6 ، 7 – التجديد في الشعر العباسي
الفاخوري وطه حسين والجواهري استطراداً ، ورأيي حول أرائهم ، اللّهم رحماك يا رب ..!!
1 – المقدمة :
عندما اضمحلت اللغة اليمانية بما فيها من شعر ونثر ، وقامت مقامها اللغة الحجازية بآدابها بعد سيطرة قريش بفصاحتها – ولا أقول سلامة لغتها -على ملتقى تجار العرب وساداتهم وصفوة رجالاتهم ، ولما نزل القرآن الكريم سحَرَهم إعجازه ، وعذوبة ألفاظه ، وما أن طلّ العصر الأموي حتى تعصبوا لأحزابه ، وأصبح الشعراء لسان أحواله ، وتقدم العصر العباسي بعد الفتوحات يهلهل بأعجامه من فرس وأهل هند وسند وأحباش وروم وأغريق وصقالبة ، ويغنّي بجواريه وقيناته ، وتـُترجم له اللغات الأجنبية ، لسان أعرق الأقوام السابقة ،لإثرائه بالفلسفة والطب والحكمة والحكايات والعلوم والفنون ، عقبى هذا الاختلاط ، تفنن الشعراء بأساليبهم ومعانيهم وصورهم وإيحاءاتهم ، وحاولوا زخرفة كلامهم – كعصرهم المزخرف – ذاتياً دون الاعتماد على منهجية الشعوب الأخرى بادئاً ، وإنما أفكار لشتات ، وأساليب لحياة وحياة ، أقول زخرفة العارف بعمق المعاني ، وجذور الإبداع اللغوي العربي سلامة وفصاحة ، وممن أبدع بالمجال الأخير حتى بدايات العصر العباسي الثاني : بشار بن برد ، وابراهيم بن هرثمة ، وكلثوم بن عمرو العتابي ، ومسلم بن الوليد ، وأبو نؤاس ، وأبو العتاهية ، ودعبل الخزاعي ، و أبو تمام ، والبحتري ، وابن الرومي ، وابن المعتز .
وكما ذكرنا في الحلقة الأولى بشار الرائد الأول ، وسلـّم الراية للمسلم الصريع ، وأبي نؤاس الخليع .
2 – مسلم الصريع بين الفاخوري والمأمون :
و هذا الصريع المسلم : هو مسلم بن الوليد الأنصاري (130 هـ – 208 هـ / 747 م – 823 م) ، ولد في الكوفة وتوفي في جرجان ، يقول عنه الأستاذ فاخوري في (تاريخ أدبه) :” كان كثير الافتقار إلى المعاني ، ومع ذلك ، صائغاً ماهراً للكلام ، وصانع ألفاظ بالغا في اللباقة ، فهو يفهم الشعر على أنه صياغة جميلة ، وصقل متق براق ، فيبطئ في النظم ، ويتوفر على زخرفته ” (87) .
لا أميل إلى ما يقول عن افتقاره للمعانى، يحتاج الرجل الصريع إلى دراسة معمقة متأملة ، وإنْ كان يكثر من الاستعارات والمحسنات البديعية حتى أصبحت السمة الظاهرة على شعره ، لذلك أعتبرهُ المؤسس الرسمي لـ (علم البديع) ، نشرع من أواخر حياته ، بهذا الخبر الذي يرويه الأصفهاني في (أغانيه) :
” أخبرني جعفر بن قدامة قال: قال لي محمد بن عبد الله بن مسلم: حدثني أبي، قال: اجتمع أصحاب المأمون عنده يوماً، فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء، فقال له بعضهم: أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد؟ قال حيث يقول ماذا ؟ قال حيث يقول وقد رثى رجلاً :
أرادوا ليُخْفوا قبرَه عن عَدُوِّه *** فَطِيبُ تُرابِ القبر دلّ عَلَى القَبْرِ
وحيث مدح رجلاً بالشجاعة فقال :
يَجودُ بالنَّفْس إذْ ضَنَّ الجَواد بها *** والجُودُ بالنَّفْس أقْصَى غايةِ الجُودِ
وهجا رجلاً بقبح الوجه والأخلاق فقال :
قَبُحَتْ مناظِرُه فحين خَبرتُه *** حَسُنَتْ مناظرُه لِقُبْح المَخْبَرِ
وتغازل فقال:
هَوىً يَجِدُّ وحَبيبٌ يَلَعَبُ *** أَنْتَ لَقىً بينهما مُعَذَّبُ
فقال المأمون هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره ” (88)
كما ترى لا يخلو بيت من بديعه ، من جناس ، أو تكرار ، أو طباق ، التكلف أوالتصنع اللفظي والمعنوي واضحان ، لا يحتاجان إلى نباهة ، ولكن هل أخل هذا البديع المتكلف من المعاني الرفيعة السامية ، التي هزّت مجلس الخليفة المأمون الأديب البارع ، ولم يتمالك نفسه حتى قال : ” هذا أشعر مَن خضتم اليوم في شعره ” !!
مهما يكن من أمر ،لا نستطيع أن نفهم عصر الروّاد البديعيين المبدعين المجددين ، إذا لم نفهم مبادئ هذا العلم ، لا من حيث ماهيته ودراسته ، بل من نواحي كيفية تطوّره وتجدّده ، وأسس أركانه ، فلا بدّ لنا إذن من أن نمسك بأول مؤلف جاد ، ورفيع ، ومتميز بالعبقرية في منهجيته ومحتواه وأسلوبه و شواهده ، وأصالته ، علماً وفناً ، ألا وهو كتاب ( البديع ) لابن المعتز العباسي .
3 – الدكتور طه حسين وأصالة بديع ابن المعتز :
ونشرع بهذه الفقرة لتثبيت أصالته العربية دون التباس لاقتباس ، أو نحل ، أو نسخ ، أو سلخ ، أو سرقة ، أو تناص ، أو تلاص …!! ، لأنَّ الدكتور طه حسين (1889 م – 1973 م) الذي نفى الشعر الجاهلي من قبل، متأثراً بالمدرسة الفرنسية ، وشك ديكارتها ، ثم عدل عن رأيه ، عاد ليقول في مقالة باللغة الفرنسية قبل نيف وثمانين عاماً : إن كتاب (البديع ) المعتزي العربي العريق به أثر بيّن للقسم الأول من الفصل الثالث لكتاب (خطابة) أرسطو الهيلينية ، فيما يخصّ بحثه في العبارة (89) ، ومن سخرية الأقدار أن ابن المعتز استشهد بأشعار شعراء العرب الذين تقدموه ، وغلبهم أبو تمام إلى ذهنه وعقله ، ولم ينسَ البحتري ودعبلاً ، ولكنه ضرب معاصره (ابن الرومي) الذي يكبره ربع قرن من الزمان عرض الحائط ، ولم يذكره حتى ببيت واحد ! وعلى أغلب ظني المطلق ! لا لروميته ، بل لأن الأخير هجا أباه المعتز بالله ، حين عذبه الأتراك لخلع خلافته (255 هـ) ، بقوله :
دع الخلافة يا معتز من كثـب *** فلـيس يكسوك منها الله ما سلـبا
فكيف يرضاك بعد الموبقات لها**لا كيف؟ لا كيف؟إلا المين والكذبا
وكان ابن الرومي موسوساً ، ضعيف الحيلة ليس بذي شأن في حياته ، وهذا ابن المعتز الذي توّلى الخلافة ليلة واحدة ، وخُلع بالقتل ، لم يكن يخشَ أحداً ، أو يتهيب من أن يعلن معرفته باللغة اليونانية أو غيرها ، بل على الأكثر يعتبر ذلك مكسباً ، ويصرح به ، وإنما وضع كتابه ليقيم الحجة على أن القدماء قبل المحدثين عرفوا البديع (البلاغة في عصرنا) ، فالدافع عربي بحت ، ليس له علاقة بمناهضة الهيلينية مطلقاً ، ولعل أول من نقل كتاب (خطابة ) أرسطو إلى العربية بشكل يعتمد عليه نوعما ، معاصره إسحاق بن حنين المتوفي بعده بسنتين أو ثلاث (298 ، 299 هـ) ،قد ظهر بعد تأليفه لـ (البديع) ، إذ انتهى منه معتزنا (274 هـ) ، والظاهرمن أوائل مؤلفاته، وأنه ألّفه قبل أن يلمّ بثقافة أخرى سوى الثقافة العربية (90) ، إذ لم يبلغ عمره سبعة وعشرين عاماً ، وكان الكندي( ت 253هـ) من قبلُ اختصر كتاب (شعر) أرسطو ، ويمكنك مراجعة (فهرست) ابن النديم للاستفاضة ، وقد تأثرصاحب (البديع) بـ (قواعد شعر) أستاذه أبي العباس ثعلب (ت 291 هـ ) ، وأخذ من نثر (بيان وتبيين) الجاحظ، الذي توفي (255 هـ ) ، وصاحبنا لم يتجاوز ثماني سنوات من عمره ، ونقل عن (حماسة) أبي تمام ، وقد توفي 228 هـ ) قبل ولادته بعشرين عاماً تقريباً – نعم تأثر معاصره قدامة بن جعفر (ت 337 هـ / 948 م) كثيراً في أحد فصول نقده بـ (خطابة) أرسطو .
مهما يكن دحض رأي الدكتور طه عن مظاهر التأثر كل من الدكتور شوقي ضيف قائلاً : لم يبين أي دليل على هذا التأثر (91) ، ويؤكد ما ذهبنا إليه – ضمناً – الدكتور محمد عابد الجابري موجزاً : إذا كانت الفلسفة هي معجزة اليونان فإن علوم العربية معجزة العرب (92) ، والحق معه ، القرآن الكريم قبل الترجمة والمترجمين ، والروم واليونانيين ، معجزة الأولين والآخرين ” وقد رفض د. على الجندي : أن يكون الكتـاب متأثراً بالبيان اليوناني ( لو أن الجناس كان منقولاً عن اليونان، لعثرنا على أثر هذا النقل، ولو في مثال واحد على الأقل ) ، وأكـد ذلك قول د. حمادي حمود : أن الكتاب كان على أسس عربية صريحة وصحيحة في محاولة لإرساء علم البلاغة والنقد، وبهذا كان أول كتاب يتناول الأدب تناولاً فنياً “(93) ، ومن الجدير ذكره أن الدكتور محمود الربداوي في (متخيره) ينوّه قد تناول أرسطو في (خطابته ) أربعة فنون بديعية ، وهي الآستعارة والجناس (يسميها أرسطو المشابهة ) والطباق ، ثم ردّ الإعجاز على الصدور ، أما الفن الخامس المذهب الكلامي ، أخذه عن الجاحظ، فهو فن عربي الأصل ، ويواصل الدكتور الربداوي قوله ” لا ينقص ابن المعتز فضله ، ذلك لأنه لم يأخذ عن أرسطو إلا التوجيه العام …” (94) .
هذا التوافق العابر ليس بدليل مقنع لنا على اقتباس التوجيه العام من أرسطو أو (خطابتة) ، إلا بشكل غير مباشر ، من حيث لا يدري ، لأن البديع كان شائعاً في الأوساط الأدبية العربية (العراقية حصراً) قبل جيلين أو أكثر من ولادة ابن المعتز ، فشغل الساحة جدالاً ، واستشهاداً ، وتمثيلاً ، وتوسعاً ، وولد ثمرة لذلك هذا الدرّ المكنون ، فالرجل كان لا يعرف من اللغة الهيلينية حتى مبادئها ، ولم يشهد ترجمة هذا الخطابة ، بدليل أنَّ الكتاب يتضمن ” 313 شاهدًا من عيون الشعر العربي تبلغ حوالي 425 بيتًا أو يزيد، فوق ما اشتمل عليه من بليغ الشواهد من: الذكر الحكيم، وحديث رسول الله، وكلام الصحابة والأعراب، وبلغاء الكُتَّاب. والكِتَاب مع ذلك مطبوع بالطابع الأدبي الخالص؛ فهو خلو من الاصطلاحات العلمية، وتحديدات المنطقيين العميقة، وهو يكتفي في توقيفك على مدلول اللون البديعي بشرح أدبي موجز حينًا، وبما تدل عليه الشواهد حينًا آخر، وبأسلوب واضح يفيض بلاغة وسهولة ،ويمتاز بحصافة الذوق وسَعَة الاطلاع وحسن الاختيار في جميع شواهد الكتاب ” (95) ، من أوحى له أن يستشهد بهذه الشواهد الرائعة بلاغة ولغة ومضموناً وصوراً … بأسلوب أدبي ولا أبدع ، ثم من أين استدل على المحاسن الثلاثة عشر ، ونوّه بالمزيد منها …!! وسنمرّ على ذكرها دون الخوض في أعماقها ، إلاّ بما يحتمه التجديد ، لا البديع .
4 – لقب (البديع) ليس مستحدثاً في عصر ابن المعتز :
لقب البديع ليس لقبًا مستحدثًا في عهد ابن المعتز – كما ذكرنا – ولكنه اسم لهذه الألوان الساحرة في الأسلوب، ولهذا الترف البياني في الأداة، من تشبيه واستعارة وتجنيس وتطبيق وسوى ذلك، سماه به مسلم بن الوليد ، وكان يُعرف قبل ذلك بـ (اللطيف) (96) ، ودرج على هذا اللقب من بعده من العلماء والأدباء ، هذا من حيث المصطلح البلاغي ، أمّا من الناحية اللغوية ، فأحيلك إلى (لسان) ابن منظور، فنقتطف ما يلائم موضوعنا راوياً :
المبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ابتدأه إياه . وفلان بدع في هذا الأمر أي أول لم يسبقه أحد . ويقال : ما هو مني ببدع وبديع ، قال الأحوص :
فخرت فانتمت فقلت : انظريني *** ليس جهل أتيته ببديع
وأبدع وابتدع وتبدع : أتى ببدعة ، قال الله – تعالى : ورهبانية ابتدعوها ، و قال رؤبة :
إن كنت لله التقي الأطوعا *** فليس وجه الحق أن تبدعا
وبدعه : نسبه إلى البدعة . واستبدعه : عده بديعا . والبديع : المحدث العجيب . والبديع : المبدع . وأبدعت الشيء : اخترعته لا على مثال . والبديع : من أسماء الله – تعالى – لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها وهو البديع الأول قبل كل شيء . (97)
والبديع من أسماء الله ، وقد ورد مرتين في القرآن الكريم بتمام لفظه :
” بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ” ( البقرة 117) ، وقوله تعالى : ” بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (الأنعام 101) .
ونستشهد لك بشاعرين آخرين من العصر الأموي ، بما ضمنا من البديع لغة ، قال عمر بن أبى ربيعة :
فأتتها فأخبرتها بعذرى *** ثم قالت أتيت أمراً بديعاً
وقال الفرزدق :
أبت ناقتى إلا زياداً ورغبتى *** وما الجـود من أخلاقه ببديع
5 – البداية الساخرة :
تأثر بمسلم شعراء عصره كدعبل وأبي نؤاس ، ثم خفّفا من المبالغة، والإغراق في محيطه الناشز ، وذهب أبو نؤاس حتى السخرمن صاحبه الصريع المبدع لـ ( بديعه) ، ينقل الدكتور جميل سلطان في كتابه عن (المسلم الصريع) :” اجتمع أبو نؤاس ومسلم في مجلس فتلاحيا على نبيذ، فقال مسلم لأبي نؤاس : والله ما تحسن الأوصاف ، فقال أبو نؤاس : والله ما أحسن أن أقول :
سُلـَّتْ فسُلـَّتْ ثمّ سُلّ سليلـُها *** قأتى سليل سليلها مسلولا
والله لو رجمتَ الناس في الطريق لكان أحسن من هذا ” (98) ، ولو أنّ الجلسة جلسة مزاح ، والشاعرين صديقان ،ولكن الحق مع أبي نؤاس ظاهرياً من حيث تكلف وتصنع المسلم حتى الخروج التام عن الإلهام ،، فبيت مسلم المذكور ، قاله عن الخمر ، فجاء متكلفاً من السلسلة حتى السماجة ، يذكرالثعالبي في (خاصه الخاص) ، والواحدي يروي في ( شرحه لديوان المتنبي ) بعد الغربلة ما يلي :
سمعت الشيخ أبا منصور الثعالبي رحمه الله يقول: قال لي أبو نصر بن المرزبان: ثلاثة من رؤساء الشعراء شلشل أحدهم ،وسلسلَ الثاني ،وقلقلَ الثالث ، أما الذي شلشل فالأعشى وهو من رؤساء شعراء الجاهلية قال :
وقد غدوت إلى الحانوت يتبُعني *** شاوٍ مشلٌّ شلول شلشلٌ شولُ
وأما الذي سلسل فمسلم بن الوليد وهو من رؤساء المحدثين وهو الذي قال :
سلَّت وسلت ثم سلَّ سليلُها *** فأتى سليلُ سليلها مسلولا
وأما الذي قلقل فهو المتنبي وهو من رؤساء العصريين وهو الذي يقول :
فقلقلتُ بالهمّ الَّذي قلقلَ الحشا *** قلاقلَ عيسٍ كلُّهـنّ قلاقـلُ
فبلبلْ أنت أيضا ، فقلت بعد حينٍ من الدهر :
وإذا البلابل أفصحت بلغاتها*** فانفِ البلابلَ باحتساءِ بلابل (99)
هذا تلاعب بالألفاظ ، يحسّ فيها القارئ ضحكاً على العقول والذقون ، يستصغرها ، ويعتبرها هفوات نادرة من الشعراء ، ويمشي قارئاً ، وقائلاً : إنـّا له وإنـّا إليه راجعون ! ولكن من وجهة نظري ، يمكن أن نجد العذر لمسلم من جهتين ، الأولى السلسلة أخف ثقلاً على الآذان من الشلشلة والقلقلة ، وأسلس منهما ، دعنا عن البلبلة جاءت تماشياً ، لربطها بما سبق ، والثانية قد يكون مسلم ذهب إلى السلسلة ليضع حجر الأساس للبديع الإيقاعي ، ولم يفصح به لأبي النؤاس ليتسنم حلبة السبق ، ويُعرف عن المسلم الصريع الهدوء ، وقلة البوح ، والكلام سيأتي عن البديع الإيقاعي .
6 – الجواهري والصريع والله أعلم ! :
وكلامنا عن ابن وليدنا المذكور – والحق يقال – لديه ثروة لغويه ، يحسده عليها الكبار ، فلا تجد في شعره كلمة نابية ، ولا نافرة من أختها المرافقة لها حتى في قوافيه الجارية كالماء الزلال ، ولم يزلزلها المجرى الضنك في وعر الجبال !! ،
ونستطرد معك ، ولك أن تحسبه ما تشاء ، إشارة إلى جديد ، أو دفع الملل الرتيب ، أو إبراز لذات الكاتب العنيد !! تعجبني أبيات هذا المسلم الصريع في جارية كانت على رأس الفضل بن جعفر البرمكي حين ناغاها مغازلة من البسيط النوني :
إن كنت تسقين غير الراح فاسقيني *** كأساً ألذ ّ بها من فيك تشفيني
وعلى ما يخيل لي ، عندما شرع الجواهري بنظم قصيدته بحق حبيبته (دجلة الخير) في براغ ، شعّ في ذهنه خيال بغداد العباسية ، فناجى دجلته على غرار الصريع ، فأنَّ ونوّن حادياً :
حيّيتُ سفحك عن بعدٍ فحيّني *** يا دجلة الخير يا أمَّ البساتين
لذلك دعوت مقدماً بضرورة دراسة شعره بتأمل وتعمق ، على كلّ حال ، البحتري وابن المعتز من بعد (المسلم) بجيل وجيلين سارا على نهجه إلى حد ما ، ثم عدل الأول عنه إلى طبع جبلته الشاعرية الأصيلة ، أما الثاني فمال إلى ما يوافق عصره وبيئه الأجتماعية والأدبية في زخرفته اللفظية ، وتحدثنا عنه بإسهاب بالنسبة لمتطلبات بحثنا ، بقى لدينا معاصره الصغير عمراً ، والكبير شاعرية وشأناً ، أبو تمام – ستأتي حلقة الكلام عن تجديده ، وتجديد أبي نؤاس – ، فلما انتشر فن البديع في ذلك العصر ، واشتدّ الصراع بين خصومه وأنصاره ، بالغ الطائي أبو تمام في أمر هذا البديع وروّاده ، فينقل لنا أبو بكر الصولي في (أخباره) : ” أن أحمد بن طاهر دخل على ابي تمام وهو يعمل شعرا وبين يديه شعرا لابي نواس ومسلم بن الوليد، فقال ماهذا ؟ قال : الـلات والعزى وأنا أعبدهم من دون الله مذ ثلاثون سنة ” (100)
هذا التعلق التمامي – والعياذ بالله – بالبديع المتنامي في عصره المترامي دافع عنه الصولي دفاع المتيم الولهان .
7 – مسلم بين النقد البناء والموهبة والذكاء :
البديع ليس بجناسه وطباقه وتوريته ومقابلته ، يطوّعه الشاعر كيفما شاء للتماهي ، والتلاعب بالألفاظ لإبراز الذات ، ومقدرته اللغوية ، ولا كما قال الجواهري ” وخلّها حرّة تأتي بما تلدُ ” تماماً ، بمعنى الشعر بمعانيه وصوره وتشكيله ، للذات الشاعرة الملهمة النصيب الأكبر ، وللعقل الذكي النبه إتمام الآخر ، دون تعرج ملفت ، ولا نشاز مُفتـِّت ، لنرى ما ذهب إليه النقاد قديماً ، يقول قدامة بن جعفر عنه : ” وأكثر الشعراء المصيبين من القدماء والمحدثين قد غزوا هذا المغزى ورموا هذا المرمى، وإنما يحسن إذا اتفق له في البيت موضع يليق به، فإنه ليس في كل موضع يحسن، ولا على كل حال يصلح، ولا هو أيضاً إذا تواتر واتصل في الأبيات كلها بمحمود، فإن ذلك إذا كان، دل على تعمل وأبان عن تكلف …” (101) ، والآمدي في (موازنته) بين الطائيين – أبي تمام وتلميذه البحتري – فصل الأمر ، بادئاً بمسلم ، وأطال مع أبي تمام راوياً : …أن أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد، وأن أبا تمام تبعه فسلك في البديع مذهبه فتحير فيه،كأنهم يريدون إسرافه في طلب الطباق والتجنيس والاستعارات، وإسرافه في التماس هذه الأبواب وتوشيح شعره بها، حتى صار كثيرٌ مما أتى به من المعاني لا يعرف ولا يعلم غرضه فيها إلا مع الكد والفكر وطول التأمل، ومنه ما لا يعرف معناه إلا بالظن والحدس، ولو كان أخذ عفو هذه الأشياء ولم يوغل فيها، ولم يجاذب الألفاظ والمعاني مجاذبة ويقتسرها مكارهة، وتناول ما يسمح به خاطره وهو بجمامه غير متعب ولا مكدود…. لظننته كان يتقدم عند أهل العلم بالشعر أكثر الشعراء المتأخرين، وكان قليله حينئذٍ يقوم مقام كثير غيره؛ لما فيه من لطيف المعاني ومستغرب الألفاظ…” (102) .
والحقيقة مسلم لم يترك الحبل يجري على غواربه ، ولا الكلام يطلق على عواهنه في (لطيفه) الذي أوسمه بـ (البديع) ، بل عند لحظات الإبداع الشعري ، يجعل عقله يتحكم بدقة متناهية مع مسيرة شعره الإلهامية ، وتساعده في ذلك حافظته اللغوية الثرّة والماهرة ، تأثر ببلاغة القرآن الكريم ، وألطف في قوله ، لكي ينزل برداً وسلاماً على مسامع المتلهفين ،وتأثر به أبو تمام الطائي، لذلك يذهب أبن قتيبة الدنيوري في (شعره وشعرائه) بقوله :
” وكان يلقب ” صريع الغواني ” لقوله في قصيدةٍ له :
هَلِ العَيْشُ إِلاَّ أَنْ تَرُوحَ مَعَ الصِّبَا *** وتَغْدُو صَرِيعَ الكأْسِ والأَعْيُنِ النُّجْلِ
وهو أول من ألطف في المعاني ورقق في القول، وعليه يعول الطائيُّ في ذلك وعلى أبي نواس ” (103) ، ولا نميل مع الآمدي أنه أول مَن أفسد الشعر ، فهو يعتبر التجديد إفساداً ، ولم يتعمق بشعره ، منشغلاً بالطائيين ، بينما يعدّه ابن رشيق القيرواني في (عمدته) ( زهير المولدين) ، ويدلي بمقارنة مختصرة مكثفة بين شعراء العصر الذي قصدناه بقوله ” واستطرفوا ما جاء من الصنعة نحو البيت والبيتين في القصيدة بين القصائد، يستدل بذلك على جودة شعر الرجل، وصدق حسه، وصفاء خاطره؛ فأما إذا كثر ذلك فهو عيب يشهد بخلاف الطبع، وإيثار الكلفة، وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد؛ كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما. وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها: فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه، مع التصنيع المحكم طوعاً وكرهاً، يأتي للأشياء من بعد، ويطلبها بكلفة، ويأخذها بقوة. وأما البحتري فكان أملح صنعة، وأحسن مذهباً في الكلام، يسلك منه دماثة وسهولة مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، لا يظهر عليه كلفة ولا مشقة. وما أعلم شاعراً أكمل ولا أعجب تصنيعاً من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة لا تكاد تظهر في بعض المواضع إلا للبصير بدقائق الشعر، وهو عندي ألطف أصحابه شعراً، وأكثرهم بديعاً وافتتاناً، وأقربهم قوافي وأوزاناً، ولا أرى وراءه غاية لطالبها في هذا الباب، غير أنا لا نجد المبتدئ في طلب التصنيع ومزاولة الكلام أكثر انتفاعاً منه بمطالعة شعر حبيب وشعر مسلم بن الوليد؛ لما فيهما من الفضيلة لمبتغيها، ولأنهما طرقا إلى الصنعة ومعرفتها طريقاً سابلة، وأكثرا منها في أشعارهما تكثيراً سهلها عند الناس، وجسرهم عليها. على أن مسلماً أسهل شعراً من حبيب، وأقل تكلفاً، وهو أول من تكلف البديع من المولدين، وأخذ نفسه بالصنعة، وأكثر منها. ولم يكن في الأشعار المحدثة قبل مسلم صريع الغواني إلا النبذ اليسيرة، وهو زهير المولدين: كان يبطئ في صنعته ويجيدها ” (104) .
هذه الخلاصة تستطيع أن تقنعنا بمضمونها ، ودقة تتبعها ، فالرجل سلك منهج المحسنات البديعية على المستويين الإيقاعي واللغوي المجازي ، ومن هذا المجاز الاستعارة التي كانت تحسب على البديع لا البيان الذي ضمها من بعد .
8 – ملامح عابرة من بديعه :
وعلينا بالمسلم ، فمن بديعه القديم ،الاستطراد – والآن هوأيضاً من أنواع علم البديع ،الذي هو فرع من علم البلاغة المتضمن علوم البيان والمعاني والبديع، والأستطراد : هو خروج المرسل أو المتكلم عن الموضوع الذي هو فيه إلى غرض آخر لسبب ما ، ثم يرجع لإتمام الكلام الأول ، قال العسكريّ : ” وهو أن يأخذ المتكلّم في معنى، فبينا يمرُّ فيه يأخذ في معنى آخر، وقد جعل الأوّل سببًا إليه.” (105)، وقال القزويني : ” وهو الانتقال من معنى إلى آخر متّصل به، لم يقصد بذكر الأوّل التوصلُ إلى ذكر الثاني …وقد يكون الثاني هو المقصود، فيذكر الأوّل قبله ليتوصّل إليه ” (106) ، وإليك استطراد مسلم بن الوليد ، وخروجه من الغزل إلى مدح يحيى بن جعفر :
أَجِدَّكِ ما تدرين أن ربّ ليلةٍ *** كأنّ دجاها من قرونك تُنْشرُ
لهوت بها حتّى تجلّت بغُرَّة *** كغُرّة يحيى حيــــن يُذكر جعفرُ
ولا ريب أنّ الاستطراد كان معروفاً منذ العصر الجاهلي ، فورد في شعر السموأل وزهير ، وفي صدر الإسلام جاء على لسان كعب , وغيرهم من الشعراء ، ولكن الصريع أكثر منه وقصده بمهارة فنية ، ملفته في حسن التخلص من غرض إلى آخر ، بمعنى نقل الاستطراد من العفوية الجزلة إلى الصنعة السلسة ، وإليك :
إذا شئتما أن تسقياني مدامةً ***** فلا تقتلاها، كــــل ميتٍ محرمُ
خلطنا دماً من كرمةٍ بدمائنا ***** فأثر فــــي الألوان منا الدم الدمُ
ويقظى ثنيت النوم فيها بسكرةٍ ** لصهباء صرعاها من السكر نُوّمُ
فمن لامني في اللهو أو لام في الندى**أبا حسنٍ زيد الندى فهو ألومُ
دقق في البيت الأول كيف استعار القتل للمزاج ، والدم للكرمة، وأردفه بالدم الحقيقي ، فتولد الجناس التام ، ولا يفوت القارئ الكريم الجناس في البيت الثالث ، حتى ختم البيت الرابع بالاستطراد ، والانتقال من وصف الخمرة إلى المدح ، وإن كان لا تُخفى عليك خافية ، تستطيع من مفردات صدر البيت الأخير أن تكرر مع الشاعر قافيته ( ألومُ) ، وهذا هو (الإرصاد) الذي سماه علي بن هارون المنجم (تسهيمًا) ، وسماه ابن وكيع (المطمع ) .
ما كانت هذه الصنعة اللفظية ، والبديعية ، وإن شئت البلاغية في العصور التي سبقت المسلم الصريع ، ونستأنس برأي ابن وكيع التنيسي في (سارقة ومسروقه) حول أبيات المسلم ، إذ يستحسن تحليل مسلم على ما جاء به المتنبي بعده بقوله : وقال المتنبي :
كل شيء من الدماء حرام *** شربه ما خلا دم العنقود
تحريم هذا الدم بمنزلة قوله :
يترشفن من فمي رشفات *** هن فيه أحلى من التوحيد
كله يدخل في قلة الورع واستعارة الدم للعنقود قد سبقه إليه مسلم في قوله :
خلطنا دما من كرمة بدمائنا *** فأظهر في الألوان منا الدم الدم
إذا شئتما أن تسقياني مدامة **** فلا تقتلاها كـــل ميت محرم
فملح في الجمع بين دم الاستعارة ودم الحقيقة واستعار في البيت الثاني للمزاج لفظا مليحا في القتل وجاء بتحليل أحسن من تحليل المتنبي فصار أولى بما سبق إليه لرجحانه. وأول من سمى المزاج قتلا للراح حسان بن ثابت فقال :
إن التي ناولتني فرددتها *** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل (107)
ومما أعجب النقاد القدماء دقة تعبير البيتين التاليين في تضمين المعنى الرائع ، المتعارف عليه في عصره :
وإني وإسماعيل بعد فراقهٍ ***** لكالغمدِ يوم الروع زايلهُ النصلُ
فإن أغْشَ قوماً بعدهُ أو ازرهمُ**فكالوحشِ يدنيها من الأنسِ المحلُ
ولشدة إعجاب ابن المعتز بهما ، قال في (طبقات شعرائه) : ” معنى لا يتفق للشاعر مثله في ألف سنة ” (108)
وبعد أنْ جاء بشار بالبحور القصيرة الراقصة ، وجد مسلم فيها فسحة للولوج إلى إبدعات مشابهة لها ، أو مدخلاً لتوليد تقسيمات مسجعة راقصة من البحور الطويلة ، معتمداً على محسنات بديعية كالترصيع :
كأنه قمرٌ أو ضيغمٌ عصر*** أو حيّةٌ ذكر أو عارضٌ هطلُ
وقد أخذ المتنبي هذا المعنى ، والأسلوب ، فقال :
يا بدر يا بحر يا غمامة يا *** ليث الثرى يا حمام يا رجل (109)
وقال مسلم مرصعاً :
يورى بزندكَ أو يسعى بجدكَ *** أويفرى بحدك.. كل غير محدودِ
وسار أبو تمام على هذا النهج من التصنيع البديعي ، وأجاد قائلاً :
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي، *** وفاض به ثمدي، وأروى به زندي
وقال أيضاً وأحسن ما شاء – على حد تعبير ابن رشيق – :
تدبير معتصم، بالله منتقم، *** لله مرتقب، في الله مرتغب (110)
فذلكة الأقوال : مسلم بن الوليد جدّد المحسنات البديعية مجازاً وإيقاعاً بدقة متناهية ، لا يجعلك تشعر بصناعته للطفه ، ونباهته ، وكان أكثر سعياً وجدّاً من أستاذه بشار ، وأطلق البديع على اللطيف ، وسلم الراية لأبي تمام الذي كان تلميذاً نجيباً ماهراً، نسدل الستار على مسلم ، ويكفي هذا المغنم ، والسلام .
7 – التجديد في الشعر العربي ….. علم البديع وتطوره.
كما ذكرنا في الحلقة الفائتة ، وفي إيجاز الإعادة تركيز الإفادة، إنّ لقب البديع ليس بلقبٍ
مستحدثً في عهد ابن المعتز ، ولكنه اسم لهذه الألوان الساحرة في الأسلوب، ولهذا الترف البياني في الأداة ، سماه به مسلم بن الوليد ، وكان يُعرف قبل ذلك بـ (اللطيف) (111) ، ودرج على هذا اللقب من بعده من العلماء والأدباء ، هذا من حيث المصطلح البلاغي .
أمّا من الناحية اللغوية ،فأكرر ما ذكرت ، وللإفاضة ، وكل شيء بمقدار ، حسب ما يقتضيه المختار :
المبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ابتدأه إياه . وفلان بدع في هذا الأمر أي أول لم يسبقه أحد . ويقال : ما هو مني ببدع وبديع ، قال الأحوص :
فخرت فانتمت فقلت : انظريني *** ليس جهل أتيته ببديع
وأبدع وابتدع وتبدع : أتى ببدعة ، قال الله – تعالى : ورهبانية ابتدعوها ، و قال رؤبة :
إن كنت لله التقي الأطوعا *** فليس وجه الحق أن تبدعا
وبدعه : نسبه إلى البدعة . واستبدعه : عده بديعا . والبديع : المحدث العجيب . والبديع : المبدع . وأبدعت الشيء : اخترعته لا على مثال . والبديع : من أسماء الله – تعالى – لإبداعه الأشياء وإحداثه إياها وهو البديع الأول قبل كل شيء (112)
وقد ورد مرتين في القرآن الكريم بتمام لفظه :
” بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ” ( البقرة 117) ، وقوله تعالى : ” بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأْرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ” (الأنعام 101) .
ونستشهد لك بشاعرين آخرين من العصر الأموي ، بما ضمنا من البديع لغة ، قال عمر بن أبى ربيعة :
فأتتها فأخبرتها بعذرى *** ثم قالت أتيت أمراً بديعاً
وقال الفرزدق :
أبت ناقتى إلا زياداً ورغبتى *** وما الجـود من أخلاقه ببديع
قال ( لسان العرب ) : مادة “بدع”: ” بدع الشيء يبدعه بدعا وابتدعه: أنشاه وبدأه… والبديع والبٍدْع: الشيء الذي يكون أولا، وفي التنزيل: “قل ما كنت بدعا من الرسل”، أي ما كنت أول من أرسل، قد أرسل قبلي رسل كثير… والبديع المحدث العجيب. والبديع المبدع. وأبدعت الشيء: اخترعته لا على مثال…وأبدع الشاعر :جاء بالبديع “.
وترجع بداية استعمال كلمة البديع كمصطلح إلى الرواة، وهي تعني عندهم الجديد والطريف، يقول الجاحظ : ” وقال الأشهب بن رميلة :
إن الألى حانت بفلج دماؤهم ****هم القوم كل القوم يا أم خالد
هم ساعد الدهر الذي يتقى به *** وما خير كف لا تنوء بساعـد
أسود شرى لاقت أسود خفية **تساقوا على حرد دماء الأساود
قوله “هم ساعد الدهر” ، إنما هو مثل، وهذا الذي تسميه الرواة البديع. وقد قال الراعي :
هم كاهل الدهر الذي يتقي به ***ومنكبه ان كان للدهر منكب(113)
الراعي كثير البديع في شعره ، وبشار حسن البديع، والعتابي يذهب في شعره في البديع مذهب بشار،(114) ،
وتحدثنا بحلقة موسعة عن بشار ، وتكلمنا عن الصريع المسلم ، وأبي نؤاس المؤنس، ودعبل الموقف ، وأبي تمام المبدع ، والبحتري الرائع ،وعن شطر من بديع ابن المعتز الشاعر الناقد ، وواّصل معي في هذه الحلقة ، قفزة البديع ونقد الشعر عند ابن المعتز ، وما بعده ناقلا موجزاً.. محللاً… مقارناً… مستنتجاً دون أن أذكر المراجع والمصادر ، لأنني سأتصرف بها أبان ضمها لمشروع الكتاب المُعدّ لتجديد الشعر العربي منذ بدايات العصر الجاهلي حتى عصرنا الحديث!!!
عودة لعلم البديع القديم فهو أعمُّ من الحديث حتى شمل بديعه والبيان :
إذاً ما هذا البديع المبدع ؟ لنرجع لابن المعتز (ت 296 هـ / 908 م) وكتابه (البديع) الذي صدّره بقوله “…وقد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدناه في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع ليعلم أن بشارا ومسلما وأبا نواس ومن تقيلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم فأعرب عنه ودل عليه ” (115)) ثم عدد أبوابه الخمسة المتعارف عليها في العصر الذي سبقه ، أي عصر روّاده ، وهي : الاستعارة، والمطابقة، والتجنيس، ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها، والمذهب الكلامي، الذي أخده عن الجاحظ ( ت 255 هـ) ، وقد عرّف وقسّم ومثـّل لكل باب ، ولكنه خلط بين العلوم حسب مفهومنا المعاصر للبلاغة ، فذكربـ (بديعه) التشبيه والاستعارة وهما من علم البيان العربي، وجاء بالكناية ، وأراد معناها اللغوي، لا المعنى الاصطلاحي الضيق في يومنا ، فبديعه الماضي ، بلاغتنا الحاضرة ببيانها الرفيع من استعارة ومجاز وتشبيه و كنايه … إضافة لبديعه من (بديع ) معاصر تضمن الجناس والطباق والمقابلة…، وتقلب هذا الاسم (البديع) إلى ( نقد الشعر) في عرف قدامة بن جعفر ( ت 337 هـ ) ، وإلى (صنعتي الشعر والنثر) في (كتاب الصناعتين ) لأبي هلال العسكري ( ت 395 هـ) ، وأطلق عليه ابن وهب في كتابه (البرهان في وجوه البيان) ، وضياء الدين ابن الأثير ( ت 637 هـ) في كتابه ( المثل السائر …) اسم البيان ، كما يذكر بدوي طبانة في (علم بيانه) (116 ) ، لأنهم يرون البيان هو المعبر عن فصيح الكلام ، والحديث الشريف ” إنّ من البيان لسحرا” قد يشفع لهم.
وأردف عبد الله ابن المعتز بعد الأبواب الخمسة ثلاثة عشر فناً من فنون البلاغة ، دعاها محاسن الكلام وهي : (الالتفات، الاعتراض، الرجوع، حسن الخروج، تأكيد المدح بما يشبه الذم، تجاهل العارف ، الهزل الذي يراد به الجد، حسن التضمين، التعريض والكناية، الإفراط في الصفة، حسن التشبيه، لزوم ما لا يلزم، حسن الابتداء.) (117) ، وأضاف إليها قدامة بن جعفر ثلاثة عشر نوعا هي : التصريع، المقابلة ، المساواة، الإيغال، الاستطراف، صحة التقسيم، صحة التفسير، المبالغة -وهي غير اللغو عند قدامة- الإشارة ” الإيجاز”، التمثيل، التتميم، الترصيع – وهو أن تكون أجزاء البيت مسجوعة – التوشيح .
فوصل البديع في عهد قدامة (ت 337 هـ ) إلى ثلاثين نوعا، ثم تتبع الناس هذه الألوان، فجمع أبو هلال منها في الصناعتين سبعة وثلاثين نوعًا، منها 29 نوعً ذكرها أبو هلال في باب أنواع البديع، ومنها التشبيه الذي ذكره في باب مستقل غير الباب الذي عقده للبديع وإن كان لا يشير إلى أنه من البديع، فيكون الجميع ثلاثين نوعا يضاف إليها سبعة من زياداته ؛ وهي: التشطير، المحاورة، الاستشهاد، المضاعفة “التورية”، التطريز، التلطف، المشتق .
ثم جمع ابن رشيق ( ت 463 هـ) من ألوان البديع مثلما جمع أبو هلال وأضاف إليها في (عمدته) خمسة وستين بابًا في بحث الشعر، ) ، و الحقيقة تلاهما شرف الدين الشاشي فبلغ بها أكثر من ذلك، ثم تكلم فيها ابن أبي الأصبع المصري ( م 654 هـ” فأوصلها إلى التسعين في كتابه الجيد “تحرير التحبير في علم البديع”، ثم صنف ابن منقذ كتابه “التفريع في البديع” جمع فيه خمسة وتسعين نوعا، ثم جاء صفي الدين الحلي ( م750هـ) فجمع 140 نوعًا في بديعيته في مدح الرسول التي سماها “الكافية البديعية” وشرحها بنفسه ثم حذا الناس حذوه ونظموا كثيرًا من البديعيات. وأما السكاكي فذكر تسعة وعشرين نوعًا من البديع، وقد ذكر صاحب التلخيص من البديع المعنوي ثلاثين نوعا ومن اللفظي سبعة، وقد أَلَمَّ بتطور البديع في اختصار كثير من الباحثين .(118)
وقد ظل مفهوم البديع مفهوما شاملا متسعا لجميع فنون البلاغة المختلفة، شأنه شأن مفهوم البيان، حتى نهاية القرن الخامس الهجري، فصاحبنا ابن المعتز وقدامة بن جعفر وأبو هلال العسكري والباقلاني وابن رشيق كلهم يستعملون مصطلح البديع للدلالة في الغالب على فنون البلاغة .
ولكن من الجدير ذكره أنّ عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ) ، قد حدد علمي ( المعاني ) و( البيان) في ( دلائل الإعجاز ) و ( أسرار بلاغته) ، وأردفه الزمخشري ( ت 538 هـ ) ، فميز بين العلمين بوضوح في ( كشافه عن حقائق التنزيل …) ، ومن هنا يعدّهما الدكتور شوقي ضيف في ( تطور وتاريخ بلاغته) ، أنهما نهاية عصر الإبداع البلاغي ، وبعدهما جاء عصر الجمود البلاغي . (119) ، والحق أن الجرجاني أبدع أيما إبداع في ( أسرار بلاغته) ، و( بدائل الإعجاز) ، فوصل القمة فيهما !
ولم تتضح معالم البديع كما نعرفه اليوم أي كمصطلح يدل على مجموعة من الظواهر البلاغية المحددة والتى تفيد تحسين الكلام، إلا مع الخطيب القزويني الذي صاغ تعريفا لعلم البديع في كتاب الإيضاح بناء على ما سطره السكاكي في مفتاح العلوم حينما فرغ من علمي المعاني والبيان فأورد ما سماه (وجوه تحسين الكلام” التي ترجع إلى محسنات لفظية وأخرى معنوية، يقول الخطيب القزويني: ” علم البديع وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام، بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال ووضوح الدلالة، وهذه الوجوه ضربان : ضرب يرجع إلى المعنى ، وضرب يرجع إلى اللفظ. “(120)
إذاً علم البديع بتسميته السابقة لا بشموليته الواسعة ، أصبح فرعاً من علم البلاغة المعاصرالذي يعني بحسن البيان و قوة تأثيره – كما في المعجم الوسيط – ، و تعني الوصول الى المعنى بكلام بليغ ، و يجب فيها مطابقة و مشابهة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته ،ومقتضى الحال هو أن يكون الكلام مطابقاً للحالة أو الموقف التي يتحدث فيه . قال الحطيئة :
تحنّنْ عليّ هداك المليك *** فان لكل مقام ٍ مقالا
وقال الجاحظ في ( حيوانه) ، والعسكري في ( صناعتيه) : إن خير الكلام ما كان مطابقاً لمقتضى الحال ، و إن لكل مقام ٍ مقالا .(121)
وقديماً عرف البلاغة كلّ من العسكري والرماني والآمدي والقزويني والسكاكي ،و الجرجاني والزمخشري وغيرهم ، ونأخذ قول أبي هلال العسكري : ” البلاغة كلّ ما تبلغ به المعنى قلب السامع ، فتمكنه في نفسه ، كتمكنه في نفسك ، مع صورة مقبوله ، ومعرض حسن .” (122)
وينقل الثعالبي في ( منتحله) أبيات البحتري ( ت 284 هـ) عن البلاغة :
في نظامٍ من البلاغة مـ ***ا شكَّ امرؤٌ أنه نظام فريدِ
ومعانٍ لو فصلتها القوافي **هجَّنت شعر جروَلٍ ولبيدِ
حزن مستعمل الكلام اختياراً *** وتجنبنَ ظلمة التعقيدِ
وركبنَ اللفظ القريب فأدركـ ***نَ به غاية المراد البعيدِ (123)
ويذهب الشيخ بهاء الدين العاملي ( ت 1031 هـ ) في ( أسرار بلاغته) إلى البلاغة تختص بالمعاني، والفصاحة تختص بالألفاظ ، والإيجاز يختص بهما ثم يورد تعريفا لعبد الحميد الكاتب – كاتب مروان الحمار ، آخر خلفاء الأمويين – وقوله ( البلاغة ما فهمته العامة ، ورضيته الخاصة) ، وقول صحار العبدي – خطيب مفوه ، ت 40 هـ – ،إنّ البلاغة : (أنْ لا تُبطيء ، ولا تخطيء) ، أمّا ابن المقفع ، فيراها هي : (التي إذا سمعها الجاهل ، ظنّ أنه يحسن مثلها ، وسميت بلاغة لأن المتكلم يبلغ بها الكثير من الغرض في القليل من المعاني).
والفصاحة حدّها : التخلص من التعقيد والتنافر ، وضعف التأليف ، لأنه يقال : تفظ فصيح ، ومعنى بليغ) .
كما ترى كل التعاريف التي أوردها الشيخ البهائي قديمة ، لا تنسجم وتطور علم البلاغة ،
بل يولي اهتماما خاصاً بالإيجاز ، وما هو إلا جزء من فرع لعلم المعاني ، فيقول عنه : ( والإيجاز هو تقليل اللفظ وتكثير المعنى ، وهو على قسمين ، إيجاز قصر ، وإيجاز حذف .) (124)
و يتضمن (علم البلاغة) في عصرنا الحاضر:
1 – (علم المعاني) : وهو العلم بما يحترز به عن الخطأ في تأدية المعنى الذي يريده المتكلم كي يفهمه السامع بلا خلل وانحراف .
2 – (علم البيان) : وهو العلم بما يحترز به عن التعقيد المعنوي، كي لا يكون الكلام غير واضح الدلالة على المعنى المراد .
3 – ( علم البديع) وهو العلم بجهات تحسين الكلام.
ونتوقف في هذه الحلقة عند هذا الحد ّالممتد ، وإنّ غداً لناظره قريبُ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعتذر عن ذكر أرقام صفحات المراجع والمصادر ..
(87) (تاريخ الأدب العربي ) : حنا فاخوري – ص – م . س .
(88) (الأغاني : الأصفهاني – ج ص – دار الفكر م. س .
(89) راجع ترجمة هذه المقالة في مقدمة نقد النثر لقادمة بن جعفر تح الدكتور طه حسين وعبد الحميد العبادي، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ( ) .
(90) (البديع) : ابن المعتز – تقديم هاني الطنبور – ص – الفصل ….
(91) ( البلاغة : تطور وتاريخ ) : د . شوقي ضيف – ص – دار المعارف – 1965 م – القاهرة .
(92) (تكوين العقل العربي ) : د . محمد عابد الجابري – ص 80 – 2002 م – ط 8 – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت .
(93) (البديع ) : ابن المعتز – الموسوعة الحرة .
http://ar.wikipedia.org/wiki/
(التفكير البلاغي عند العرب أسسه وتطوره للقرن السادس) : حمادي حمادي – (… ) منشورات الجامعة التونسية – تونس، الطبعة الأولى، 1982م .
(94) (المتخير من كتب النقد العربي) : د . محمود الربداوي- ص – ط 1 – 1981 م – مؤسسة الرسالة – بيروت .
(95) (البديع في البديع ) : ابن المعتز ص – – دار الجيل – ط1 – 1990 م .
(96) م . ن . – عن معاهد التنصيص ( )
(97) (الأغاني) : أبو فرج الأصفهاني – ج – ص ، – 2003 م – دارصادر.
(98)( مسلم بن الوليد ) :د . جميل سلطان ص – ط 2 – 1967 م – دار الأنوار- بيروت .
(99) ( شرح ديوان المتنبي ) : الواحدي – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(100) ( أخبار أبي تمام ) : أبو بكر الصولي – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(101) ( نقد الشعر ) : قدامة بن جعفر – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(102) ( الموازنة ….) : الآمدي – 1 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(103) ( الشعر والشعراء ) : ابن قتيبة الدنيوري – 1/ 181 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(104) ( العمدة في محاسن الشعر وأدابه) : ابن رشيق القيرواني – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(105) (كتاب الصناعتين) : أبو هلال العسكري – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
ط 4 – 1998 م – – – الإيضاح في علوم البلاغة ) : الخطيب القزويني ) (106) دار إحياء العلوم – بيروت .
(107) (المنصف للسارق والمسروق منه ) : ابن وكيع التنيسي – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(108) (طبقات الشعراء) : ابن المعتز – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(109) (المنصف للسارق والمسروق منه) : ابن وكيع التنيسي – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(110) ( العمدة …) : ابن رشيق – 1 – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(111) البديع في البديع : أبو العباس، عبد الله بن محمد المعتز بالله ابن المتوكل ابن المعتصم ابن الرشيد العباسي (المتوفى: 296هـ) – – الناشر دار الجيل – الطبعة الأولى 1410هـ – 1990م – المكتبة الشاملة .
(112) لسان العرب : أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ( ابن منظور) – ج ص – دار صادر – 2003 م .
(113) البيان والتبيين : أبو عثمان الجاحظ – – دار صادر – بيروت – ط 1 – 1968 م – تحقيق المحامي فوزي عطوي .
(114) البلاغة الشعرية في كتاب البيان والتبيين للجاحظ : د . محمد علي زكي صباغ – ص – إضراف ومراجعة د. ياسين الأيوبي – ط 1 1998 م – المكتبة العصرية – بيروت .
(115) البديع في البديع : ابن المعتز – – الوراق – الموسوعة الشاملة . وراجع الفن ومذاهبه في الشعر العربي : د. شوقي ضيف – – ط 11 – دار المعارف .
(116 ) البيان العربي : د. بدوي طبانة د.بدوي طبانه – ط 1377 هـ / 1958 م – مكتبة الأنجلو المصرية – مصر.
(117) البديع في البديع : عبد الله ابن المعتز – ج ص – م. س . .
(118) ج ص م . ن . وراجع : علوم البلاغة البيان ، المعاني، البديع : أحمد بن مصطفى المراغي المتوفي 1371 هـ ص – المكتبة الشاملة .
(119) البلاغة تطور وتاريخ : شوقي ضيف – ط 9 – دار المعارف – القاهرة .
(120) الإيضاح في علوم البلاغة : جلال الدين أبو عبدالله محمد بن سعدالدين بن عمر القزويني – ص – دار إحياء العلوم – ط م – بيروت .
(121) ينظر للجاحظ ( البيان ج ص ) ، (الحيوان ج ص ) ، وراجع لأبي هلال العسكري ( كتاب الصناعتين ص ، ، ).
(122 ) كتاب الصناعتين : أبو الهلال العسكري – – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(123) المنتحل : أبو منصور الثعالبي الثعالبي – -الباب الأول في الخط والكتابة والبلاغة نظماً – الوراق – الموسوعة الشاملة .
(124) أسرار البلاغة : بهاء الدين العاملي – تحقيق د. محمود التونجي – ص – دمشق – بلا .