22 ديسمبر، 2024 5:06 م

عراقيو الخارج والداخل !

عراقيو الخارج والداخل !

تبرز بين الفينة والاخرى، في حوارات النخب مفردات ( عراقيو الداخل والخارج )، في اطار محاولات، لفهم اسباب التصدع الحاصل في البناء المادي والاخلاقي، للدولة العراقية..وغالبا ما يمثل اللجوء الى هذه الثنائية، هروبا سريعا من جهد الكشف عن المصادر الاساسية للخلل الحاصل في عملية البناء … هروب، يجسده خطاب الانفعال المحشو ( ضمنياً او ظاهرياً) بعبارات التراشق وتبادل الاتهامات.
لا يوجد في الحقيقة ، اختلاف كبير بين عراقيي الداخل والخارج، لان الصفات الشخصية المكتسبة عن طريق البيئة والجغرافيا، تحصل وتترسخ، عندما تثبت الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية عبر حقب مختلفة، لتنعكس بصورة ثبات نسبي على الصفات السيكولوجية للشخصية ..السنوات القليلة التي يمضيها الفرد في هجرته ( خصوصا اذا هاجر بعد عشرينيات عمره ) لا تكفي لاكتساب صفات البيئة الجديدة بشكل كامل، ولهذا لا يصح التوصيف الجغرافي ( الداخل والخارج ) ، على هذا النوع من العراقيين، ويصح فقط على الجيل الثاني او الثالث منهم، الذي ولد في المهاجر وصقل عن طريق البيئات الجديدة شخصيته..

هناك بطء شديد او عدم توافق وتطابق بين الطفرات الحاصلة في البنية الاقتصادية والاجتماعية للبيئة المحيطة بالفرد، وبين منظومة القيم والصفات الشخصية، كما ان العقد النفسية والسلوكية لفترة ما قبل الهجرة، تبقى ملازمة للفرد في مسيرة حياته اثناء فترة الهجرة ، وقد تتعزز اكثر بسبب الظروف المأساوية التي رافقت او سبقت الهجرة ، بشكل عام …قسم معين، من عراقيي الخارج، بقى في مهاجره مسكوناً بذاكرة الماضي ، وقلقاً من اجتياح الهوية الجديدة واستفزازها لثوابت ثقافية ودينية مترسبة في الوعي، ولهذا نجده، حائرا يتلمس خيوط الوصل مع هويات ما قبل الهجرة كي يحتمي بها … وفي هذا السياق، تنتعش في مجتمعات الهجرة ، الهويات الفرعية وتتصلب وقد تتطرف. كل ذلك يمكن ان ، يحدث بمعزل عن القدرات والمهارات الفنية المكتسبة خلال مسيرة الاغتراب.
كما ان حالة عدم الاستقرار التي يعيشها المجتمع العراقي منذ فترات طويلة، جعلت الفرد متوثبا لتغيير موقعه الجغرافي بهدف تحقيق السلامة، التي تختل بسبب التهديدات المستديمة. ولهذا يتطلع قسم من المتصدين للشأن العام، من عراقيي الداخل، الى تأمين وجود له خارج الوطن، اثناء عمله في الداخل.
وبهذه الصورة، يضع عراقي الداخل قدماً في وطنه، وقدماً خارجه، من اجل السلامة، ويضع عراقي الخارج، بعد ان تأكد من سلامته، قدماً في بلد هجرته ، وقدماً في بلده الاول من اجل تحقيق الذات، واكمال ما لم يستطع اكماله قبل الهجرة، مع طيف واسع من حسن النوايا الابتدائية بالعمل والبناء..
قسم كبير من عراقيي الخارج، يعتقد بان اكتسابه مهارات جديدة ، قد يمكنه من احتلال مناصب قيادية في مجتمعه، وهو اعتقاد خاطىء لان المسؤولية القيادية هي (حزمة متكاملة من المهارات والسلوكيات المميزة والرصانة الاخلاقية) التي تدفع نحو تقديم قيمة مضافة للمؤسسة ( او للمجتمع ).
والرصانة الاخلاقية، هنا لا تعني، اخلاق الفرد التقليدية، مثل الاخلاق والتواضع والكرم وغيرها من صفات، تتواجد لدى الكثير من البشر، ولكنها حالة من التسامي على الذاتية، والانصهار في الهدف العام، واستحضار دائم لجميع اسباب تخلف المجتمع، وآمال الشرائح المتضررة من سوء الادارة وانعدام العدالة… وهي حالة (قيادية بامتياز) ، تشبه الحالة التي تفرق بين رجل الدولة ورجل السياسة، حين يفكر الاول( بالاجيال القادمة) ويفكر الثاني (بالانتخابات القادمة) .

اختلال الرصانة الاخلاقية، هو (امتحان كبير) يتعرض له الجميع “داخل وخارج ” عندما تضعف الضوابط الاخلاقية والقانونية في الدول الهشة ( على سياق المثل القائل بان المال السائب يعلم على السرقة)، وهو ذات الامتحان الذي يتعرض له قسم من المنظمات الدولية والشركات الاجنبية عندما تعمل خارج فضاءاتها المنضبطة اخلاقيا وقانونياً..
وفي مجال الخلل الاخلاقي الذي يقود الى فساد الافراد خارج بيئاتهم المنضبطة، يمكننا الحديث -على سبيل المثال – عن حالات سفر قسم لابأس به من موفدي المنظمات الدولية لمساعدة الضحايا الذين يموتون من الجوع، أو من نزيف الدم أثناء الحروب، أو من التشرد نتيجة الكوارث الطبيعية؛ على فئة الدرجة الأولى على الأقل، إن لم يكن في درجة الأعمال، وسكنهم في فنادق خمس نجوم أو في فلل فخمة تستأجرها المنظمات بأسعار مضاعفة عن سعرها الطبيعي! ( وهناك امثلة كثيرة عن سرقات مالية واغتصاب وغير ذلك ).
ولهذا ، تظهر التوصيفات الثنائية ( داخل وخارج ) ، سطحية ومتسرعة ،وظالمة لاسباب تخلف البناء المادي والاخلاقي للوطن.