18 ديسمبر، 2024 9:49 م

فضاءات مهدي محمد علي النثرية – الشعرية (1 – 2 )

فضاءات مهدي محمد علي النثرية – الشعرية (1 – 2 )

أوائل السبعينيات، عُرف الشاعر (مهدي محمد علي) من خلال قصائده التي نُشرت في الصحف والمجلات العراقية. وبداياته الشعرية كانت في خريف عام 1961 حيث نشر فيها أوائل قصائده.وكتبَ في السبعينيات عن قصيدته” لقطات .. من مدينة تعانق النهر” التي نشرتها في جريدة ” الفكر الجديد” الشاعر والناقد والقاص الراحل “أنور الغساني”، وكذلك كتب الشاعر”صادق الصائغ” عن قصيدته”سياج”. مجلة (الكلمة) نشرت له في عددها الخاص بشعراء السبعينيات، قصيدة واحدة . “. كما ساهم في الكتاب الشعري (سلاماً أيها الحزب )، والخاص بالذكرى الأربعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، وساهم أيضاً في (الملف الشعري) الذي أصدرته مجلة (الثقافة الجديدة) كملحق لعددها المرقم ( 83 ) في تموز عام 1976 ، واختار الشاعر(هاشم شفيق) أربع قصائد قصيرة له هي:(ظهيرة/سحر الكينونة/أمومة / يا خوفي).ضمن( ديوان الشعر العربي في الربع الأخير من القرن العشرين- 1 – العراق) الذي يصدر بدعم (منظمة اليونسكو) وضمن مشروع (كتاب في جريدة). منتصف عام 1978 ولظروف عامة – معروفة، انتقل مهدي سراً إلى (بغداد) ،و بقي حوالي ثلاثة أشهر مختبئاً في شقة ،عبارة عن مخزن لحفظ البضائع ، ولا تثير اشتباه ، أو اهتمام أحداً ما، ثم غادر بصحبة الشاعر” عبد الكريم كاصد” العراق، بدلالة بعض المهرين ،عبر بادية السماوة ، في رحلة جحيمية دامت ثمانية أيام نحو(الكويت)، ومنها إلى عدن . عند زيارته البصرة عام 2005 وفي استضافة لاتحاد الأدباء والكتاب له، ذكر مهدي انه وعبد الكريم كاصد غادرا الكويت بجوازات سفر رسمية يمنية، وقد سافرا بطائرة متهالكة جداً تؤل لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، وإنها عند محاولة اجتيازها مياه الخليج العربي، كادت أن تقع هناك، فقال لـ(عبد الكريم كاصد):” حتى لو سقطت الطائرة هنا، وأصبحنا فريسة سهلة لكل ما هو مجهول في تلك المياه.. فأننا نكون قد نجونا”؟!. ظل مهدي سنوات في عدن، وعمل محرراً لقسم المحليات في جريدة (الثوري)، ومنها غادر إلى مناف متعددة لا حصر أوعد لها ، وتوفى أخيراً في حلب ليلة 27-28 / 11 / 2011 ودفن فيها. بقي مهدي طوال سنوات المنافي، يعيش حياته في “البصرة” وطفولته بالذات، وكتب عنها كتابه (البصرة..جنة البستان.. ذاكرة نثرية)- دار المدى – دمشق -1998 . وذكر في المقدمة :”أنه كتاب استذكاري.. وهو رؤيا طفل، لواقع مدينة البصرة في بداية العقد الخمسيني”..وقد استغرق منه ثلاث سنوات بدأ فيها من عام 1982 بعد أن تأكدت حالة النفي وحين استشرف المستقبل، ورأى انه لن يعود إلى مدينته إلا بعد سنين طويلة ، وربما لن يعود أبداً، وانه بالتأكيد، حتى وإن عاد، فهو لن يعود مطلقاً، إلى بصرة الطفولة والصِبا ، لأنها بدأت تتثلم منذ إزالة (الطاق) في (العشار) ومبنى (البنك العربي) وساعة (سورين) ، وتغير ملامح ( كورنيش) شط العرب، وكذلك مقهى بعض مثقفي المدينة والذين يغلب عليهم توجه سياسي معين، ومن المشخصين جيداً من سلطات ذلك الزمان وأجهزتها الأمنية المتعددة ، وهو مقهى” أبو مضر” و يطلق عليه شعبياً تسمية(الدكة).ومع تتابع وتواصل هدم ومحو شواخص وملامح البصرة بتعمد ولؤم من قبل أزلام السلطات المنهارة، وجلهم غرباء عن المدينة وتاريخها ، وقد لفظتهم البراري الجرداء والقحط ، ليكونوا مصدر القرار الأول، في مدينة الفكر و البحر والخضرة.و قد عملوا على فرض ذائقتهم المتخلفة عليها وعلى شواخصها التاريخية، التي تتميز بها عن سائر مدن العراق. كما يؤكد في المقدمة : ” قررت أن احمل بصرتي معي مهما تتبدل المنافي والبلدان، بكل أحوالها وتحولاتها ، ورأيت إن ذلك يستلزم أن أحفظها في صفحات كتاب ، وعليه باشرت برسمه بالكلمات..وقد رسمت المدينة كما رأيتها وعشتها ، وكما رأيت ناسها وعايشتهم من عمر الخامسة حتى الخامسة عشرة”.عن كتاب(البصرة..جنة البستان) يذكر الشاعر عبد الكريم كاصد :” حين كنا في سوريا،هاربين من النظام،نعيش متجاورين،مهدي وأنا، كان هو مشغولاً بمشروعه الرائع ( البصرة.. جنة البستان) وهذا الكتاب من أجمل الكتب التي صدرت في المنفى. قرأه الكثيرون: مهندسون، أطباء، عمال، طلاب، وتم تهريبه إلى العراق آنذاك، ولكنه للأسف لم يجد أي صدىً، في الجو الثقافي العراقي والعربي الصدئ”- خارج النص/ ص 73. حاول بعض الباحثين بعد سنوات على صدور كتاب (مهدي) إيجاد (تناص أو تواصل) ما بين” بصريثا..صورة مدينة” للقاص ” محمد خضير”- منشورات دار الأمد ،واغلبها مقالات نشرها الأستاذ “محمد خضير” بين الأعوام 1987 – 1990، في صحف ومجلات عراقية.وكتاب ” البصرة ..جنة البستان” الذي صدر زمنياً قبل كتاب الأستاذ خضير. إلا أن ذلك لم يكن دقيقاً ، إذ أن كتاب “بصرياثا” قد عمل فيه القاص”محمد خضير”،على طبقات عدة من أنواع السرد والرؤى متعددة الأشكال والمضامين ،موظفاً قدراته السردية – الفنية المتميزة للحفر في تاريخ المدينة ،وكذلك سطوة الحرب عليها ومتابعة اندثارها ، وتجددها المتواصل،والميثلوجيا التي اتسمت بها،وحاضرها خلال حرب العقد الثمانيني ، والذي تحولت فيه إلى مسرحٍ قاسٍ وضارٍ للحرب.”بصرياثا كتاب .. محير في طبيعة تصنيفه ،فهو ليس من جنس القص، أو السرد المحض، ولا هو بكتاب مذكرات ،أو سيرة..انه كما أراد الأستاذ(خضير) صورة مدينة،فيها مما ورد، ومما لم يرد في التوصيفات السابقة شيء كثير..وتمنح الاستعارة، بما تملك من قوة المجاز لغة الأستاذ (خضير)شعرية لا يمكن تجاهلها ،وهي تجسم النثر، وتجسده، ومن الجماليات المؤثرة فيه ، التضاد الذي يأخذ بعداً دلالياً يمنح التشكيل النثري متسعاً من المطابقة التي تبرز الشيء ونقيضه،مما يجعله يؤشر على: خرائط مواقع ،آبار،وغدران وبرك ووديان واكمات وجبال،ومراع، ومواطن قبائل تعوزها قدرة تخيل البرق عند بدوي يفرز السحابة الممطرة(المزنة) عن شبيهتها الكاذبة” ( د. فاضل عبود التميمي / لغة المحكي في تناص مع الجغرافية والتاريخ والشعر/ قراءة في خيالات محمد خضير الصحراوية/ صحيفة الزمان الدولية العدد/ 1676 / 4 كانون الأول/ 2003). كما عد بعض الكتاب (البصرة.. جنة البستان) من أدب السيرة التي تغدو مدينة الكاتب جزءاً من حياة كاتبها، وفي حالات كثيرة تصير المدينة هي الهدف من كتابة السيرة، وتجيء من خلالها سيرة الكاتب كفرد من الأفراد الذين عاشوا في تلك المدينة، ذلك ما عرفناه في سيرة الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف في كتابه” داغستان بلدي” و” الطريق إلى غريكو” لنيكوس كازنتزاكي”. ” البصرة.. جنة البستان- سيرة نثرية” ذكر كاتبه في مقدمته أنه:” رؤيا طفل، لواقع مدينة البصرة في بداية العقد الخمسيني”. إن جوهر الحنين للوطن هو الحنين للطفولة والصبا وما تأسس عليهما ، والوطن هو الأشياء والأحياء وما اكتنفهما من حوادث ومسارات ، الوطن هو البيوت وما فيها ، والدروب وما فيها ، هو الإنسان والحيوان والماء والشجر ، ولكن الإنسان هو العنصر الفعال في كل ذلك ، وهو في الوقت ذاته العنصر المنفعل بكل ذلك ، أن ثمّة فرقاً بين مكان الوطن وزمانه من جهة ، ومكان المنفى وزمانه من جهة ثانية ، وهو أن الأول منجز قد توقف ظاهرياً ، والثاني مفتوح يأتي بالمتوقع وغير المتوقع ، ويظل الوطن – رغم توقفه الظاهري – يتناسل في الروح ، ويستعاد مرات ومرات ، بسبب انفتاح المنفى ، وربما – أحياناً – بسبب انغلاقه وغموضه ، وفي كلا الحالين يظل الوطن يمور ويتناسل ، ولكن الأمر يختلف من مبدع إلى آخر ،فالبصرة ..جنة البستان بالنسبة لـ (مهدي) بضوئها وعتمتها كائنة في النصّ وان لم يتضمن ذلك النص النخلة والبلم ، أو شط العرب وجداول البساتين ، حتى وان لم يتضمن لقلق المئذنة أو الغراب الذي يسرق (الصابونة) من أرض (الحوش) ويمضي بها إلى السماء !. ثمة في المنفى ما يرسخ الوطن – البصرة – البيت – الجدار – الغرفة – المنضدة – نافذة الشناشيل ، فكلما أوغل الكاتب في الغربة أوغل في الوطن. وبالتالي فهو لا هذا ولا ذلك انه المزج بين الاستذكارات النثرية المطعمة بشيء من الشعر للكشف عن تصورات وأخيلة ذلك الطفل الذي يجلس في أعلى شجرة (التكي) ليتذوقها ويمسك بيديه صغار( البلابل) ولحمها الطري، ليستحوذ عليها، ثم وفي حالة من تجلي الطفولة الرقيقة ، يرق لصراخ أمها، التي تحوم حوله، فيتركها دون أذى، كما انه وعي الطفل وذاكرته الحادة جداً والتي تحتفظ بسمات مدينته.. ومع انه في المنفى لأكثر من أربعة عقود إلا انه يتفحص قصص مَن عايشهم فيها ومنهم أمه و إخوته وأخواته وجيرانه وأصحاب طفولته ، من الذكور والإناث ، وحتى أصوات بائعي (الصمون الحار والقيمر صباحاً)، وكذلك يؤرخ لصوت (البلبل) الذي عادة ما كانت تبدأ (دار الإذاعة العراقية) بثها الصباحي بإشارته، والذي يختفي صباح 14 تموز 1958ليذاع بدلاً عنه ،البيان الأول للثورة، التي فتحت أبواب كثيرة و متعددة من السعادات، والهناءات ، ومختلف أنواع التحولات والحراكات الاجتماعية المقموعة سابقاً، ومنها كثير من النشاطات المدنية – الحضارية التي لا عهد أو تراث للعراقيين بها.

* ق 1- من الورقة المقدمة في المحور البحثي الخاص بالشاعر مهدي محمد علي في مهرجان المربد الثالث عشر الذي عقد في البصرة للمدة 1 – 4 شباط 2017 والذي حمل اسمه ، والمحتفى به الناقد أ . د . شجاع مسلم العاني