ( مهدي) الشعرية بداية السبعينيات بتواصله مع النشر، واعتماده ما سمي،حينها، بـ(القصيدة اليومية)، وشاركه في هذا المنحى ،بعض، شعراء عقد السبعينات العراقي، والذين ذهبوا إلى التقاط المشهد الحياتي اليومي، و مدلولاته الواقعية – الإنسانية، شعرياً ليحولوه إلى جزء من توجه فني – جمالي، متجسداً في واقع معطى، وليستحيل، شعرهم عبره ،إلى تميزه بـالألفة. ” أتذكر صندوقاً كبيراً كنت أكنز فيه مئات الصحف وقصاصات الأوراق وأشياء أخرى أتدلى فيه كما أتدلى في بئر بحثاً عن صحيفة قديمة أو قصاصة ورق أو تلبية لرغبة طفل بحثا عن أجزاء لعبة محطمة لقد ابتعد الصندوق ابتعدت غرفتي وابتعد الوطن وأنا الآن أتدلى نحو وطني كما أتدلى نحو بئر أليف وموحش!. ”
يستثمر مهدي محمد علي في بعض قصائد المختارات، ومنها: وطن،بالأزميل،قيلولة،المدينة،مطر،شارع البصرة،عابرة،لحظة رمضان،قيلولة،حمّى،أمي ..الخ ، ثنائية : الحضور – الغياب، حضور الذاكرة – الماضي ، وغيابها الآني، استدلال الأمكنة والأحداث والأشخاص بوضوح، محاورتهم ، طغيان ملامحهم ، الاحتفاظ بأدق الخصائص الواقعية
للمشهد – الماضي القابع في الذاكرة – غياب الوطن في المنفى واختراق المنفى ذاته في حضور الوطن، الناس، الأحداث، الصلات اليومية ، المدن ، الشوارع، الساحات العامة وغبارها، حدائق البيوت، الأزقة، البساتين، الأنهر ، ألوان الستائر، المنزلية، تراب الغرف المقفلة، وحتى فسحة ضوء نافذة المطبخ.هذه الاستحضارات، محاولة للتشبث بالماضي الهارب، استناداً إلى قوة الذاكرة وحضورها العيني- المتفوق، المتوقد من خلال إقصاء المنفى ، والعمل على نفيه كوجود متحقق، لا أمل بالفكاك منه، ومُعطى دون اختيار شخصي، ثم العمل على تجاوز حضوره اليومي – الطاغي المتجسد بالحاضر ذاته، الملموس المباشر. تعتمد ذاكرة (مهدي) الشعرية المشاهد بطريقة ليست حلمية، بل متجاوزة ومنظمة من خلال اشتغال آليات الذاكرة التي تستدعي الوطن (الحاضر – الغائب) ، وكذلك الصديق ، الأم، صبية الجيران والسياج الذي يتسلقونه : ” اعتاد أطفال الجيران أن يمتطوا السياج بيننا كالحصان إمرتهم أن يكفّوا فلم يستجيبوا، وظلوا محدقين فاكتشفت عيونهم الجميلة الملونة وحين كفّوا صار السياج بيننا فاصلاً واختفى ذلك النبات البشري المتسلق وأزهاره الجميلة الملونة!. ”
ثمة حضور يومي ، مستقى من بساطة الحياة، ومصادفاتها الغريبة، المدهشة المكتظة، فالأطفال، في قصيدة – سياج – بصخبهم وشقاواتهم والذين يمتنعون عن تسلق سياج البيت، بعد نَهرِهم، يحولون السياج إلى عازل عن الحياة ذاتها، بعد أن كانوا “النبات البشري المتسلق”، وتبادل الأدوار بين المانح والمتسكع في قصيدة – مواقع – والخاضع للمصادفة البحتة، وصَبيّة الحارس في قصيدة- ستائر- التي تراقب ستائر
المنزل،وتجهل لماذا وكيف وأين توضع تلك الستائر؟!. وتتحول الصور اليومية إلى فعل مملوء بالغضب والمرارة ، ويبقى الأمل الذي يفعّل هذه الكائنات البشرية ، المقتنعة بحياتها الهامشية التي تحولها اللغة البسيطة الماهرة، والصور الغنية المتقدة بالحياة، إلى نسيج يضج بالحركة والوجود المتوتر والإنساني. في بعض قصائد المختارات، تقبض ذاكرة المنفي على الماضي، لتستريح من أعباء الحاضر، ولتخترق الراهن وتسعى لان تمسك بالأشياء – الغائبة – ولتؤنسن العلاقات الشخصية، التي تتمسك بها الذاكرة بقصدية لمغالبة الحاضر المشخص عبر المنفى. تفعل الذاكرة حتى الجمادات، وتستدعي الكلاب السائبة النابحة ليلا في مشهد فنتازي، بقصدية، لتجاوز وقائع الحياة اليومية للمنفي قسراً، فحضور الطفل المتدلي مرتبط بفضاء الذاكرة لخلق معادلة مع الحاضر (الموجع – الموحش) ، تتشبث الذاكرة بالأشياء الهاربة من الحاضر والساكنة هناك، في الماضي البعيد، لكنها لا تتوقف عند الشخصي فقط : ” أما زالت غرفتي وحيدة تتمرغ في سكون الوطن الوطن الذي تلوى على رماد الحرب الحرب التي تلتهم الذكريات ؟!”.
“مهدي محمد علي” في كل ما كتب من شعر، تمكن من الابتعاد والنأي عن عادية الأحداث اليومية في الحياة العامة – الخاصة،وهو إذ يفعّل القبض على المشاهد اليومية، التي لا تثير انتباه غيره، ،فانه يجعلها في أشعاره، ذات مدلولات إنسانية، ويحولها إلى جزء يبدو لنا أليفاً من خلال اكتشافنا،تلك التفصيلات، اليومية العابرة، لتتحول إلى أجزاء متماسكة، ولابد من مسكها وتحسسها الجمالي، وفّعَلَ (مهدي) ذلك، بقدراته ،وإمكانيته،و الخاصة، على التوصيل في قصائده، وهذا: لا يتأتى إلا لشاعرٍ ذي مقدرة فنية واسعة تختفي خلف موضوع القصيدة، وليس فيه..إذ غالباً ما تفاجئنا الكثير من القصائد باللعب على المهارات الشعرية في ثيمات لا تدل عليها،وكأن الشاعر معني هنا بإظهار قدراته على النظم وليس معنياً
بالقصيدة.. تلك القصيدة التي تنشغل باستيعاب موضوعها جمالياً وفنياً ، بقي مهدي في كل حياته مخلصاً للشعر في تجلياته الفنية – الحياتية ،وتلك الحيوات – الإنسانية ، الهامشية بالذات، وقد حوله ذلك الإخلاص النادر، إلى شاعر يحدق في الواقع العيني بسعةٍ ورهافةٍ وينحو إلى التعامل مع ذلك الواقع وتعقيداته الفعلية، بعيداً عن المهيمنات التجريدية ،والتي تكون متناقضة ومفارقة لذلك الواقع،المعطى ، ذاته.
*ق 2 – من الورقة المقدمة في المحور البحثي الخاص بالشاعر مهدي محمد علي في مهرجان المربد الثالث عشر الذي عقد في البصرة للمدة 1 – 4 شباط 2017 والذي حمل اسمه ، والمحتفى به الناقد أ. د. شجاع مسلم العاني.