18 ديسمبر، 2024 6:26 م

علي رجل بين الحرب والسياسة

علي رجل بين الحرب والسياسة

كانت مهمة الامام عليَّ عليه وأله السلام، في زمن خلافة الاول والثاني والثالث، هي تقديم النصح والإرشاد، بعدما لم يتح له استرجاع حقه في الخلافة..
حتى عندما آلت اليه الخلافة لم تكن الدولة الإسلامية بأحسن حال، وإنما كانت تعيش أزمات سياسية واقتصادية ومجتمعية خانقة.

بدأت الأزمة السياسية بثورة المسلمين ضد الخليفة الثالث، لتتحول بعدها الى ثورة مسلحة، تحاصر بيته وتنتهي بمقتله, ولم تأتي من فراغ، وانما نتيجة للتراكمات والازمات السياسية والاقتصادية والمجتمعية..

السياسية كانت نتيجة وضعه كل مفاصل الدولة بيد أقاربه من بني أمية، ليصبحوا هم الولاة والقضاة، والقابضون بأيديهم على اركان الدولة، ولم تكن قرابتهم من الخليفة السبب الأوحد، بل لأنهم كانوا مرفوضين من قبل المجتمع الإسلامي، امثال الحكم وابنه مروان طريدا رسول الله صل الله عليه وعلى اله وسلم, وعبد الله ابن سرح الذي ارتد عن الإسلام في عهد الرسول, وولى الوليد ابن عقبة، المعروف بشرب الخمر، الذي صلى في الناس صلاة الصبح اربع ركعات وقال قولته “لو شئت لزدتكم” ويقصد زيادة عدد الركعات لشدة ثمالته، ويذكر انه تقيئ في محراب الصلاة، فكان وجود هؤلاء وغيرهم مستفزاً للمسلمين.

اما الاقتصادية تمثلت بسيطرة بني امية، على مقدرات الدولة الاسلامية، ونهبهم لها واستحواذهم على المناصب العليا فيها، حيث وصفهم الامام في احدى خطبه قائلاً (… فقام معه بنوا ابيه يخضمون مال الله خضم الإبل لنبتة الربيع…) وهنا فرق الامام عليَّ بين القضم والخضم فالقضم بمقدمة الأسنان، أما الخضم فهو بأواخرها فذكر نبتة الربيع لطراوتها وسهولة ابتلاعها قبل مضغها وطحنها، وهو وصف دقيق لحجم سرقة مال الله، مما سببوا ازمة اقتصادية خانقة،

وينقل ان الخليفة الثالث أعطى مروان خمس مصر اي (ثروتها) واعطى عبد الله خمس المغرب العربي، ويصفهم رواة التاريخ بأن لهم ثروات هائلة ولهم من الذهب ما يكسر بالفؤوس، بالمقابل كان المسلمون يعانون من الجوع والفقر، فخلق طبقتين من المجتمع (طبقة برجوازية متخمة) و (طبقة فقيرة مسحوقة) مما سببوا ازمة اقتصادية خانقة، لتخلف ازمات اجتماعية..

لنمو الفقر داخل المجتمع بصورة ملحوظة، بعدما فرقوا بين الإعراب والاعاجم، والمهاجرين والانصار، واقاربهم وحواشيهم وعامة المجتمع، من حيث العطاء وقضاء الحوائج، وبدأ المجتمع ينقسم داخلياً طولاً وعرضاً، بتحالفات قبلية ضد مجموعات قبلية أخرى، وبان التفكك وعادت الأعراف الجاهلية تغزوه من جديد لتخلق تيارات جديدة.

كل هذا يؤكد ان الامام عليَّ عليه السلام استلم الخلافة والدولة الاسلامية على حافة الانهيار، وليس ما يروج انها كانت دولة متماسكة وقوية.

ارادوا تسليم الخلافة للإمام علي بعد رحيل الخليفة الثاني، حيث اشترطوا عليه ان يحكم “بسيرة الشيخين” لكنه رفض ان يجعل نفسه ودولته امتداداً لمن سبقه من الخلفاء، فحالوا دونه ودون الخلاف وسلموها للثالث.

لكنه اصبح خيارهم الوحيد بعد مقتل الثالث، فأرغمهم على قبول اصلاحاته، وكانت من اهم الصعوبات التي تواجه دولته الفتية، عزل كافة عمال الخليفة الثالث، وتعيين ولاة جدد يديرون شؤون الدولة، وهذا ما اثار حفيظة الامويين واخذوا ينصبون العداء له ولدولته، ومن هنا بدأت الحروب والفتن معهم، لفقدانهم الدولة والحكم في آن واحد، فاضطر للحرب لإعادة الامور الى نصابها.

بدأ بالإصلاح الاقتصادي، حيث طلب من اصحاب رؤوس الأموال إخراج اموالهم الى السوق لتشغيلها في التجارة والاستثمار في الزراعة وبناء المساكن، وغيرها من الأعمال التجارية، وساوى في العطاء, ورفع التمايز بين الناس، فانتعش الاقتصاد.

لتأتي مرحلة الاصلاح الاجتماعي، في محاربة جميع السياسات التي رسختها الدولة السابقة، ونبذ التفريق بين المجتمع، وأعاد ترسيخ المبادئ الإسلامية المجتمعية.

فعمد الى تغير النظام بالكامل، وبناء دولة جديدة، وكل دولة جديدة من الطبيعي أن لا تكون قوية في بدايتها، بالمقابل ان الإصلاحات جعلت له اعداءً، وهم بقايا “النظام السابق” الذين تحولوا من اصحاب حكم الى أناس عاديين، بعدما كانوا يقبضون الأموال الضخمة أصبحوا يستلمون رواتبهم حالهم حال الآخرين، فهذا الأمر لا يرضيهم، فتجمع الناكثون على الحرب لاستعادة الحكم، وكانت الجمل بوابة الصراع مع دولته, ثم حرب القاسطين في صفين, ليتلوهم المارقون في النهروان.

كان للحسد نصيب في صناعة الاعداء للإمام علي، فعندما يقول الرسول (ص) فيه ((انا مدينة العلم وعليٌ بابها)) قطعاً سيحسده القوم على ذلك، وهناك مقولة لمعاوية حسداً لعلي “لو كان لي واحدة ما عند علي خير لي مما طلعت عليه الشمس” وهذا دليل واضح على ما يمتلكه علي من فضائل جعلته هدفاً لأعدائه، فالعلم والحكمة والدراية، التي يتمتع بها علي لا يشابهه بها احد..

اما شجاعته فلا تنكر، وكان يوم الخندق خير شاهد، عندما قال الرسول(ص) ((ضربة علي يوم الخندق تعادل عبادة الثقلين)).. فحتماً لا يوجد في شجاعته احد، فحاولوا ان يجعلوه في خانة الحرب وابعاده عن ميدان الخلافة،وينفردوا بها لأنفسهم.

كان الامام علي (ع) مجبراً للحفاظ على كيان الإسلام ودولته ممن سرقوا مال الله، ومنعهم من الاستحواذ على السلطة مرةً اخرى، وهذا ما آلت اليه الامور بعد استشهاده، ونكث معاوية للاتفاق الذي ابرم بينه وبين الامام الحسن عليه وأله السلام، بإعادة الخلافة لأهلها من بعده..

هذه الاسباب وغيرها أوحت “شكليا” بأن الدولة الاسلامية في عهد علي أبن أبي طالب، لم تكن بأحسن حال.. فكثرت الحروب. الفتن، لكن فاتهم أنها كانت بأفضل حال من حيث سيادة العدل والقانون، والمساواة وحفظ الحقوق، وارتفاع المستوى المعاشي وانخفاض الجريمة.. لقد كان رجل دولة يجيد السياسة والحرب وسياسة الرعية، ولم تشغله أحداها عن الأخرى.. وإن لم تكن تلك هي الدولة العادلة، ولم يكن علي هو رجل الدولة الناجح، فهل هناك نموذج أحسن منه؟!