19 ديسمبر، 2024 1:21 ص

فان كوخ : الثورةُ الأبدية !

فان كوخ : الثورةُ الأبدية !

يبدو واضحاً أن هذا الكوكب السيّال ينتفض بين عصرٍ وعصر. تنشّقُ أراضيه، وتهوى جباله العالية، وتتمخض عن عرابيد وسلاطين، شهداءٍ ومجانين أصحاب رؤىً، يحملون الثورة الدائمة، فيجعلون الدنيا من حولنا جديدة في كل مرة يأتون إليها. ويبدو أيضاً أن عالمنا البائس الوحيد كان على موعد مع اثنين من هؤلاء الذين غيروا إلى الأبد مسار الأرض، ومنْ عليها. الصبي رامبو الذي أدهشنا حين قال إن للحروف ألواناً لا ترونها، فضحكنا منه، بل واغتصبنا كل براءته، وتركناه يموت وحيداً في غرفة باردة في مرسيليا، وهو الذي أخبرنا بأن العالم من حولنا يستحق التبريك. والثاني فان كوخ الذي  رسمت حياته فنه، وأخذ يصفعنا على وجوهنا منذ البداية، لعلنا نصحح مواضع أعيننا، فما استطعنا، وتركنا ابننا المدلل، العاق رينيه سكريتان، يقتله بطلقة عابثة من مسدسه الذي صار يقلد به رعاة البقر الأمريكان، فأردى الفنان الذي لا يعرف شيئاً عن المسدسات على لوحته التي لم تكتمل. مات رامبو في السابعة والثلاثين، ومات فان كوخ بعد سنة، وفي السابعة والثلاثين أيضاً، فأي قدر بائس قدرنا نحن البشر؟
ترك فان كوخ كل شيء صنعناه، المدرسة، والعمل، والصلوات، والعائلة، وسار يحمل رسومه وألوانه من حقلٍ إلى حقل، ومن شمسٍ إلى شمس، ومن عاصفةٍ إلى عاصفة، حتى عاد الابنُ الضّالُ مضرجاً بدمائه، مثل كل الشهداء والشعراء الذين رسموا لنا طريق الحرية، وقالوا إن كنتم شجعاناً، اسلكوه، وما أخذتنا الخطى إلاّ على طرق الصدّ والوعيد. يهرع كوخ في البداية إلى اللون. إنه البحر في جنون العاصفة، لكن ما أن تومض نار الأمل في عيون هذا الولد الهولندي الخائب حتى تأتي المصيبات مترادفة، والناس عموماً لا تصدق حكايات الكبار، ذلك لأن الحياة نفسها هي الشارح الوحيد، والمترجم الوحيد، وذلك لأن هؤلاء الكبار يقبضون الشمس الحارقة في عقولهم، ويخزنون العواصف في قلوبهم. ليسوا منا. رسم لنا فان كوخ من حبّه المعذّب، ومن يأسه القاتل لوحاتٍ رائعات تبهر أبصارنا الكليلة، وتومض بالأمل. إنه الفن، عزاءُ المحرومين، وسلوى اليائسين. رسم فان كوخ صوراً رائقة تقول شيئاً لا تنطق به حتى الموسيقا، إنها الأبدية. نجومٌ فسفورية تتألقُ وتتقافز في نشوة غامرة حول قمرٍ ليمونيٍّ وحيد، والسماء وحيدة عارية. زهورٌ بريةٌ تومضُ في حديقة غنّاءٍ، تسفعها شمس البحر الأبيض المتوسط اللاهية. غربانٌ تتموج وحدها فوق حقول القمح العسجدية. هنا نعرف أن الرصاصة التي نالت من فان كوخ هي رصاصة الرحمة، ذلك لأننا لا نتحمل الكثير من الجمال. نكفرُ بالحقِّ، وذلك قدرنا، نحن البائسين. كان فان كوخ يرسمنا في استسلامنا المهين للعبودية. سار بنا من رقصة النور البسيطة على السطوح إلى نموذجٍ تعبيريٍّ خاص يضيءُ به عالم الجنون، ويعيد صناعة العالم فيجعله مرآةً رائقة تعكس خلجات الوجدان، فتبدو زهور عبّاد الشمس الصفر وهي تبارك أمّنا الشمس. كل ما رسمه فان كوخ، رآه أمامه واضحاً، وكل ما نرى منه اليوم يبدو مضبباً في عقولنا التي مافتئت تخفي المطلقَ عنّا. غاب فان كوخ بعد أن وجد صوته، وما زلنا نتلعثم حتى أمام منْ نحب.
Steven Naifeh and Gregory White Smith, Vincent van Gogh: The Life. Random House

أحدث المقالات

أحدث المقالات