ترك الكاتب والمخرج المسرحي الراحل “جبار صبري العطية” ، إرثا مسرحياً تجاوز الثمانيين عملاً توزعت بين التأليف و الإعداد والإخراج وكتابة البحوث التوثيقية عن المسرح وفن الأوبريت في العراق والبصرة بالذات ، وقد ارتقى لأول مرة خشبة المسرح حينما كان تلميذاً في الدراسة الابتدائية عام 1950، كما مثّل وهو في الدراسة الإعدادية في مسرحيتي”أهل الكهف – لتوفيق الحكيم” و” عرس الدم- للوركا”، ومثل معه زميله المرحوم الممثل “طعمة التميمي” في المسرحية الأولى ، وأخرجهما أستاذنا الفاضل القاص الرائد “محمود عبد الوهاب” بين عامي 1956 -1957 عندما كان مدرساً في ثانوية الملك”فيصل”. و للراحل(العطية) سبق الاهتمام بمسرح الطفل، إذ كتب واخرج وقدم أول مسرحية خاصة بـ”مسرح الطفل” في البصرة عام 1961. واخرج أوبريت “نيران السلف” من الحان الفنان “مجيد العلي” وقدم في البصرة ، ثم سجل تلفزيونياً بعد تقديمه على مسرح قاعة الخلد في بغداد ،كما كان عضواً مؤسساً لنادي الفنون في البصرة وهيأته الإدارية ، قبل ختمه بالشمع الأسود من قبل السلطات الحاكمة في نهاية السبعينيات، وأصبح ضمن جماعة “كتابات مسرحية” التي ضمت الناقد والكاتب المسرحي بنيان صالح والناقد الأستاذ ياسين النصير والناقد المسرحي حميد مجيد مال الله والمسرحي كاظم عيدان لازم والمسرحي عزيز الساعدي. وقدمت له نصوص درامية تلفزيونية عدة منها:الناس للناس إخراج صباح رحيمة، و سائق للاجرة إخراج المخرج طارق الجبوري.وقد تعرض الراحل لعسف السلطة إذ تم اعتقاله في نهاية السبعينيات بحجة عضويته في”الحزب الشيوعي العراقي” وأصيب جراء التعذيب الذي طاله حينها بعوق في أذنه اليسرى، وتم نقله من عمله في التعليم الى مكان آخر، وعند تأسيس معهد للفنون الجميلة في البصرة، انتدب بصفة (خبير) للعمل فيه، ولعدم موافقات الجهات الأمنية، تم الاستغناء عن خدماته في المعهد. وقد جاء في وصيته التي أملاها على الأستاذ المسرحي “هلال العطية” ليلة وفاته في 23 /11 / 2004 بأن:” يُصنع تابوته من أخشاب المسرح و كفنه من ستارته، و يُخصص له مقعد خاص به ، في كل عرض مسرحي قد يقدّم بالمدينة”. تحاشى جبار العطية في سيرته وكتاباته وأعماله المسرحية المتنوعة التي وظف لها كل عمره، وأكلت كثيراً من صحته، مغازلة المؤسسات الثقافية السلطوية ومنطلقاتها ، وبقي في أعماله وثيماتها المسرحية ينشد الحق والحرية والعدالة الإنسانية والجمال متوجهاً إلى الناس الذين طحنتهم الحياة وقساوة الأنظمة معرياً المخاتلات والتواطؤات بوضوح أمسى فيه الوضوح سبة، وظل يفخر بوضوحه، وتم تجاهل أعماله ونصوصه المسرحية بحجج واهية وذرائع قصديه ، كما تعرضت للسرقة بلا حياء ، وواجه ذلك بجرأة كادت تودي به، ولم يتراجع أو ينحني حتى تم الاعتراف له بذلك، حدث ذلك في منتصف التسعينيات وخلال مهرجان (الوفاء المسرحي في البصرة) حينما شاركت فيه فرقة مسرحية (خليجية )تبين إن مسرحيتها مسروقة حرفياً من مسرحية للراحل تتناول سيرة (البحار ابن ماجد) ، وقام بسرقتها (احد طلابه) وباعها لـ”مؤلف مسرحي خليجي”، وقد انبرى الراحل (العطية) وفي قاعة بهو الإدارة المحلية ، بعد نهاية العرض مباشرةً بتوضيح ذلك للمشاهدين، بأعلى ما يستطيع من صوت جهوري، رغم احتجاج المسؤولين الحزبيين والسلطويين عليه بحجة انه (يسعى لإفشال المهرجان). وقد زاره في مسكنه ذات الليلة وفد من بعض المشرفين على المهرجان لتسوية الموضوع وكان بينهم الفنان عزيز خيون ود. باسم الأعسم ومعهم (طالبه السارق المسرحي) الذي أكد عائدية النص المسرحي للعطية وسرقته له وقدم اعترافا خطياً بتلك الواقعة، وقد تم تسوية الموضوع باقتراح ذكر عائدية النص المسرحي للراحل العطية في الجلسة النقدية الصباحية، وصدرت أوامر رسمية (سلطوية- حزبية) بعدم إثارة الموضوع إعلامياً بحجة احترام ((مشاعر الأخوة الضيوف العرب)).تميز العطية بوفائه للمبدعين البصريين الأحياء منهم أو الذين ارتحلوا قبله ، ووثّق حياتهم وأعمالهم الأدبية والفنية في أعماله المسرحية ، خاصة الموندرامية . وتعامل في موندراماته بصفتها فناً جمالياً يعنى بما هو إنساني وشاهد على مرحلة التسعينيات ، وما رافقها من حصار قاسٍ خَلفَ انهيارات جمة في العلاقات الاجتماعية العراقية ، وكان أقسى أنواع العقوبات الهمجية التي فرضت على الشعب العراقي ، و استطاع النظام حينها إن يلقي بثقلها الغالب على العراقيين ، والتخلص منها بالنسبة إليه، و استغلال تلك العقوبات ووضع العراقيين بين ناريين، ناره المستعرة التي لم تخمد ، ونار الحصار المتواصل والفتاك والذي أصاب البنية الاجتماعية العراقية إصابات باهظة مما ولد ظواهر وأمراض وجرائم وسلوكيات لم يعتدها المجتمع العراقي سابقاً، مع انه قد خرج من حروب طاحنة، لم يجن منها غير الخسران والقتلى والمفقودين والمعوقين والأرامل والأيتام والجوع وخراب شامل طال كل بناه التحتية والاقتصادية. قدم “العطية” موندراماته المتعددة بعيداً عما هو مباشر أو زائل ، متناولاً محن الإنسان وهمومه الحياتية اليومية والروحية، ملامساً العلاقات الاجتماعية من دون أن يُضيّقَ بها توجهه المسرحي- الفني، وانتقل في موندراماته الأخيرة ،بالذات، من تقديم الحلول لمشاكل اجتماعية وسياسية بمباشرةٍ كان قد اعتمدها سابقا في توجهات يمكن أن تسمى “أيدلوجية “، ولم يكن هذا الانتقال يسيراً، و جاء بعد دأب متواصل وانفتاح جاد في أفقه الفني المسرحي من خلال إعادة كتابة نصوصه المسرحية مراتٍ عدة ، مقتنعاً أن ذلك التوجه الفني السابق ليس مناسباً حالياً، ولا علاقة له بما هو حاصل في تطورات المسرح الفني المعاصر و وظيفته الجمالية و الاجتماعية.
لقد فَعّل” العطية” في ” موندراماته” ، مخاطبة الآخر، ليس الآخر نقيض الذات أو الأنا المتضخمة التي تغدو بمثابة التجسيد لكل ما هو غير مألوف بالنسبة للذات الإنسانية، بل الآخر بصفته المصدر الحقيقي للأنا التي لا تستطيع أن تتخلق أو تتعايش خارجياً ضمن حدودها وانعزاليتها المغلقة إنسانياً أو اجتماعياً من دون أن تتماس مع الآخر، وتدين القوى التي تسعى لأن تشوه طهارة ذاته ونقائها. والآخر الذي كتب له وعنه “جبار العطية” وأدخله بصفته جزءاً من كيانه الشخصي بنزوع أخلاقي رفيع ليس (جحيماً) ، بل قدمته موندراما “تحت المطر”(*) خلال” 12 ” مشهداً، بحميمية ومعه مدينته التي يسكنها ويعيش فيها ، وله فيها علاقات لا حدود لها، وتدمرها الحروب العبثية وما رافقها من قصف مدفعي يومي، وتواصل ديمومة انتهاكها ومكوناتها عبر التحكم والتعسف السلطوي ، ويتجلى ماضيها الغني الإنساني عبر شواخصها الدالة عليها، وتختلط زققة “طائر الحب”وهو داخل قفصه،في الموندراما، بأصوات الانفجارات وانين الضحايا وقتلى الحروب- المتواصلة، أو المغدورين في أمكنة وأزمنة أخرى، وتعلقهم بين ثنائيات: الحياة /الموت ، الحب /الكراهية ، المقت/التسامح ، الثأر/ الغفران، الأمل/ اليأس . ويبرز النزوع الطبيعي لتشبث الضحايا بالحياة ،التي لا تُعاش إلا مرة واحدة، خلال أجواء الحرب وكآبتها بأصوات القذائف والأجواء الموحشة المحيطة بالمسكن وساكنه الوحيد ، ويظل متوحداً مع ذاكرته المتوقدة ووجوده المادي المهدد بالفناء في أية لحظة قد تسقط فيها قذيفة أو صاروخ على مسكنه ؛ ويستحضر رجل/ الموندراما/ الذي هو في” الخمسين من عمره أو أكثر بقليل” (ص 9 ) ، تلك الحياة المدينية والاطمئنان والدعة والسلام التي كانت تتميز بها مدينته وأجهزت عليها سنوات الحروب، من خلال طائر الحب ، المحبوس في قفصه و المرعوب، بافتراس الموت له في اي لحظة. ويُلاحظ أن البطل في مونودرامات “العطية” التي كتبها و أخرجها في العقد التسعيني، قد تجاوز مرحلة الشباب العاصف ومفعماً بالصبر والتأني والحكمة ودقة التصورات والرؤى العامة المتسعة، ولا تشغله المطامع الخاصة أو المنافع الذاتية ويتحرك على وفق قناعاته الشخصية- الاجتماعية ويواجه امتحان الخيارات الإنسانية بتوتر ؛ خاصة زمن البؤس التسعيني وخلال سنوات الحصار الذي ترك غالبية العراقيين يقعون تحت وطأة رثاثة الحياة اليومية. وتغدو ذاكرة البطل، خلال منولوجاته الخاصة ولغته الرمزية الدالة ، مفتوحة على الواقع الدموي الذي ميز عقد الثمانينيات ووقائع الحروب البربرية التي خضع لها الإنسان العراقي، ويستحضر/ الرجل/ الوقائع الدموية التي هرست كل الأحلام والتمنيات بعجلاتها الدموية المسننة وسط أصوات المدافع وراجمات الصواريخ والدبابات ، وهي تجوب المناطق السكنية التي تزعق في شوارعها سيارات الإسعاف لتلتقط ما قد بقي من بقايا الجثث في المدينة- البصرة تحديداً- خلال نزوح سكانها عام 1987 حينما بات القتال يجري على أقرب القصبات لمركزها. وفي موندراما”تحت المطر”يحاور/ الرجل/ وهو كاتب مسرحي (ص11)، عائلته التي ارتحلت بعد سقوط قذيفة على بيتها، وطائر الحب وهو في قفصه وتُرك دون طعام وماء(ص15 ) مستخدماً الهاتف، في محاولة منه لمعرفة مصائر أصدقائه ومعارفه من الكتاب والفنانين والمثقفين، ولا أحد يرد عليه ، ومع ذلك فهو يحاور ويسرد بصفاء كل ما يستطيع أو يرغب ، ويستعيد المدينة وبعض علاماتها الثقافية الدالة عليها ومنها: أستاذه في الصبا وصديقه في الكبر صاحب “القطار الصاعد إلى بغداد” ومحاضرته حول”الأساليب الحديثة في الرواية”(ص 29 ) والقاص الطباع صاحب”الندبة الزرقاء” (ص30 ) والشاعر”حارس فنار المدينة” الذي ينشغل بأعداد “الوليمة للزائر المجهول”(ص31) وصديقه القاص و”ساعاته كالخيول” وهي تجوب “مملكته السوداء” (ص32 )، ويستمتع /الرجل/ وهو في محنته ووحدته بنثيث “أناشيد المطر” متطامنا مع الأضواء البعيدة المتوهجة لـ” شناشيل ابنة الجلبي”(ص34 )، ومعلمه صاحب “مجرى الاوشال”(ص36 ) وجماعته المعنية بـ”كتابات مسرحية”(ص39 ) وعلامات ثقافية أخر عرفها وقرأ لها وحاورها و مثل معها وأخرج بعض مسرحياته بتعاونها معه، وأمكنة ذات نكهة محلية تاريخية فريدة تتميز بها مدينته، و يأسى لرفرفة طائر الحب المرعوب، ويستخدم الكاتب موسيقى للموندراما متداخلة مع زققة الطائر وأصوات انفلاقات القذائف للتعبير المجازي عن ثنائيات، الحرب/ السلام، الحب/ الكراهية ،الأمن/الفوضى،امتلاء المدينة/ وفراغها الموحش، النزوح/ البقاء. ويعلو صوت الرجل وهو يخاطب بكل ما في أعماقه من حنان وحب ووله، البيت/ الوطن ،المهدد/ المستباح، وبعد سماعه صوت انفجار قوي مدوي قريب منه يردد: ” ايها البيت المرسوم في حدقة العين.. الساكن في القلب..منك ابتدأ الحب.. وفيك آخر الحب..وبينهما يكبر العمر مزهواً بك “ص( 49 ). وأخيرا يفتح الرجل باب القفص لطائرهِ ، ويغادر طائر الحب قفصه ، ويظل يدور ويزقق بتواصلٍ وحنان داخل البيت الذي تهاوى طابقه الثاني بفعل قذيفة حرب سقطت عليه، دون أن يدنو/ الطائر/ من بابه الرئيس المشّرع تجاه الخارج،ويحتضن الرجل طائر الحب الذي يبقى يواصل الزقزقة.
ـــــــ
(*) تحت المطر/ ثلاث مسرحيات- موندراما/ هي”تحت المطر/ليلة انتظار/ جياع ولكن” / وزارة الثقافة- بغداد.