19 ديسمبر، 2024 3:23 ص

كنتُ في شارع المتنبي ابحثُ عن كتاب يفتح شهية القراءة فلم اجده، نظرت هنا وهناك، سمعتُه وهو داخل مكتبته يوصل اليّ رسالة : / مضى زمانُ الكتب التي تصرخ في الواجهات ، خذني ايّها العطِشُ، ستجدُ عنّي ما يُسعدك. التفتت عيني، تسمّرَ خافقي، يهفو، يُصغي /……..أبصرتُه يحييني، وقد اقتعد كرسياً داخل مكتبته… أشرتُ اليه بيدي مُحيياً شاكراً. ابتسامتي له قبل ان تصل شلتني الفجيعة في مكاني. رميتُ بهاتفي الجوّال مفتوحاً في جيبي، وصوتُ أخي ، لا أدري أينوحُ ام يُغنّي، يستحثني على العودة وأنا لا أقوى على الحركة. ظلّ الهاتفُ يصرخ والشللُ يسري في كياني. فجأة ً واتتني قوّة ٌ خارقة فعدوتُ . لا يزال الهاتفُ يُرعبني، ألعويلُ يعلو على أصوات الأبواق.

الأشلاءُ تناثرت، وانقاض المنازل والحوانيت تُحيط بها، كأنّها تُواسيها. أين أجدُ حبيباتي؟ أين استنشقُ أنفاسهن العذبة؟ لا …لا أريد أن تظلّ الصورةُ المُشوّهة هي آخرُ ما أراه منهن.

سحبني أخي الى سيارته، أحسُّ كلّ جسمي يهتزُّ، يترنّحُ. الصمتُ وحدَه الغاضبُ الساكن. يا مَنْ فجّرتَ حبيباتي، ألم يخفق قلبُك بالحبّ يوماً؟ ألم يكن لك أبٌ وامٌّ وزوجة ٌ وصديق؟ أشهدُ أنّ لك كلّ هؤلاء. لكنْ اغلِقتْ عليك أبوابُ عقلك. أعموا بصرك، وسكبوا الطين في اذنيك، فلم تعد أنت اياك. ما تركتَ واحدة من حبيباتي لتحزن على مَنْ قُتلت. تركتَ الحزن كلّه يُمزّقني ما حييتُ.

لمَنْ سأبقى هنا؟ ولماذا؟ ضيّعتُ كلّ شيء وضيّعوني.

يدي تسيل ألماً وأنا افتحُ بابي. شهق البابُ حين فتحتُه، أتوكأ على وهن شجاعتي التي اضعفها الزمنُ. أمسكُ بحقيبتي وقد هدّها الترحال، لم املأها باشيائي العزيزة. وضعتُ البومَ صورنا فيها. هو تأريخنا الذي يسندني في الحياة. غادرتُ ولم التفت الى الوراء، لئلا ابصر نوافذ بيتي فينهارُ ما بقي من شحيح شجاعتي . بيتي الذي خلا من احبتي لم يعدْ بيتي.

أنا في البحر والسفينة تمخر بنا ، لم اجد شيئاً يتآخى معي . سوّاح، عشّاق، لصوص. انا وحدي وحقيبتي الكالحة . لا أدري في أيّة محطة يُنزلني صاحبي الذي وضعتُ حياتي بين يديه. لم أخترْ مرفأً ولا أرضاً ، ولم احلم بمَنْ ينتظرني. كنتُ اودُّ لو أنّ السفينة ذي تأخذني الى بلادي حين كانت قبلة العالم . لقد اخترتُ المنفى طوعاً، لكنّ ما في نفسي يشدّني اليها. أخشى أن يغلبني هذا فأقفز من السفينة. بيد أنّ مَنْ بيده مصيري لا تُفارقني عيناه، يشزرني كلما تلفتُّ حولي خشية أن افسد عليه خطته، والسفينةُ تمخرُ وتبتعدُ.

خطرت في ذهني امنيةٌ …لو حدثّتُ صاحبي بها لأعلن عن جنوني. تمنيّتُ لو تُغرقني السفينة وحدي، هذا ما لا اتمنّاه للراكبين السعداء. طمرتُ امنيتي ولمتُ نفسي عليها. لربّما أعود يوماً الى موطني فأجدُ مَنْ يعرفني وهم كُثر. ومن دون أن أدري لطمتُ جبيني ممّا أثار مَنْ قربي، تذكّرتُ أنني لم احزْ على جواز مرور يوصلني الى بلدي، يا لسخرية الأقدار، وانا غائبٌ عن السفينة وركّابها اذا بصاحبي يوشوشُ في اذني: بعد نصف ساعة تصل السفينة. سترى بانتظارك أبا صباح وقد رفع لافتة كتب عليها اسمك الجديد، لا تنسَ، انسَ اسمك الذي عرّفك اهلُك به. أمّا اليوم وغداً فأنت / البير زنكو لازار/ سيترُكك أبو صباح في أيد ٍ أمينة بعد أن تمرّ بعدة مفارز. لا تخفْ… لن تقطع الطريق ماشياً، سيأخذُك في قطار ثمّ في حافلة حتى يوصلك الى دائرة الشرطة بعد أن تسلمه جواز سفرك الجديد. هناك تنتهي مهمتنا. أتمنى لك التوفيق.

اليوم أنا في معسكر اللاجئين ، كثرٌ هم من بلدان العالم الذي يسمّونه (الثالث) الذين اضطهدوا وعُذّبوا واهينوا ، وقتلوا أجمل حبّ ٍ لهم عندما اغتالوا احباءهم كما حدث لي. نحنُ هنا عصافير بلا أجنحة ، خرجنا من الأقفاص لنظلّ على الأرض ندور حولنا. سعيدُ الحظ مَنْ يُمنحُ إقامة، نودّعه فرحين بحزن يملؤنا فراغُ مكانه الذي الفناه فيه. نحنُ هنا لا نزال نحمل معنا حميمية ارتباطنا بالآخر. شعوراً بمتعة الجمع مع غيرنا. نشوة َ تقاسم ارغفة الحياة مع بعضنا، شغفَ أعيننا وهي تستفيقُ صبحاً وسط هذا الجمع.

ضيفٌ آخر يعاكسها الحظ أو اللباقة في اخراج مسلسله فيُداهمه رفضٌ.تنتفضُ أوصالنا له.

نُراوحُ في مكاننا، نبتكرُ لُعباً تُنسينا مرور الوقت. سيأتي يومٌ يُغادرنا واحدٌ أو اثنان سعيداً أو يائساً احدُهما أو كلاهما. وتظلّ ارواحُنا بلا غطاء تلوبُ.

ليلاً يعتكفُ بعضّنا على سريره مستذكراً أمسه الذي تركه هناك، نخشى أن نوقظه لئلا تفرّ السعادةُ التي يعيشها لحظات شحيحة. غيره ساكنٌ، ساجدٌ في صلاته الطويلة، نحترم طقسه فنشلُّ حركتنا. نُخلي له المكان احياناً ونُمارسُ العابنا البائسة بعيداً عنه. نوحي لأنفسنا أنها تجلب لنا السعادة.

اسبوعٌ مضى ، وعبد المالك معتكفٌ في مكانه، لا يُكلمُ أحداً ، وكأنّنا سببُ مأزقه الذي يُحسّه. يخرجُ صبحاً ، يتجوّلُ في السوق، يتزوّدُ بما يحتاج اليه ويعود صامتاً.

هذه الليلة دفعنا الفضول، أو بالأحرى شعورٌ نحوه يعذّبنا. قلتُ لأبي محمّد: ربّما يُخبّيءُ في نفسه ما يُعادل جبلاً، وليس له أحدٌ هنا يُقاسمه العبء أويُصغي اليه. علينا أن نقتحمَ خلوته، عسى أن نكون قادرين على مشاركته همومه.

ذهبنا اليه، نمثّلُ الفرح والأمل، نرجو ألّا تخدعنا وجوهُنا فتهزمنا حقيقةُ ما نشعر به.

أحدث المقالات

أحدث المقالات