عقال أبي بطل من أبطال القرون الوسطى, لو أوسعتكم قصصًا عن بطولاته سيترك آثاره فوق جلود أحاسيسكم كما تركها فوق جلدي وعقلي وشخصيتي وصنع إستراتيجيتي التربوية والانسانية، ضرغام رهيب، يفرد له مسمارًا خاصًّا على أوسع جدار في البيت، يعلّقه عليه أمام أعيننا الصغيرة, إشعارًا لنا بأنّه موجود، يتقصّد أن يكون مرئيًّا للكل، وحين تشتدّالشكوى من والدتي، يكون هذا السلاح فعالًّا كإبر الوشم فوق الجلد، يقوم بواجبه على أكمل وجه، و بشكل جدّي قطعيًّا، ويبدأ المفعول حين يطلق والدي جملته المخيفة في إطلاق سلاحه النووي، كاستهلال التصوير لمشهدٍ من فيلم رعب لهتشكوك في ساحات حرب ضروس، وعبارة المشهورة ( ستاند باي، أكشن)، ولا أظن أن تلك العبارة توازي مستوى عبارة أبي بالقوة والتأثير حينما يغضب منّا و يطلقها بعصبية ( جيبو العقال ) …
عند تلك العبارة، تسكب العبرات وتطلق العيارات، ويتوقّف الزمن، ينقطع الصوت وتخمد الحركة، وينتشر الهدوء والسكينة، فيسمع صوت رنين الإبرةإن وقعت على الأرض، أو صوت نملة تنادي زميلتها في الضفة الثانية من نهر الفرات، ويسترق سمع المارّة في ساحة التحرير ببغداد صوت صراخ ماري أنطوانيت حين نزلت المقصلة على رقبة لويس السادس عشر … ويهدأ البيت تمامًا، والكلّ يندلق كراتٍ من زجاج في كل الاتجاهات، منهم نحو فراشه ، والآخر نحو واجبه المدرسي الذي أهمله طوال النهار، لإكماله بعد نطق تلك العبارة الكونية ، حتى اعتقدت- وأنا ابن السابعة- أن الكون يهدمه عقال أبي إن رغب في ذلك، والغريب في الأمر أنني لم أشاهده يومًا يستخدم تلك التقنية الذريّة بشكل فعلي …. وحين كبرت تربويًّا، أدركت أن الهيبة والوقار واحترام النفس والناس، هو أشد تأثيرًا من العقاب البدني وحتى من عقال أبي, وإن العقاب التربوي يجب أن يكون كالعقاب الأبوي, وكانت استراتيجيتي في عملي التربوي…..
يقوم مدير مدرستي بجولة تفتيشية في المدرسة كل يوم من بداية الدرس الأول والثاني، ويجد بعض الطلبة في باب قاعتي التدريسية، منهم معاقب ويبكي ومنهم من طرد من الدرس، سألني يومًا في مجلس المدرسين سؤالًا:
وقبل أن أجيب على هذا التساؤل فكرت بالقصد من ورائه، مع الأخذ بإيجابية السؤال و سلبيته ، فوجدت الفائدة الجمعية تنث من الخوض فيه، وكنت أتوقع يومًا أن يصبح فعلي هذا
مصدرًا لنقاش فعلي لو أثير الأمر، حلّت ساعته الآن, فهو يحمل حالة تربوية سامية كنت أنتظرها، بغض النظر عن نوع المقاصد وراء ما قيل أو سيقال….أجبت أمام استغراب أعضاء الهيئة التدريسية! وظنّهم إني حشرت في زاوية حرجة لتجاوزي الحدّ التربوي المعقول من التصرف الغير لائق :
ردّ المدير بجديّة مفرطة بعد أن شاهد علامات الضحك والاستهزاء على وجوه الزملاء :
أجبت بهدوء:
صمت المدير قليلًا، ثم أجاب بارتياح وابتسامة عريضة تعلو محيّاه، وكأنه مندهش من تلك الحالة المعكوسة الغريبة, فقد شكى له أولياء الأمور في مجلس الآباء من تصرفات الكثير من المدرسين وحتى البسيطة باستثنائي! الظاهر إنه يريد استثمار تلك الحالة أمام المدرسين ليعرف اللغز في تلك المسألة، فقال :
ابتسمت وقلت والكل مصغي بانتباه :
ضحك الجميع بقهقهات عالية, وكأنني ألقيت مزحة مضحكة، فأضفت:
– “وافتخر باستراتيجية ذلك العقال العجيب، التي أوصلتني وأوصلت أخوتي إلى مراكز عليا في المجتمع“.
وقصصت عليهم استراتيجية العقال الذريّة, وفسّرتها لهم تربويًّا بستنقاط :
تسيّد الهدوء أنحاء الاجتماع، وانحسر الضحك وتغيّرت معالم الوجوهاتجاه الجدية والاستزادة ، وتنوعت المقاصد، ولا أدري قسم معي وآخرين ضدي، أمّا المدير فكان معي بكلّ قوّته الإدارية والتربوية التي أحتاجها,وذلك واضح من ردة فعله حين قال:
قلت:
-“ثانيًا : أنا ليس لدي طالب مسيء في الصف ابداً، حتى أني نسيت تلك المفردة، لأني أشغل الدرس علمًا ومعرفة، فليس هناك مجال للإساءة، فالإساءة حسب خبرتي تتأتّى من الشاغر و الانفلات في الدرس…
وثالثًا: أستخدم سجل المتابعة في أول دخولي للصف, وهذا ما يضبط الطالب, لأن كل شيء محسوب في هذا السجل، حتى هندام الطالب…لكون المعرفة عندي أهم من الدرجة, والتدرّج في الاستيعاب أهم من الانتظار والتأجيل للحصول على أعلى الأرقام، وهذا خلل في نظامنا التربوي، لكون هدف المدرس الحقيقي يجب أن يكون وراء جمع المعرفة في أذهان الطلبة وليس جمع أرقام الدرجات….
رابعًا: أتابع عدد مرات إهمال الطالب بدقّة في سجل المتابعة، فإذا تكرّر إهماله, في الثالثة أحذفه من سجل المتابعة بذريعة أن هذا السجل خصّص للمعلومة المعرفية وليس للدرجات, لذلك أثبت له درجة (100%) في درسي،مع إعلان براءتي من متابعته العلمية في سجلي هذا ، لأني لا أقيم وزنًا للدرجات أكثر من استيعاب المعلومات…وأخبر مراقب الصف أن لا يدرجه مع الغياب في درسي لرفضه متابعتي العلمية له ….وهذا ما تراه، يا أستاذ خارج الصف يبكي خلال جولتك التفتيشية ... لأني أحشره في زاوية حرجة بين الفشل والنجاح كعلاج نفسي, والإهمال أول غيث حينما يفسر ثقل الفشل، فحين يرى ثقل الفشل بأمّ عينه يستقيم…يبقى يتوسّل لأعيد اسمه لسجل المتابعة, ويكون بعدها من أفضل المتابعين….
خامسًا: أختبر الطلبة في أول عشرة دقائق من كل درس بمعلومات التحضير اليومي التي أعيّنها له, وأصحّح الأوراق وأعيدها لهم في نفس اليوم، وفي اليوم الثاني أختبر الطلبة الذين فشلوا في اليوم الأول، فلا أعتبر الدرجة مقياسًا, للاستيعاب بل الاستيعاب نفسه مقياسًا لرقي الطلبة المعرفي ….
خامسًا: أختبر أكثر من اختبارين شاملين في كل شهر, وفي اليوم التالي للاختبار أوزّع أجوبة الأسئلة مع المناقشة فيها، وأعيّن إعادة لامتحان بعد موعد توزيع أوراق الإجابة مباشرة, وبنفس ورقة الامتحان السابقة للراغبين في الإعادة, فالطلبة الذين أخفقوا في جانب من جوانب الامتحان سيتحسّنون حتمًا في إعادته, وسيفرحون حين ألغي لهم الدرجة السابقة وأحسب لهم الدرجة العالية الجديدة, أمّا الذين تهبط درجاتهم في الإعادة ولم يعدّلوها في الاختبار الثاني, أحسب درجات الفرق الهابط بالعصا على يديه !….وهم الذين رأيتهم في خارج الصف يتباكون يا أستاذ…..بتلك الطريقة أنا زوّدتهم بالمعرفة دون أن يحسوا بذلك, بطريق التلاعب بضرب أهمية الدرجة التي يقيسها بعض المدرسين بالمثقال ظنًّا منه أنها الهدف وليست المعرفة, وهذا خطأ فادح يرتكب في نظامنا التعليمي….
سادسًا: أحذر كثيرًا من مطالبة الطالب ماديًّا بثمن ورقة الملزمة أو الاختبار,أو مساومته على الدخول بدورات خصوصية عندي، لكون هذا التصرّف المنحرف سيصغر المدرّس بعين الطالب من جهة, ويحوّل العملية التربوية إلى عملية مادية ترهق ولي الأمر والطالب معًا ، من جهة اخرى…..
فهل يا ترى يعترض ولي أمر عاقل على هذا الإجراءات….؟”
أجاب المدير بشدّة وجدية :
وكيل المديح الذي لا أستحقه ، لأن ذلك واجبي الذي أقبض عنه راتبًا حلالًا….