يُعد الاختصاص المالي أحد أهم اختصاصات السلطة التشريعية، إلى جانب دورها في سنّ القوانين وممارسة الرقابة على أداء السلطة التنفيذية.
ويتجلى هذا الاختصاص بوضوح من خلال انفرادها، دون غيرها، بإقرار قانون الموازنة العامة للدولة، استناداً إلى المشروع الذي تقدّمه السلطة التنفيذية.
ويمثل إقرار الموازنة أداة جوهرية لممارسة الرقابة على الحكومة في مختلف أنشطتها. وفي الأنظمة الديمقراطية، يُمكِّن هذا الاختصاص المجلس النيابي من التأثير المباشر في بقاء الحكومات أو زوالها؛ ذلك أن رفض الموازنة قد يؤدي إلى إجبار الحكومة على الاستقالة، أو قد يفضي في المقابل إلى حلّ المجلس النيابي نفسه، بحسب ما تقتضيه التوازنات الدستورية والسياسية[1].
وبحسب دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، فإن مجلس الوزراء هو المسؤول عن إعداد مشروع قانون الموازنة العامة وتقديمه إلى مجلس النواب لإقراره[2].
لم يرد في الدستور تعريف للموازنة، إلا أن قانون الإدارة المالية الاتحادية قد عرّفها بأنها: “خطة مالية تعبّر عما تعتزم الدولة القيام به من برامج ومشروعات، وتتضمن جداول لتخمين الإيرادات وتقدير النفقات بشقيها الجارية الاستثمارية لسنة مالية واحدة تعين في قانون الموازنة العامة الاتحادية”[3].
وقد أورد الفقه عدداً من التعريفات للموازنة، غير أن أوضحها هو الذي يعرّفها بأنها وثيقة مالية تتضمن تقديراً لإيرادات الدولة ونفقاتها خلال مدة زمنية محددة، غالباً سنة واحدة، وتُعدّ في ضوء الأهداف التي تسعى فلسفة الحكم إلى تحقيقها[4].
وبهذا، تنصب الموازنة على تقدير عنصرين أساسيين: الأول إيرادات الدولة، والثاني نفقاتها، وذلك خلال فترة زمنية محددة.
وقد اختلف الفقه القانوني بشأن ما إذا كانت القواعد التي تنظّم الإنفاق في الموازنة تُعد مجرد إجازة، أم أنّها قواعد آمرة توجب على الحكومة الالتزام بها متى توافرت شروطها، والمتمثلة بوجود التزام بدفع النفقة وقيام الأساس القانوني لها.
ويرى اتجاه أغلب شُرّاح القانون المالي أن تقديرات الحكومة للنفقات وحدها، دون تقديراتها للإيرادات العامة، هي التي تحتاج إلى إجازة المجلس النيابي بالمعنى الفني للكلمة، وأكدوا أنّ إجازة النفقات تمنح الحكومة الحق في إنفاقها وتنفيذها، وهو ما ينسجم مع المفهوم الدقيق للإجازة.
فإجازة النفقات- وفقاً لهذا الاتجاه- تعطي الحكومة الحق في القيام بالإنفاق بذات المبالغ أو بأقل منها أو عدم القيام بها.
أمّا الإيرادات، فإن موافقة المجلس عليها لا تعني منح الحكومة حرية الخيار في تحصيلها أو الامتناع عنه، إذ تبقى هذه الإيرادات واجبة الجباية بموجب القوانين النافذة التي تقرّر استيفاءها.
وعلى ذلك، فإن الاجازة لا تعني وجوب صرف كل ما خصص من اعتمادات لوزارة من الوزارات، ولكنها تعني إمكانية انفاق هذه الأموال، حسب حاجة الوزارة وضمن التشريعات المالية الموضوعة لهذا الغرض، ولذا تعد الارقام المذكورة في الموازنة العامة للنفقات الحد الاعلى الذي يجب أن لا تتجاوزه الوزارات والمصالح الحكومية عند الصرف، إلا في الظروف الاستثنائية وبعد أخذ الموافقة المسبقة من الجهات المختصة[5].
وفي المقابل، يرى اتجاه آخر أنّ هذا الرأي ينطوي على مغالطة واضحة، إذ يوحي بأن قواعد قانون الموازنة تمنح السلطة التنفيذية مجرد رخصة لصرف النفقات، بينما الصحيح أنّ تلك القواعد ملزمة بصرفها متى ما توافرت شروط النفقة العامة. فالتزام الدولة بدفع مبلغ محدد لشخص معين لا ينشأ من كون الموازنة تمثل إجازة، بل من تحقق أركان النفقة العامة. والدليل على صفة الإلزام أنّ السلطة التنفيذية لا تستطيع تجاوز الاعتمادات المرصودة في الموازنة. والأمر ذاته ينطبق على الإيرادات العامة؛ فرغم أنّ قانون الموازنة يضع تقديرات لها، إلا أنّ جبايتها لا تستند فقط إلى هذه التقديرات، بل تعتمد أساساً على توافر الأركان القانونية لكل نوع من أنواع الإيرادات، فضلاً عن الظروف الاقتصادية السائدة ومدى خضوع الأفراد لأحكام القوانين المالية المختلفة[6].
نرى أن حسم هذا الخلاف يتطلب النظر إلى صياغة النصوص المنظمة للنفقات، وما إذا كانت قد وردت بصيغة آمرة ملزمة، أم على سبيل الإجازة فقط. وبالتالي، لا يمكن منح صفة واحدة لجميع النصوص المتعلقة بالنفقات.
فعلى سبيل المثال، نصت المادة (2/ أولاً/ 7) من القانون رقم (13) لسنة 2023 (قانون الموازنة العامة لجمهورية العراق للسنوات المالية 2023-2024-2025) على ما يأتي: “للمحافظ الصرف على مشاريع تنمية الاقاليم والمشاريع الاستراتيجية والاستثمارية من التخصيصات المرصودة في موازنتها الاستثمارية والايرادات المتحققة من المنافذ الحدودية بعد قيام وزارتي المالية والتخطيط بإضافة ما يقابلها من التخصيصات وتخصيصات البترودولار”.
وبذلك يُعد هذا النص إجازة بالصرف، إذ يمنح المحافظ سلطة تقديرية تخوّله الإنفاق أو الامتناع عنه، شريطة أن تتولى وزارتا المالية والتخطيط إضافة المقادير المقابلة من التخصيصات وتخصيصات البترودولار، على ألا يتجاوز الصرف السقف المحدد، مع إمكانية أن يكون أقل من ذلك.
في حين نصت المادة (2/ أولاً/ 8/ ج/ 5/ ب) من القانون ذاته على الآتي: “يخصص مبلغ قدره (200) مليار دينار (مائتان مليار دينار) من ضمن تخصيصات محافظة بغداد المرصودة الواردة بالجدول (هـ المعدل) المرفق بهذا القانون إلى مناطق شرق القناة)”.
ويُعد هذا النص نصاً آمراً، إذ يُلزم الجهة المخاطَبة به بتخصيص المبلغ المحدد إلى مناطق شرق القناة حصراً، ومن ضمن تخصيصات محافظة بغداد، ويترتب على مخالفة هذا الإلزام تحقق المسؤولية.
وبناءً على ذلك، لا يجوز التنصّل من الصرف، أو إنقاص المبلغ المحدد، أو تجاوزه بالصرف خارج نطاق التخصيصات الواردة في النص، كما لا يجوز تحويله إلى مناطق أخرى غير تلك المنصوص عليها.
وبالمحصلة، يمكن القول إن كلا الرأيين له وجاهته، إلا أنّهما يظلان قابلين للنقاش، على أساس أن النظر في النصوص المنظمة للإنفاق يكشف عن وجود طبيعتين مختلفتين؛ فقد تأتي أحياناً بصيغة آمرة لا يجوز مخالفتها، وقد ترد في أحيان أخرى بصيغة الإجازة التي تترك للجهة المخاطبة قدراً من السلطة التقديرية.
باحث دكتوراه في القانون العام
********************************
الهوامش
1- د. سوزي عادل، أساسيات المالية العامة، منشورات الحلبي الحقوقية، لبنان، 2008، ص328.
2- تُنظر المادتان (62) و(80/ رابعاً) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ).
3- تُنظر المادة (1/ ثانياً) من قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019 (المعدل).
4- د. فهمي محمود شكري، الموازنة العامة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1990، ص29.
5- يمثل هذا الاتجاه: د. رائد ناجي أحمد، علم المالية والتشريع المالي في العراق، الطبعة الثالثة- معدلة ومنقحة، من دون دار نشر، العراق، 2017، ص123، د. طاهر الجنابي، علم المالية العامة والتشريع المالي، المكتبة القانونية، العراق، 2017، ص103، د. عادل أحمد حشيش، أصول المالية العامة، مؤسسة الثقافة الجامعية، مصر، 1983، ص308. د. عادل العلي، المالية العامة والقانون المالي والتشريع الضريبي، الطبعة الثانية- مزيدة ومنقحة، اثراء للنشر والتوزيع، الأردن، 2011، ص323. د. محمد شاكر عصفور، أصول الموازنة العامة، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، الطبعة الثالثة، الأردن، 2011، ص8.
6- د. أحمد خلف حسين الدخيل، المالية من منظور قانوني، الطبعة الأولى، مطبعة جامعة تكريت ، العراق، 2013، ص197- 198.