25 نوفمبر، 2024 9:52 م
Search
Close this search box.

غوركي ومينا: سيرتان متشابهتان وتجلّيات أدبية مشتركة؟

غوركي ومينا: سيرتان متشابهتان وتجلّيات أدبية مشتركة؟

امتازت نتاجات مينا ومكسيم غوركي بقُدرتها التأثيريّة وبعكسها للقضايا التراجيديّة المأساويّة، التي تقوم بدورٍ توجيهيّ وتحريضيّ وتعليم الصمود والتصدّي.
تختصّ ثقافة الشعوب وحضاراتها وفنونها وآدابها بسماتٍ خاصّةِ بالشعب المُبْدِع والمؤسِّس لهذه الحضارة، وبالرغم من التمايُز والاختلاف بين الحضارات والثقافات الإنسانيّة، يبقى هناك العديد من السِمات المشتركة من حيث النشوء والتكوين. لهذا من المُمكن إيجاد بعض نقاط التقاء وتقارُب ومُوازاة بين الحضارات والثقافات، خاصّة بين الدول القريبة من بعضها جغرافيّاً، أو تلك التي تمتلك علاقات اقتصاديّة خلال مرحلة مُعيّنة. وهنا نجد ميّزات وخصائص مُشتركة تُقرِّب الثقافات والحضارات لهذه البلدان من بعضها البعض(1).

لقد تناول النقّاد العرب الأدب الروسي وسجّلوا بعض آرائهم حوله، وأنا أرى أنّ التّعميم بين كاتبين على هذا المنوال غير صحيح، فمهما أثّر أحد الكُتَّاب في أدب الآخر يبقى لكلٍّ منهما أسلوبه ولغته ومنطقه.

فإذا تقصينا أثر السيرة الذاتيّة على تجلّيات الإنسانيّة عند كاتبين واقعيين أحدهما سوفياتي وآخر عربي، سنجد خير مِثال لهذا البحث الأديبين مكسيم غوركي وحنّا مينا.

وفي هذا الشأن يقول مينا: “إنّما نعرف ونحبّ بوشكين وتولستوي ودوستويفسكي وغوركي وماياكوفسكي، وشولوخوف وتيخنيوف، واستفدنا من نتاجاتهم التي تُرجِمَت إلى اللغة العربيّة، وتأثّر الكتَّاب السوريون أشدّ تأثيراً بالنتاج الكبير للأدباء السّوفيات وخاصّة بالطّرق الإبداعيّة الغنيّة والصوَر الرائعة، وتأثّرنا إلى أبعد الحدود بمذهب الواقعيّة الاشتراكيّة” (2).

امتازت نتاجات مينا ومكسيم غوركي بقُدرتها التأثيريّة وبعكسها للقضايا التراجيديّة المأساويّة، التي تقوم بدورٍ توجيهيّ وتحريضيّ وتعليم الصمود والتصدّي.

ويتناول كل من الكاتبين أهم القضايا المُعاصِرة التي يعاني منها المجتمع في تطوّره، والعلاقة الدياليكتيكيّة بين الإنسان والمجتمع، ويركِّز حنّا مينا على عالم الإنسان الداخليّ وسيكولوجيّته وبحثه الدؤوب عن الحياة.

ويُعدّ مينا من الكتَّاب السّوريين الأوائل (بعد الحرب العالميّة الثانية) الذين تمكَّنوا بعبقريّةٍ من عَكْس حياة الشعب بكلّ أبعادها، وهذا ما يراه القارئ في نتاجات مينا من واقعيّة الصوَر الأدبيّة للحياة الاجتماعيّة.
لعبت نتاجات غوركي مصدر إلهام بالنسبة لمينا، ولا يُخفى على القارئ أنّ سيرتيّ حياة الكاتبين فيهما الكثير من الشبه والمُعاناة. فنتاج مينا يتّسم بالصبغة الاجتماعيّة الواقعيّة، وبالكره الشّديد للمُستغلّين من الطبقة البرجوازيّة والتعاطُف الكبير مع الفقراء. وتجربته الحياتية ربما تكون مُشابهة لما اختبره غوركي نفسه، إذ يقول الأخير: “أصبحتُ إنساناً مسؤولاً عن نفسي منذ العاشرة من عُمري، ولم يكن لديّ أيّ مورِد كي أتعلَّم، وكلّ ما فعلته أنّني قد أخذت ألتهم الحياة التهاماً وأعمل حيثما تُتاح لي الفُرصة أن أعمل”.

لقد اقتفى مينا أثر غوركي في تصوير عالِم الإنسان البسيط الذي يحيا في رواية غوركي (الحضيض)، وعكس عالم المُتسكّعين واللصوص. ففي الوقت الذي تكلَّم فيه غوركي عن البطالة في ظروف تسلّط الطبقة الرأسماليّة، صوَّر لنا مينا العامل والفلاّح السوري في ظروف النضال من أجل التحرّر من الاستعمار الفرنسيّ.

وطمح الكاتبان لبناء الحياة السعيدة النقيّة؛ وهذا يرجع إلى سيرتهما الذاتية القاسية التي أثّرت في أدبهما حيث غلبت النزعة الإنسانيّة على رواياتهما بالمُجْمَل، فكان انسجامهما قائماً على مبادئ إنسانيّة وأفكار سياسيّة اشتراكيّة آمنا بها وسخَّرا لها مساحة كبيرة من أعمالهما.

فقد اعتمد مينا في العديد من نِتاجاته على توصيف وتجسيد الانطباعات الراسخة في مُخيِّلته منذ الصّغر، وهذا ما نجده في رواية “بقايا صوَر” التي تعكس حياته من حيث الموضوع وتسلسُل الأحداث، كما هو الأمر في ثلاثيّة غوركي التي صوَّر فيها حياته وظروف تشرّده في روسيا القيصرية.

وحول هذه النقطة أشار الكاتِب السوري سعيد حورانيّة إلى تأثير غوركي على نِتاج السوريين التقدّميين قائلاً: “من بين الكتَّاب السوريين الذين تأثّروا بأدب مكسيم غوركي حنّا مينا”.

في العام 1987 صدرت رواية “المُستنقع” وهي الجزء الثاني من ثُلاثيّة مينا، وتطرَّق فيها إلى إشكاليّة تكوّن الإنسان وتطوّره ضمن ظروفه الصعبة من خلال العلاقة الجدليّة بين الفرد ومُحيطه، فعكس لنا العلاقات الاجتماعية في مُنْتَصف القرن العشرين.
إنّ ثلاثيتيّ مينا غوركي سيرتان مُتقاربتان كونهما تصبّان في محيط المدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة ، فتعكس هاتان السيرتان تاريخ جيلين من حياة الشعبين الروسي والعربيّ.

ونجد أنّ كلاً من غوركي ومينا قد ركّز على تصوير الطبقات المُتناحِرة في المجتمع وعلاقتهم مع بعضهم البعض، ففي الصفحات الأولى من سيرتيّ غوركي ومينا يُدرِك القارىء موقعهما المُعادي للفئات المُستغِلّة، وانتمائهما المبدئي إلى قضيّة الشعب العامِل.

وإذا دقّقنا بين شخصيّتي ألكسي بيشكوف وحنّا مينا الطفلين سيتّضح لنا الكثير من التّشابُه في مصيري الكاتبين، ونلاحظ تطوّر تكوّن شخصيّتيهما كما كان هناك تطوّر مُماثِل في حياة الشعبين الروسي والعربيّ. وكان كلٌّ من الكاتبين صورة مُصغَّرة عن تطوّر شعبه من خلال جيله مع الاختلاف في الفئات الاجتماعيّة في روسيا وسوريا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ولكنّ الكاتبين على الرّغم من التباعُد الزمني بينهما فقد خصَّصا القسط الأساسي من نشاطهما لرواية حياة طبقتي العمّال والفلاّحين، والمسألة المركزيّة في ثلاثيّة سيرة (غوركي) كانت قد تكوّنت من الوعي الثوري والشخصيّة الثوريّة، بينما لم تكن هذه المسألة في وصف شخصيّة البطل الأساسي لــ (بقايا صوَر)، بل تمكّن حنّا من التنّبؤ باقتراب التحوّل الاجتماعي الهامّ في البلد.

وفي “بقايا صوَر” يكشف مينا عن أُطر عملية التحرّر الفكري التدريجيّ في وعي الشعب السوري لقيود التخلّف التي كبّلته قروناً طويلة، ويكشف المؤلِّف عن الصِراع الحادّ الذي يقوم على أُسُس النزاع على الملكيّة الخاصّة، على غِرار غوركي الذي عكس في ثلاثيّته (الطفولة -بين الناس- جامعاتي) طفولته البائسة التي لم يرَ فيها يوماً سعيداً في بيت كاشيرين.
وقد وصف مينا سنوات حياته المليئة بالجوع والحِرمان والأمراض مع عائلته المعدومة عندما كان التفاوت الطبيعي كبيراً في المجتمع السوري، وعكس غوركي صورة جدّه (كاشيرين) كإنسانٍ قاسٍ، يستغلّ الجميع بينما رَسَمَ حنّا أباه بصورة الإنسان ضعيف الإرادة.

يقول أبو حنّا في (بقايا صوَر) لزوجته: “أعرف، أعرف أنّك لا تذكريني. دعيني. أنتِ لا تعرفين ما قاسيت. الرجل لا يقول لزوجته كلّ شيء. المهمّ أنّ المبارك أعطى، والأيّام كالريح الطيّبة صارت مؤاتية، ونحن سنرحل، ولو ملأوا يديّ بالذهب سأرحل” (3).

رأى مينا أنّ والده كان ضحيّة من ضحايا الظلم الاجتماعي الذي قتل عزيمته فكان يصعب على هذا الرجل أن يرى الأمل بعد أن تهجَّر مع عائلته من لواء الإسكندرون مروراً بالإقطاعيين الظّالمين إلى التشرّد والبؤس.

وعندما نقارن جدَّة أليوشا بيشكوف وأمّ حنا مينا، نرى تشاركهما بالحنان المفرط والذكاء الحادّ والتذوّق الفنيّ للجمال، وعالم روحيهما وقلبهما الودودين، وحبّهما الكبير لكلّ البشر والأطفال.

ويكشف مينا عن مصير أمِّه الصعب التي عاشت حياتها كلّها في ظروف العذاب؛ لأنّ الأب كان إنساناً غير مسؤول لا يهتمّ أبداً بتربية أطفاله ولا بتأمين حاجياتهم.

ولهذا كانت أمّ حنا مينا أمَّاً وأباً للعائلة. كانت إمرأة ضعيفة ورائعة اضطرت للعمل خادمة في بيوت الأغنياء لإطعام أولادها، ولكن بالرّغم من شدّة مُعاناتها إلا أنّ عالمها الرّوحي لم يتأثّر أبداً، فكانت ثقافتها تزداد باستمرار وكانت تحبّ كلّ النّاس، ورأت في إبنها حنّا الأمل الوحيد الذي سُينقذها من آلامها فقرَّرت أن تصمد.

ويقف حنا مينا موقفاً إنسانياً بحتاً في مُجمل أعماله، ومثله في هذا مثل مكسيم غوركي الذي احتجّ على كل ما يُسيء إلى الإنسان ويحطّ من كرامته الإنسانية. كما يُدين الكاتبان شتَّى الأنواع السلبية في التخاذُل والاستسلام أمام الصعاب، ويُناديان بمتابعة النضال والكفاح، واستيعاب الحياة بكل أبعادها، والتشبّع بكل دقائقها حتى يعيش الإنسان هذه الحياة بحريّة وكرامة، ولا يأسف عند اقتراب النهاية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات