18 ديسمبر، 2024 7:22 م

الخلقُ بلوى، ومن عادة الخلقِ الاختصام. لم يجف الدمُ عن صلاح عبد الصبور حتى انتقصوا منه صباحاً في جريدة الثورة. وكان جسد أبو عليّ البياتي مسجىًّ حين قالوا فيه ما قالوا، وقبلها قالوا الشيء نفسه عن السياب، والشيء نفسه عن أبي الحداثة البغدادية جبرا إبراهيم جبرا. ولا أدري ما قالوا عن عبد الرزاق، لكنني دائماً ما أرى فيه صورةً أخرى لأعظم شاعر في زمننا، لم يأخذ الحق، لا في الحياة ولا في الممات. إنه راهبُ النخل، محمود حسن إسماعيل. فكلاهما صانع ماهر، ومتفاخر حدّ النفاجة، لكن عبد الرزاق تنقصه صوفية محمود. نشأ الشعراءُ في بغداد، صاحبة الأفلاك، أقرب المدن العربية إلى نار المجوس. والنار منذ الأزل، كانت هي النارُ. ما أن شعر عبد الرزاق بأن الماء ينضب من الوجه، وأن الخلان غابوا وتشتتوا، كلٌّ في طريق، حتى رمى نفسه في أحضان خرافة السلطان، وكانا اشبه بنهرين يابسين. لا أحد يشكر النهر اليابس على مائه. لم يبق لعبد الرزاق غير أنه النقّاش الوحيد الذي لم يأخذ معه غير التفاخر بالماء، وسواد الشعور. بنى عبد الرزاق خرافة أرض السواد، وصنع منها عموداً نقشه بالفضة، غير أن معلمه قد سبقه إلى القول بأنه هو العراق. لا أحد يمحو الديانة الأولى، ديانة الشعر. قد تسخرُ منا اليوم، ولا ندري أين تنام. لكن قبرك في المنفى وطن. يشعُّ الكفنُ فيه كما يشع الكفن من سيدنا الحسين، ومن البياتي، والجواهري. الأرضُ واحدةٌ، والقبورُ أعمدةٌ من النار.