كان على موعد مع البكاء، نعم انه يوم مميز للنواح، لم تكن الذكريات وحدها هي من يبكيه، لوعة الفراق اخذت منه مأخذا، حاول
يسيطر على نفسه، لكنه حين دخل الى غرفة الضيوف قابلته صورهم، فصرخ صرخة عالية، وراح ينشج نشيجا مرا، يدور في البيت،
يصعد الى اعلا الدار، هذه غرفة فلان، وهذه غرفة فلان، الغرف فارغة والثياب على حالها مرتبة في الخزانات، راح يشمها ودموعه
تسيل، هبط السلالم ثانية ليبدأ رحلة مأساة اليوم الاول من العيد، عليه ان يكون قويا امام حفيداته الثلاث، وعليه ان يكون قويا في
اتصاله بحفيده وحفيدته من ابنه الآخر، يجب ان يواسي زوجته ويكون قويا امامها، وعليه ان يستقبل الناس على العادة الدارجة، هم بالخروج من البيت لجلب الاضحيات، كانت اضحية واحدة في العام الماضي، وها هو يجلب اضحيتين لابنائه الاثنين، من يضحي
لمن؟ هكذا كان يخاطب نفسه، دفنتهم بيدي هاتين، وانا الآن اضحي لهم، كان يركز دائما على الاضحية الجديدة، هذه الاضحية لابنه
البكر، لم تنشف عيناه طوال اليوم منذ الصباح الباكر، البكاء هنا اجباري ، عليه ان يبكي ويبكي ليرى الى اي مدى تستطيع الدموع ان
تغسل الاحزان، يتحين الفرص ليكون منفردا ليبكي على راحته، لايريد ان يزيد الم اولاده بالبكاء امامهم، يتحرك بكل الاتجاهات،
وحركته الدائبة بدون هدى، الجرح العميق الذي بداخله لايعرف احد حجمه، ولايستطيع اي انسان ان يقدر حجم الالم، هو الوحيد الذي
يعرف ذلك.
كان يبعد الاطفال عن الاضاحي، ويقدم لها الماء والحشائش، ويهتم بها ايما اهتمام، انني اعد الليالي والايام لالتحق بهما، عانق اخاه
الاصغر وبكى وهو يقول: هذا هو العيد!، كم مرة اصطحبهما الى السوق ليشتري لهما الثياب الجديدة، كم مرة كان العيد حقيقيا عندما
كان الصباح يشرق وهما يقبلان يديه ويتمنيان له الصحة والعمر المديد، كان يدعو لهما بالتوفيق والنجاح ، وفعلا نجحا فكان الاول
(مهندس) والثاني (طبيب)، وكان فرحا بهما جدا، ويفخر بهما امام الجميع، حتى الآن يحتفظ باللافتة: الدكتور فلان الفلاني، ويقارن
دائما بينها وبين شاهدة القبر، حتى العيادة تبرع بها لاحد زملاء ولده، ووصل الامر الى جهاز قياس الضغط، لقد تبرع به هو الآخر،
يذهب هنا وهناك، ويعود ثانية الى الصور، يتفحص قسمات وجهيهما، اكلك فلان: منو الاحلا ، الصورة هذه ام هذه؟ فيجيبه اخوه:
اثنينهم حلوين مع دمعة يحاول ان يخفيها ويردد:
(حلوين بس ناموا على الكاع….واتراب غطاهم ابساع
ضاع الربه والتعب هم ضاع…زتهم ورد مايوس كلبي)
فيتدخل احد ابنائه ويحاول تهدئته، فيصطحبه الى غرفة اخرى ، كان الزمان جميلا عندما كنتم صغارا، ليتكم لم تكبروا، كيف بي
وعندما كنت ارى احدكم مريضا اصاب بالهلع، فكيف وقد دفنت اخويك، كيف لهذا القلب ان ينبض ويعود على قيد الحياة، هدأه قليلا:
ماذا تقول لآباء وامهات شهداء الكرادة، لقد تسلموا من الطب العدلي كيسا صغيرا يحتوي على بقايا عظام، وماذا تقول لذوي شهداء
سبايكر، وماذا تقول للذين تناثرت اعضاؤهم فما عاد احد يميز بين رأس هذا ورأس ذاك، لتكون الاطراف في مكان غير مكانها وتدفن
وهي بصحبة شخص ثانٍ، نحن نعيش في بلد اسمه العراق، وهذا البلد لايعطي لاهله سوى الموت، وعلينا ان نعتاد على هذه الحال،
نعم انها ارض ملعونة والموت فيها هو المسيطر ، حتى النواح والبكاء هنا يختلف ، انه يتميز بحالة وراثية، وراثة الالم من جيل الى
جيل، صارت طرق البكاء في العراق متعددة، وهي تدخل ضمن الفنون التي يتوارثها الناس، لم يكد ينهي حديثه، حتى تناهى الى
اسماعه صوت عويل مؤلم، خرج من الدار ليستوضح جلية الامر، شاهد علما عراقيا يلف تابوتاُ وتقف السيارة امام احد ابواب جيرانه، دخل في المعمعة وراح يفرغ احزان.