23 ديسمبر، 2024 9:10 ص

عبد الكريم كاصد : هل للمثقف العراقي دور سياسي في الجغرافيا  العراقية؟ – 1

عبد الكريم كاصد : هل للمثقف العراقي دور سياسي في الجغرافيا  العراقية؟ – 1

تقديم/ جاسم العايف/ حوار خالد السلطان
  مع بداية العام الدراسي سنة 1962 كان عبد الكريم كاصد طالباً في كلية اللغات- قسم اللغة الفرنسية في جامعة بغداد. خلال إعصار 8 شباط 1963 الدموي استطاع الهرب من بغداد عائداً، بمشقة بالغة إلى البصرة، واختبأ في بيتهم بـ”صبخة العرب”، وتم التكتم على تواجده فيه ، ولم يعلم بذلك إلا القلة من أصدقائه الذين كانوا يزورونه سراً. بعد هزيمة القتلة في حكم البعث الأول، تقدم للدراسة،على نفقته الخاصة، في جامعة دمشق وقبل في كلية الآداب قسم الفلسفة. نشر للمرة الأولى قصيدة في مجلة (الآداب)اللبنانية، عندما كان طالباً في جامعة دمشق، كما كان كثير النشر في الجرائد والمجلات السورية، وما نشره لم يقتصر على الشعر، بل شمل مقالات ودراسات في الأدب والثقافة. بالإضافة إلى الجلسات الشعرية التي كان يشارك فيها. وكتبت عنه الناقدة (د.سلمى الخضراء الجيوسي) في عمود ثقافي لها كانت تنشره، بشكل دائم، في مجلة شهرية لبنانية-عامة، ولم تكن السيدة (الجيوسي) على معرفة به، لكنها اطلعت على قصيدته الأولى المنشورة في مجلة (الآداب) وبعض شعره مخطوطاً، عبرَ بعض أصدقائه، وبعد أن تحدثت عنه و شعره، أنهت عمودها نصاً بما يلي: ” ثمة مستقبل شعري لامع ومتميز لهذا الشاعر الشاب القادم من العراق، والمقيم حالياً للدراسة في سوريا”. في دمشق، تعرف كريم على عدد من الأدباء السوريين منهم: ” ممدوح عدوان، فائز خضور، علي الجندي، محمد الماغوط،على كنعان” ، وهؤلاء بالذات ربطته بهم علاقة وثيقة، فقد سكن والشاعر ممدوح عدوان، في بيت واحد لفترة طويلة. بعد تخرجه من جامعة دمشق عمل في معهد المعلمين في البصرة مدرساً لعلم النفس التربوي، وكان الشاعر محمود البريكان يدرّس في المعهد ذاته اللغة العربية، وربطتهما صداقة عميقة. ثمّ أوفد للتدريس إلى الجزائر سنة 1969. في الجزائر انكب بجدية،تميزه منذ الصِبا،على تعلم اللغة الفرنسية، وكان يذهب في العطلة الدراسية إلى باريس والانتظام في معاهد تعليم اللغة الفرنسية حتى أجادها تماماً.عاد إلى العراق سنة 1972 وبدأ النشر في الصحف والمجلات العراقية ومنها صفحة(آفاق) الثقافية بجريدة الجمهورية، وكانت حينها من أهم الصفحات الثقافية في العراق، ونشر فيها عدداً من التراجم  الشعرية عن اللغة الفرنسية، ثم بدأ النشر المتواصل شعرياً وثقافياً في “الصفحة الثقافية” بجريدة طريق الشعب، وكانت تلك الصفحة غنية بجديتها وموادها وبالأسماء اللامعة،العراقية ، التي كانت تكتب فيها أو تحررها. ونشر كذلك في جريدة” الفكر الجديد” و مجلة “الثقافة الجديدة” ومجلة “الآداب”، كما نشر ترجمة متميزة لعمل سان جان بيرس (أنا باز) في مجلة (الأديب العراقي). صدر له عن دار العودة في بيروت مجموعته الحقائب عام 1975 ولم تكن طبعتها ملائمة ولم يتسلم منها غير نسخ لم تتجاوز الخمس، بسب الوضع السياسي- الاجتماعي الذي بدأ بالارتباك في لبنان. قرر كريم- وهو الاسم المحبب الذي يناديه به أصدقاؤه- أن يعيد طبع الحقائب ثانية في العراق، فطبعها بغلاف صممه الفنان محمد سعيد الصكار وصدرت عن دار الأديب في بغداد بطبعة متميزة. وحظيت (الحقائب) باهتمام النقاد والقراء.عام 1977 بدأ بإعداد مجموعته الثانية (النقر على أبواب الطفولة) للنشر وقد صمم غلافها ولوحاتها الداخلية الفنان فيصل لعيبي وصدرت، عن مطبعة شفيق- بغداد- في وقت غير مناسب، إذ تم في ذلك الوقت الهجوم الشرس على القوى الوطنية- التقدمية وواجهت (النقر..) مصيراً محزناً إذ تركها كريم لدى باعة الكتب والمكتبات التي سريعاً ما حجبتها عن العرض – يمكن لمن يرغب الاطلاع على هذا الأمر التفضل بالعودة إلى سلسلة مقالاتي المعنونة (مقهى الدّكَة في البصرة.. فضاء ثقافي وزمن سبعيني) والمنشورة في بعض الصحف والمجلات العراقية وبعض المواقع في شبكة الانترنت العالمية، وتلك المقالات تشكل القسم الثاني من كتابي” تلك المدينة..” الجاهز للطبع. نهاية عام 1978 غادر(كريم) ، متخفياً برفقة الصديق الشاعر الراحل (مهدي محمد علي)، وبدلالة بعض المهربين العراقيين عبر بادية السماوة في رحلة مضنية وشاقة دامت ثمانية أيام نحو الكويت، هرباً من تجبر النظام وفظاظته وبطشه. ثم اختبأ ومهدي في الكويت أكثر من شهرين وغادراها نحو عدن، التي عمل فيها ،سنوات ، في مجلة (الثقافة الجديدة) اليمانية، ومنها انتقل إلى لبنان وسوريا وأخيراً استقر في لندن التي واصل فيها دراسته فحصل على البكالوريوس في الأدب الإنجليزي ثم الماجستير في الترجمة. عمل أصدقاؤه أدباء وكتاب البصرة ، بعد سقوط النظام ، على أن يكون مهرجان المربد عام 2006 باسمه تكريماً لمنجزاته الشعرية والثقافية المتنوعة المتعددة، ومواقفه الحياتية الناصعة. يتنقل حالياً ” كاصد” بين البصرة والقاهرة ولندن وعواصم عربية وأجنبية عدة مَدعواً لإقامة جلسات شعرية خاصة به، أو المشاركة  في جلسات ثقافية وشعرية. ما زال (كريم) يواصل إصداراته المتنوعة حتى بلغت أكثر من (40) كتاباً توزعت بين مجموعات شعرية،  وكتب نثرية في البحث، و السيرة، والسفر، وترجمات عن اللغة الفرنسية والانجليزية لشعراء مثل جاك بريفير، وسان جون بيرس، ويانيس ريتسوس، وكفافي، واراغون، وايلوار، والشاعر الروماني مارين سوريسكو، والشاعر الجيكي ميروسلاف هولوب، والشاعر الويلزي آر.أس.توماس، و الشاعر الاسباني رافائيل البيرتي. كما ترجم وأعدّ مسرحية (حكاية جندي) وقدمت على مسرح (أولد فك) الشهير بلندن، وكانت تجربة مثيرة، إذ قُدمت بلغتين في آن واحد، اللغة العربية، وشارك فيها من العراق بعض الممثلين الشباب، واللغة الانجليزية، ومثل فيها بعض الممثلين الانجليز وأثارت اهتماماً عربياً وانجليزياً، وله أيضاً مجموعة قصصية بعنوان (المجانين لا يتعبون)، كما ترجم شعره إلى اللغات الانجليزية والفرنسية والألمانية وبعض اللغات العالمية الأخرى،وصدر بعضها في كتب ومنها مجموعة”مقـاهٍ” التي صدرت، حديثاً، عن دار (ماني  بريس) باللغة الإنجليزية. وترجمتها ابنته سارة ، وراجعها الشاعر الإنجليزي ديفيد كيرت، وكُتب عنها في صحيفة ( مورننغ ستار)البريطانية مقالا بعنوان: “أشعار لا تُنسى”. وكذلك في  موقع (تجمّع كتاب الشعر)، وهو تجمّع أسسه الشاعر الشهير (تي. أس. إليوت) سنة 1953، وفي مجلة (بانيبال)كتب الشاعر والناقد الإنجليزي نوربرت: “يقول هارولد بلوم أن على القصيدة أن تُدهش وتُمتع، وهذا ما تفعله قصائد كاصد”. (نايجل ويل) ، مترجم بعض أشعار المتنبي إلى اللغة الإنجليزية، فكتب عنها: “كم مذهلة هذه القصائد”. أما الناقد الانجليزي “يان سيد” فـقد كتب:” ديوان مذهل، أمتعني جدا إنه: يذكرني بالشاعر إنغاريتي”. وقد صدرت بعض كتبه بطبعات عدة وعن دور نشر عربية مختلفة.آخر ما صدر لكريم في الشعر(حَذام) وهو يحمل اسم السيدة الفاضلة زوجته، التي غامرت بحياتها شابةً، في مرحلة قاسية و حرجة، إذ غادرت العراق بعد هربه منه بفترة وجيزة ، وحيدة وفي مغامرة نادرة واجهت فيها المحن و المصاعب و المشقات، حتى التحقت به في (عدن)، وعاشت معه حياة الغربة والنفي الدائمين ، وتوفيت في لندن ودفنت فيها وخصها كريم  بكتابه هذا وطبعه  في دمشق ،مع إن كثير من دور النشر العربية طرحت عليه طبعه على نفقتها ، لكنه أصر على طبعه على نفقته الخاصة، إكراماً ووفاءً لها، وكانت مقدمته بعنوان (خطأ في المعيار) تحدث فيها عن مرض القلب الذي لازمها طويلاً ، وورد في بعضها:”مررنا أنا وحَذام ببلدان عديدة ينقصها الدواء فلم يحدث لها ما يفزعني، علي قلقي وتوجسي الدائمين كنت أتطلع حولي وأقيس المسافة بين أقدار محتملة ووطن بعيد وأدفع الموت بيدي – ودفعته، فهل كانت نجاتها آنذاك خطأ”؟؟. “لماذا أنت شاعر!؟” هذا السؤال وجه إليه مرة، فأجاب: ” أنه يشبه سؤال الآخر: لماذا أنتَ  تتنفس؟”.أشد ما يميّز قصائد كريم، مع ثقافته العامة المتنوعة الرفيعة، هو احتفاؤه باليوميّ، لا للتوقف عنده بل من أجل عبوره إلى نقيضه من أحلام وطفولة ، ووقائع وأساطير، وهو حتى في أغلب تفصيلاته المعتادة، كان مأخوذاً بما يتجاوز هذه التفصيلات ، من مخيلة ومشاعر ورؤى وأفكار. ولم يمارس كريم  هذا بفطنته وقدراته الشعرية وحدها ، بل بوعيه الاجتماعي-الثقافي الحاد ، مدركاً انّه جزء من حركة شعرية يمثًلها شعراء عديدون ، وهمها هو هذا التوجه بالذات ، من دون حصر الشعر في إطارٍ ما، لأن هذه الحركة بلا إطار أصلاً وهي بعمق الواقع وتجدده الدائم وغناه وسعته ، حيث الجوهر عصيّ على الإمساك إن لم تسعفه ثقافة شعرية، و تجربة حياتية عميقتان، كما لم يتجاهل، كريم، وصية “لوتشي”، الشاعر الصيني والقائد العسكري، الذي حكم عليه بالموت عام 303 (ق.م) ، بعد معركة خسرها، و أشاع تلك الوصية (ارشيبالد ماكليش) للجميع في: “إن فنّ الشاعر طريق للمعنى… طريق تجعل العالم يعني شيئاً”.  هذا الحوار أجراه في البصرة مع الشاعر(عبد الكريم كاصد) الأستاذ( خالد السلطان)، وهو باحث و كاتب، ويحمل درجة الدبلوم في الإخراج المسرحي، من المعهد العالي للسينما والمسرح في دولة الكويت،  واجتاز بنجاح دورة لمدة سنة كاملة شارك فيها في تلفزيون الكويت، لغرض التدرب على الإخراج السينمائي والتلفزيوني والمسرحي. وقد اخرج العديد من المسرحيات، العالمية والعربية، برؤى إخراجية حداثوية، و حازت على جوائز تقديرية في المهرجانات المسرحية العراقية، والبصرية، والعربية. وأسس (السلطان) في البصرة برفقة بعض زملائه(فرقة إبراهيم جلال المسرحية)التي قدمت بعض المسرحيات من إخراجه. و شارك الأستاذ (السلطان) مع الفرقة، وبالتعاون مع كلية الفنون – جامعة البصرة، في الملتقى  المسرحي المصري-العراقي الذي أقيم  في القاهرة للفترة من 9 لغاية 11 / كانون الثاني عام 2012  مخرجاً مسرحية(مانيكان) تأليف الناقد والكاتب المسرحي (بنيان صالح). وأسهم مع كتاب آخرين ببحث عن(السينما والأدب) في الكتاب النقدي الذي أصدره اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في البصرة  صيف عام 2007  والمعنون(الأدب والفنون الأخرى)، والأستاذ (خالد السلطان) كان رئيساً لتحرير جريدة(الأخبار)الأسبوعية التي تصدر في البصرة عن شبكة الإعلام العراقية ،  حتى استقالته منها مؤخراً، برغبته الشخصية للتفرغ لعمله الثقافي المتنوع.                        
 *هل أن اهتماماتك الفلسفية ، وقبل ذلك دراستك الأكاديمية للفلسفة ، أديا إلى تقاطعك مع ما يُسمى بالسرديات الكبرى؟.                      ** قبل دراستي الأكاديمية في سنّ مبكرة جدّاً، أتذكر قراءاتي البسيطة الأولى، من بينها كتب المفكر اللبناني جورج حنا الذي لا يتذكره أحدٌ الآن. في ذاكرتي منها كتابه (ضجة في صفوف الفلسفة). بي حنين لأقرأه مرة أخرى، لأستعيد مرحلة لم تغب حسب، وإنما أصبحت مندثرة تقريباً.لا أزال أتذكر أنني قرأته في ليلة ماطرة شديدة العصف، هذه الكتب هي ما شكّلَ وعينا الذي كان يلحّ، في بداياته،  في أسئلته عن واقع محتدم هو بالنسبة إلى الطفل، كالجبل الذي يلوح للسندباد محمولاً في مخالب طائر الرخ، ويلحّ في أسئلته أمام واقع لا يقدم لنا إجاباته، بل صراعاته المحتدمة التي لا تقودنا إلا إلى أسئلة أخرى.. واقع يكاد يكون غائبا في أغلب مظاهر الفكر التي تعكسه، لا في جوهره العميق، أو تفاصيله التي تقرب من المأساة، بل في تسطحه الذي يقرب من الملهاة. كانت الأسئلة تفاجئنا في هذه التفاصيل التي يمر بها الناس بلا اهتمام، منذ التحول الكبير في الرابع عشر من تموز: كنا نرى أعراساً و لا نرى فجيعة، نسمع هتافاً ولا نرى بشراً، ولعلنا مازلنا لا نصغي إلى نداء وعينا، أو ضمائرنا في مراجعة هذا الماضي: الوجه الآخر للقائد الزاهد، القسوة في القتل، الأفكار لا البشر، التحول الشيطاني للسياسيّ الخبيث الأشدّ خبثاً من الواقع نفسه، النسيان بدلاً من الذاكرة، وقد يكون العكس، في ما لا يستحق نسياناً ولا ذاكرة. وأخيرا العقائد وقد نبت لها أجنحة بعد أن كانت تزحف على الأرض، لقد أصبحت محلقة في السماء، عصية على الإمساك، وكأن دورنا الأرضيّ لم يعد غير التطلع إليها حسب، حدّ الألم في الأعناق المهيئة في أي لحظة للشنق، واقع هو الذي يدفعك للتفكير، وليس تفكيرك هو الذي يدفعك إلى التطلع في الواقع.ولعل مهمة المثقف العربي، والعراقيّ خاصة، كانت ولا تزال مرهقة: كيف يعرف واقعاً لم يقرأ فكره، ويقرأ فكراً (قادماً من البعيد) لا يعرف واقعه. أهي محنة المثقف العربي؟. هل من قادني إلى السرديات الكبرى اهتماماتي الفلسفية المتأملة حقّا؟ أم واقعي الخبيث المتحول المرعب الذي لا يُمسك أحياناً، لا لغناه بل لفقره ، لأنه لا يحيل إلا إلى ما هو لا يستحق التفكير أبداً.                             
*منذ ستينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي ، كُنت تُصنّف- من الناحية السياسية- مثقفا شيوعيا . وبعيدا عن الانتماء التنظيمي ، هل مازال ذلك التوصيف متوائماً مع توجهاتك السياسية البعيدة قطعا عن الأنشوطة الأيديولوجية، أي الوعي المزيّف طبقا لتوصيف كارل ماركس للأيديولوجيات.
** هذا المصطلح شديد الالتباس، فهو يبدو لي مصطلحاً سياسيّاً وليس ثقافياً، فإن أخذنا به باعتباره مصطلحاً سياسيّاً فهو أيضاً سيكون شديد الالتباس ، لأن ثمة عدداً لا حدّ له من المواقف السياسية في الحركة الشيوعية، حتى الرسمية منها..لذلك أتحفظ على مثل هذا المصطلح حتى في المرحلة التي كنت فيها ، كما جاء في السؤال- مصنّفاً. وتبدو المسألة أكثر تعقيداً إذا ما تمّ الاحتكام لا إلى الموقف السياسي، بل النص الإبداعي الذي لا يعبر بالضرورة عن موقف الكاتب الأيديولوجي، كما وضح ذلك ماركس وانجلز في مواضع كثيرة في مؤلفاتهما، وكما عمّقه بتفصيل أكبر كلّ من لوكاتش وغرامشي فيما بعد.
*في ضوء المشروع الأمريكي حول الشرق الأوسط الجديد وطروحات برنارد لويس وبريجنسكي وكونداليزارايس، هل يُمكن القول أننا نحيا في زمن احتضار الهويات الثقافية الوطنية ، وإرهاصات ولادة الهويات الثقافية الطائفية والأقاليمية والشعبوية؟. 
** حين تضعف الدولة المستبدة وهذا ما حدث بعد التطورات الأخيرة فإن التنظيمات والمؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية القديمة المرتبطة بالدولة، رغم انفصالها شكليا، تبدأ بالظهور مترافقة مع ظهور التنظيمات والمؤسسات التقليدية ذات الهويات الثقافية الطائفية والأقاليمية والشعبوية التي هي أشدّ رسوخاً، لذلك تكون لها الهيمنة أولاً لا بسبب رسوخها هذا وحده، بل لأنها دعامة هذه السلطة الجديدة الهشة التي تبحث بدورها عما يعوض عن هزالها في هذه المنظمات والمؤسسات البديلة، غير أن كل هذه التوازنات الرخوة لن تؤدي إلا إلى نقيضها على المدى الطويل:عجز السلطة المستمر، وفضح المؤسسات والتنظيمات الدينية التي تسفر عن وجهها الدنيوي السياسي بأشدّ أشكاله بؤساً وتخلفاً، فلا تنفع عندئذ كل مزاعمها الدينية ولا أدعيتها، لأن الواقع الذي أصبح تغييره جزءاً من مهامها لن يكون إلا واقعاً مشوهاً بين فكر ينتمي إلى الماضي، ومشكلات تنطرح باستمرار ولا تجد حلولاً لها أبداً. ولعل ما تعانيه هذه السلطة والمؤسسات من عجز وازدواجية وفضح سيكون مأزقاً فعلياً لا خلاص منه، وقد حلّ هذا المأزق فعلاً، من خلال ما نشهده من ملهاة جارية الآن ستعقبها مأساة لن تكون بعيدة أبداً. إن (مصر) خير مثال على ذلك، فهي تشهد صراعاً لم يكن ظاهراً من قبل بمثل هذا الاحتدام تشارك فيه كل فئات المجتمع وطبقاته، ولم يعد مقصوراً على الانتلجنسيا فقط. ثمة انحطاط في الدولة، وسكون قاتل، تواجهه حركة في مجتمع متحفز، نحو ما هو متغير، إن لم نقل نحو ما هو جديد هو أبعد ما يكون عن تفكير هذه الفئات الصاعدة إلى السلطة، وارتباطاتها المشوهة بالسوق العالميّ. ثمة في مصر وعي تلمسه في كل مكان: المقهى، المترو، الأوتوبيس، . إن حديث المواطن بحدّ ذاته بعيداً عن الخوف، ورقابة رجل المخابرات هو نقلة مهمة جداً، رغم كل ما يحفّ بهذه النقلة من مخاطر، وتوجسٍ، وخوفٍ على المستقبل. وإذا كان ثمة خوف الآن فليس الخائف هو الناس وحدهم، بل السلطة ذاتها التي كانت قديما واثقة من نفسها تتحدث عن الأبدية وليس العابر. فرغم كل المحاولات في دمج السلطات الثلاث في سلطة واحدة كما حدث في الماضي فإن هذه المحاولات تبدو ليست سهلة أمام أصحاب اللحى والثروات الهائلة، القادمين بكل شرههم إلى السلطة التي انتظروها طويلا. 
* في بلدان ما يُسمى بالربيع العربي هيمنت قوى وأحزاب الإسلام السياسي ، سلطويا واجتماعيا واقتصاديا ، وعلى هامشها نشطت نسبيا التيارات المدنية المُتعددة الاتجاهات اليسارية والليبرالية. للقوى الأولى حاضنة اجتماعية وجماهيرية واسعة جدا ، بينما لا حاضنة للتيارات والقوى الديمقراطية سوى كموم متنابذة غالبا ، مما يُمكن تسميته بالأنتلجنيسيا . للقوى الأولى ثقافتها الدينية والسلفية التي ما زالت مُهيمنة في تلك البلدان ، بينما ثقافات التيارات الأخرى مُشبّعة بالتأثّر بالحداثات الغربية . وعليه هل ثمة إمكانية لنشوء ديالكتيك يؤدي إلى بلورة مشتركات بين المثقف الإسلاموي والمثقف العلماني في تلك البلدان ، بما فيها العراق؟.
**لا أعتقد، كما أشرت في إجابتي السابقة، أنّ الانتلجنسيا هي الحاضنة الوحيدة للتيارات والقوى الديمقراطية، رغم صواب ما قلتَه عن الهيمنة الثقافية الدينية والسلفية لأحزاب وقوى الإسلام السياسي، لأنّ وصول هذه التيارات إلى السلطة جعلها في مواجهة واقع من الصعب تجاوز تناقضاته إلى ما يضمن لها استمرار هذه الهيمنة التي لا أراها غير هيمنة عابرة، لأنها تضعها في مواجهةٍ، مع جمهورها أيضاً،عارية بلا أقنعة، فهي لا برامج لديها ولا تخطيط ولا قدرة على التفاهم مع القوى الأخرى، لأنها غير معنية بالمستقبل الذي تراه أنه أصبح وراءها، ولعل ما تفعله الآن شبيه بما فعلته الأنظمة التي قبلها عندما ظنت أنها تستطيع إعادة التوريث الذي أدى بها إلى الانهيار، والذي كان مرفوضاً حتى في زمنه. إن مثل هذا التفكير، كاستعادة الخلافة مثلا، لا يمكن أن يشكل ثقافة لنقول أنّ ثمة إمكانية ديالكتيك يؤدي إلى بلورة مشتركات بين المثقف الإسلاموي والمثقف العلماني. إنهم مع الأسف أقرب إلى تنظيم القاعدة الذي يدعون إلى محاربته، في وجوه عديدة تؤيدها الأحداث السياسية اليومية التي نسمعها أو نراها. نعم قد يحدث هذا الديالكتيك على المستوى الفردي، عندما يكون القاسم المشترك هو الثقافة الحقيقية لدى الإسلاموي والعلماني، ولكن من الصعب أن يحدث هذا على المستوى الجماعي كما نشهد الآن، حيث العجز هو الإشارة الوحيدة لمثل هذه القوى التي لم تقو حتى على رفع المزابل من الشوارع. ولعل المفارقة تكمن في أن هذه القوى المتخلفة عن العصر لا القوى الأخرى التي تواجهها هي المدعومة عالمياً،لأنها قوى وسيطة للرأسمال العالمي الذي يستخدم العقل والتكنولوجيا بأبشع صورهما وحشية وتناقضاً، مثلما تستخدم هذه القوى العقل والدين بمختلف أشكالهما تناقضاً أيضاً. لقد ولى عصر الصناعيين الكبار والطبقة البرجوازية الصاعدة المهووسة بالتجديد التي كنا نقرا عنها.
*أعود للسؤال السابق وأضيف بأن الحاضنة المعرفية للمثقف في عموم البلدان العربية تأسست اعتمادا على النقل والإتباع . أي النقل من معارف وفقهيات السلف ، أو النقل من مجلوبات الآخر. وعليه ألا يبدو بأن الأفق مسدود أو غائم أمام ظهور ثقافة غير نقلية ولا وعظية ، ثقافة تعتمد القطع المعرفي مع السلف ، والتمثّل غير التقليدي لمعرفيات الآخر؟.
** ثمة محاولات لم تخلُ من الاجتهاد في فهم التراث فهماً مختلفاً عما هو شائع لدى هذه القوى الإسلامية، وهي محاولات جريئة حتى في وسطيتها أحياناً، في مثل هذا المناخ الباعث على الاختناق، الخالي من أبسط شروط الديمقراطية، والذي قد يكلف صاحبه حياته، وأسماء أصحاب هذه المحاولات معروفة لدى القارئ العربيّ، وهي محاولات تضرب في جذورها عميقاً في تاريخنا من خلال مفكرين وكتاب وشعراء واجهوا الموت بشجاعة نادرة، وسط بيئة محافظة تسودها أنظمة هي من أبشع الأنظمة الاستبدادية في العالم. أما الثقافة المجلوبة فهي ليست من مستجدات حضارتنا وحدها، وإنما هي من مستجدات أي حضارة كانت، لا يمكن أن تخضع لرغبة فرد أو جماعة، لأنها شرط ضروري يكاد يكون قانوناً طبيعياً، إلا إذا كنا نسكن كهفاً مثلما يريدون منا هؤلاء الذين التفوا على حركات الناس المفتوحة في الساحات ليعيدوها إلى كهوفهم المظلمة.
*إذا ما أعدنا قراءة طروحات ((كارل فيتفوغل)) عن الاستبداد الشرقي ومركزية الحكم الكليانية التي تنتجها المجتمعات الهيدرولوكية الآسيوية بخاصة.هل يُمكن القول أن الدمقرطة الراهنة والشائهة في بعض البلدان العربية ستُعيد إنتاج الحكم المركزي،عِبر صعود قوى أو أحزاب ذات مرجعيات ايديولوجية استبدادية ،وبأسم ديمقراطية مختزلة إلى صناديق الانتخابات فقط . أو كما قال (( رجب طيب أردوغان )) بأن الديمقراطية قطار نركبه ، فإن وصلنا إلى المحطة التي نُريدها علينا النزول من القطار؟.
** هؤلاء لم يركبوا قطاراً لأنهم يراوحون في مكانهم، ولم يهبطوا محطة لأن المحطات وراءهم.إذا كانت الديمقراطية في انجلترا بدأت تتعفن كما يقول الكاتب المسرحي الكبير الحائز على جائزة نوبل (هارولد بنتر)، فما بالك بهذه البلدان التي تحكمها قوى لا تقلّ سوءاً عن سابقتها. ولولا خشيتهم  من تكرار تجربة سقوط الأنظمة التي قبلهم، وحرجهم أمام العالم الذي ما زال يمارس الديمقراطية بمظاهرها الشكلية العامة، لفعلوا أبشع مما فعله قبلهم.إن فشلهم الذريع في الحكم لا يؤهلهم إلى الاستبداد. فللاستبداد ثمنه، وهم لم يعطوا الناس شيئاً ليأخذوا ثمنه منهم. حتى جديتهم بدت مسلية للناس بعد أن كانت موضع حفاوة، ولولا مجيئهم للسلطة لما انكشفوا هذا الانكشاف السريع الذي قد يحتاج إلى عقود ربما. أما محاولاتهم في إعادة المركزية، رغم كل تشويهات الواقع، فهي محاولات خاسرة، لأن الأنظمة القديمة ذاتها لم تستطع ذلك، فكيف تستطيع أنظمة هشة كهذه تواجه مشكلات لا حصر لها تحف بها من جميع الجهات، بل ومن داخلها أيضاً في ظرف جديد هو في غاية التعقيد والتداخل، بإثنياته، وطوائفه، وتنوع ثقافاته، وارتباطاته. ولعل نموذجها التركي الراسخ الذي انكشف عن نموذج هشّ  هو خير مثال على ذلك ، ويا طالما بهر حتى العلمانيين كصادق جلال العظم. يقول ماركس: في المجتمع الطبقيّ ما من ديمقراطية حقيقية أبداً، فما بالك في مجتمعات متخلفة، وتفاوت طبقي فاحش لا أخلاقي: ناس تنهب المليارات وآخرون لا يجدون كسرة الخبز التي تقيتهم. إنها من مساخر العرب الأخرى.
* هل للمثقف العراقي المُغترب ، في بلدان المهاجر الغربية ، دورا سياسيا مؤثرا في الجغرافيا العراقية ، أو دورا ثقافيا عراقيا لافتا للنظر في جغرافيا بلدان المهاجر؟.
** حين تكون في منطقة الأعراف فأنت لا بدّ أن تخسر الاثنين: الجحيم والفردوس معاً، إذا ما اعتبرت الجحيم خسارة. قبل التوقف عند الشطر الأول من السؤال أود أنْ أسأل بدوري: هل للمثقف العراقي، بشكل عام، دور سياسيّ مؤثر في الجغرافيا العراقية ليكون لزميله المغترب دور أيضاً، وقد نذهب أبعد من ذلك لنسأل: هل للإنسان العراقي البسيط دورٌ في هذه الجغرافيا التي هي في حقيقتها أكثر من جغرافيا لتاريخ واحد يتعدد الآن بتعدد الأحزاب والطوائف. أما الدور الثقافي في جغرافيا بلدان المهجر فنحن كثيراً ما نتوهمه عبر نشاطات تكاد تكون محدودة، إن لم نقلْ، مغلقة، ومهرجانات بائسة لا يحضرها إلا عدد ضئيل أغلبهم، ربما، من موظفي المؤسسة الداعية لهذه المهرجانات، ومجلات أشدّ وهماً، هي عبارة عن سوق، لأنها مجلات شللٍ لا ثقافةٍ. التقيت مرة بمسؤولة أحدى  هذه المجلات، جمعتني بها جلسة حميمة، وسألتها عن صاحب الصورة على غلاف مجلتها، هل قرأت نتاجه أو تعرف أدبه حتى ولو معرفة بسيطة، فأجابت بالنفي لأنها لا تستسيغ قراءته. وكان تبريرها إنه (fashion) أي (موضة).  بل أن إحدى المجلات المعنية بترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية، بلندن، اتصلت بها الشاعرة الهندية “ديفابريا بانجيري”، المقيمة بدلهي، قبل ما يقرب من خمس سنوات، بعد اطلاعها على قصائد لي فيها، طالبة منها رقم هاتفي أو عنواني الرقمي، لكي تجري معي حواراً أجرته فيما بعد، ونشرته في موقعها  www.oxfordbookstore
Com. 
Rhyme or Reason غير أنها لم تحصل على ما يوصلها إلي إلا بعد إلحاح دام أكثر من شهرين، مع أن رقم هاتفي أو عنواني الرقمي معروفان لدى المجلة وكل الأصدقاء الموجودين بلندن من الذين ينشرون في المجلة، أو يعملون في الوسط الثقافي، رغم تهريج هذه المجلة إزاء أبسط المظاهر الثقافية الزائفة، وادعائها الكاذب بالمهمة الملقاة على عاتقها للتواصل بين الثقافات. ترجم اللقاء فيما بعد الدكتور عبد اللطيف الجمال أستاذ النقد الأدبي في العديد من الجامعات بلندن، ونشر في بعض المجلات والمواقع الالكترونية كما نشر في كتاب (عبد الكريم كاصد من الحقائب إلى رقعة شطرنج) الصادر سنة 2012عن دار تموز بدمشق، والذي ضمّ حوارات أجريت معي أعدّها الصديق الشاعر عبد الباقي فرج.  ثمة عشرات الأمثلة التي يمكن سردها هنا للتدليل على أن ما يجري هو تجارة وليس ثقافة، رغم كل الادعاءات بفتوح الترجمات والأدوار المؤثرة في العالم الغربي. قال لي أحد الشعراء الإنجليز مرة إنه قرأ لشاعر عربيّ كبير كل ما ترجم له، ولكنه لم يجد بيتاً واحداً يتذوقه. ثم سألني: هل ترد في قصائدك لفظة جرح، فقلت له، مستغرباً سؤاله: لا أظن، قال: ولا أنا ولكن ما قصة هذا الجرح الذي يتكرر في كلّ سطر من شعر فلان الشاعر الكبير المترجم إلى الإنجليزية؟.ربما لم تكن المشكلة في شعر الشاعر العربي، وإنما في هذه الترجمات المسلوقة والاختيارات التي لا تعتمد ذائقة أو ثقافة، لأنها بضاعة سوق حسب.إن لم تكن هناك معايير للترجمة غير معايير السوق والشلل وهذا الكم الهائل، المتفاخر به، لأردأ النصوص، فإن أدبنا لن يستطيع أن يؤثر بوصة واحد في هذا الامتداد الشاسع في ثقافات العالم. أمّا ما تسمعه من فتوح فهي فتوح مكية لا أكثر!.