23 ديسمبر، 2024 8:07 ص

عن السياب، والخصيبيين الجدد

عن السياب، والخصيبيين الجدد

نشر الشاعر الكبير طالب عبد العزيز في جريد الصباح ليوم أمس الخميس، قراءته “الخصيبية” لأنشودة المطر، وكأنه يوحي بأنه هو أيضا خصيبي كالسياب، فلم هذا الإهتمام الكبير به وحده، فيقول إنه “لا يرى في جملته الهادئة . . . أكثر من شاعر يتأمل المطر بتجرد من التأويلات . . . وبلا محمولات أخرى.” ومن هنا يبدأ التسطيح عند الشاعر طالب عبد العزيز، فيحاول في كل مرة أن يجرد القصيدة من كنوزها المثقلة بالمعاني الإنسانية العميقة. وهذا ليس جديداً، فبعد نشر “أنشودة المطر” في مجلة الآداب البيروتية في حزيران 1954، كتب الناقد الأدبي المعروف عبد اللطيف شرارة يقول: في هذه القصيدة كغيرها من قصائد الشعراء المحدثين في العراق يتحلل ناظمها من قيود المدرسة العربية، ولكنه يعجز عن أن يهز قرارة الوجدان! هكذا!

ثم يقول طالب إن السياب كان متردداً بارسال القصيدة إلى الآداب، كما أنه لم يمنحها الكثير من الإهتمام. وهذا كلام مناف للحقيقة التأريخية، فقد كان السياب قلقاً جداً من هذه التجربة الجديدة على الشعر العربي كله، ولم يكن يعرف أن قصيدته هذه ستكسر عمود الشعر العربي القائم منذ آلاف السنين، وتحطمه إلى الأبد. ولا يخفى أن الشاعر قصيدة. أليوت في أرضه الخراب، ورامبو في مركبه السكران، والسياب في أنشودته.
.
لقد تحدث الكثيرون عن تأثر السياب بكتاب السير جيمس فريزر، “الغصن الذهبي”، لكن دعونا الآن نحتكم إلى قراءتنا لهذا الكتاب، وننظر بتجرد، فلا نجد بينه وبين قصيدة السياب غير قاسم مشترك واحد، ضعيف جداً، وهو صورة الرحى التي لها عند السياب وظيفة سلبية، بينما وظيفتها عن فريزر إيجابية، فهل يعقل أن الشاعر يتأثر بشئ ويقلبه رأساً على عقب؟ هذا أمر مناف للعقل. ثم ما الذي يدعو السياب إلى اللجوء إلى اليونانيين والرومان في الحديث عن الموت والميلاد؟ وما معلقة لبيد غير حديث عن الموت والميلاد، وما الشعر كله من الملحمة البابلية وحتى اليوم غير حديث عن هذين المتقابلين. وما دام هذان موجودين، فالشعر قائم وموجود.

ثم يمضي الشاعر طالب عبد العزيز في تخريجاته، فيقول بأن السياب في استخدامه كلمة “المهاجرين”، كان يتحدث في القصيدة عن “الكعيبرية” المتسللين إلى الكويت، ولا علاقة لهذا بالمهاجرين المسلمين الأوائل. حسن، لكن المهاجرين هؤلاء في القصيدة هم الصوت الثالث فيها بعد صوت الراوي، وصوت الشاعر، وهم ثابتون، ومظلومون، ينشدون للجوع. وما كانت رسالة المهاجرين الأوائل بقيادة جعفر بن إبي طالب أمام النجاشي الحبشي؟ قالوا: لقد جعنا! جعنا، يا صاحب العدل! بالإضافة إلى ذلك، فإن كلمة “المهاجر” مفردة لم تكن محلية معروفة في الخمسينيات حينما كتب السياب قصيدته، و لم تكن مفردة عمومية، فمن أين أتى بها الشاعر؟ لا بد من تفسير.

ثم يقول الشاعر طالب عن الغربان في القصيدة بأنها ليست طيور الشؤم التي نعرفها، بل هي “البعيجي”، وهي طيور صغيرة مهاجرة تأتي إلى البصرة في زمن معين ، وتنظف النخل وتهيئه للموسم القادم . . . . شر البلية ما يضحك! فالسياب جاهل بالطير! ولا ينتبه الشاعر طالب من أن “الغربان” تأتي في قصيدة السياب مقرونة مباشرة بالجراد . . والشوان . . والحجر، فعن أي بعيعي نتحدث! ما الغرض من هذا التسطيح!
.
تنتهي قصيدة السياب بعبارة: “ويهطل المطر”، أي ويستمر الجوع.
أفلا ترون بأن الأفاعي مازالت قائمة في بلادنا، تسرق رحيقنا.

لم يكتف السياب بالبحث عن الذهب، بل نقّاه، وغسله، وعرضه علينا تحت الشمس. وهبنا السياب الجمال، فشكراً له.