22 ديسمبر، 2024 10:29 م

صخب “الأسلمة والعروبة” .. رهانٌ خاسر

صخب “الأسلمة والعروبة” .. رهانٌ خاسر

وفق المباحث التأريخية والدراسات التحليلية فقد تكون اسوء ازمة فكرية بنيوية مرت على المجتمعات البشرية هي ذلك الارتباط بين مفهوم الكائنية الانسانية من جانب وبين مفهوم العقائد والقوميات من جانب اخر ولعل اكثرها تأثيراً هي تلك الثنائية التكوينية بين التدين والنسب وتوظيفها المتناقض لتكوين قواعد وايديولوجيات لتصنيف العلاقة بين الفرد والفرد وبين الفرد والمجتمع وبين المجتمع والاخر، هذه التراكبية من التراكمات الموروثة قد الحقت خرابا بالغا في الاسس الفكرية والمفاهيمية واختلالا منهجيا واسعا في توازن المنظومة المجتمعية وكانت النتائج ولا زالت كارثية في تحييد الفكر السياسي والسلوكيات القيمية وابلاس العقل والابداع في صندوق “الاسلمة والعروبة” والتي اغلقت اي نطاق تحرري لا يخضع الى سلطة واستبداد الصندوق فخلق بيئة مزمنة من صراعات الاضداد وعدم القدرة على الانفتاح واستقطاب الاخر من زاوية مفتوحة ، فظهرت تبعا لذلك طبقة اسياد الصخب والخطاب المتأزم من جماعات الاسلمة السياسية والقومية السياسية لتثبيت الحاكمية الالهية بمسميات الخلافة او الامامة او لتثبيت الحكم القومي بعنوان مزدوج اطلق عليه “الامة العربية الاسلامية” وهي بحد ذاتها محور متناقض مهيأ للصراعات الداخلية في اي وقت تتضارب بها المصالح على النفوذ والمال، كون المنظومات الحاكمة في الشرق الاوسط هي منظومات سلطوية ومستبدة ولا تملك اي رؤى لمقومات الدولة والمسارات الفكرية والاقتصادية التي يمكن ان تنطلق منها من خلال الاداء السياسي بعيدا عن التنظير والتأويل في الانساق العقدية او القومية، وبالتالي فهي تستحوذ على الثروات والموارد الاثرائية لتثبيت عروشها وهي في توجس وخشية متلازمة من ان تخسر السلطة فتديم الصراعات الداخلية والمرتبطة بالاجندات الخارجية التي بامكانها ان تخرق وبسهولة ورقة العقيدة والقومية وتؤسس الجماعات والحركات وتديم التحشيد والتعبئة الشعبوية وتعبر الحدود وتفعل ما تشاء بغير حساب من اجل ان يبقى الصراع قائما الى اجل غير مسمى .. فهل تكفي العروبة لكي يتوحد العرب ؟ وهل يكفي الاسلام لكي يتوحد المسلمون ؟ .
على المجتمعات الشرقية ان تعي وتدرك ان التاريخ لايمكنه كشف الحقيقة المطلقة مهما بلغت الابحاث والدراسات من مهنية واستقلالية وعلى العكس تماما فان التاريخ قد وظّف وبمهارة لتزييف الحقيقة تبعا لحقب التسلط الديني والقومي ولكن ما يمكن ادراكة هو الاستقراءات الواقعية، فالواقع هو امتداد نسبي للمعطيات التاريخية ويمكن اليوم عكس تلك النظرية على الواقع العربي الاسلامي فكل الصراعات وتجارها واسيادها ما هي الا امتداد تراتيبي لما يمكن ان يطلق عليه “الانبثاق الاول” منذ ان تم اضفاء الشرعية وربطها بالمنظومة القبلية المتصارعة اصلا نتيجة العوامل البيئية وسلوكيات البداوة فشرعت الممارسات الجاهلية التي كانت تقوم بها تلك الاقوام التي سكنت بيئة التصحر وهي لا تملك اي ارث حضاري ولا نتاج فكري او انساني فليس هناك اثار تدل على ذلك ولا مدونات ولا اي اثر حضري كشاهد حي على ذلك العصر، وقد نجحت تلك الشرعية في ان تجعل التوأمة الازدواجية بين التدين والعرق محركا ديناميكيا للصراع ونقله من المحلية الى عبور الحدود بالغزو الهمجي وتزييف الحقيقة بما يسمى بالفتوحات والتي كان الهدف منها تعظيم الواردات من الغنائم والاموال والنساء وهكذا تحولت الغزوات القبلية الى غزو استيطاني ديموغرافي … ولكن الصراع على السلطة بعنوانها الجديد الخلافة والامامة عاد للصدارة وفي داخل القبيلة الواحدة واستمر هذا التنازع الى اماد عديدة وكان كل النتاج الفكري والحضاري لتلك الاماد هو التوظيف السياسي والاسلمة التسلطية والتي البست الخلفاء والملأ ووعاظ السلاطين بهامشية الترف والعروش المقدسة والعصمة، وتزييف التاريخ بالمدونات والعقائد والمذاهب وما تراتب بعد ذلك من ارتداد الغزو القومي باسم الاسلمة والسلطنة لاربعة قرون وكان الصراع فيها كارثيا على الشعوب لانها بقت ضمن إرث التجهيل المقدس والتخلف العلمي والفكري ما عدا بعض التسميات التنويرية التي لم تتمكن من تحقيق اي هدف بسبب نمطية السلطة التي يتصارع عليها الرجالات من اسياد التدين والزعامات القبلية .
الالتباس شائك بين ان يكون الفرد عربيا وهذا نسب من تكوين بايولوجي متوارث ليس للفرد علاقة به وبين اعطاء ذلك النسب بعداً ومفهوما فكريا مغلقا بالصندوق القومي، والمعضلة الاكبر في هذا الالتباس هو في تجسيد الفكر والمفهوم في اطار الرّس الواحد فهذه اشكالية جدلية فلسفية عميقة ولذلك لم يستطيع زعماء النزعة القومية ان يقدموا حلولا فكرية سياسية واقتصادية في المنطقة ولا في اقامة المصالح الاستراتيجية والتكتيكية مع الاخر ولا في رسم خارطة طريق تؤسس لمشروع دائم للاستقرار والسلام لان ما يطلق عليه بالمد او الفكر او التيار القومي هو جزء اساسي وتكويني من الصراع المزمن، والتاريخ القريب شاهد على الصخب العربي .. امجاد ياعرب امجاد .. ولكن لااحد قادر على ان يقارب بين هذه الامجاد وبين الواقع العملي التطبيقي ويكتفي بامة طوباوية قد خلت من قبلها ومن بعدها الامم .. والتاريخ ايضا شاهد على الشعارات الوحدوية الشعبوية .. امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة .. ويبقى العقل هو المعيار الاوحد في تقييم الواقع وامكانية تطبيق هذا الشعار ولو على مستوى المراحل الستراتيجية البعيدة .. كل الشواهد العقلانية والمنطقية قد اسقطت هذا المحور ولم ينتج منه غير زعامات دكتاتورية شمولية تستغل هذة الورقة والحس العاطفي لتعطي الشرعية في الانقلابات والاغتيالات، وقد انهكت الشعوب في حروب خاسرة واستنفذت الثروات والموارد واحدثت انقساما داخل البلد الواحد وتم اقصاء الافكار التحررية والتنويرية وقامت بالتضليل من خلال ربط العروبة بمسميات الاشتراكية والديمقراطية لانها بالاصل لا تملك غير هذا الناتج العقدي الارثي لكي تبقي على السلطة بيديها وتجاهلت الافكار السياسية المنهجية المعاصرة والتي تمهد لتاسيس دول ديمقراطية بمؤسسات مستقلة ومهنية وفق الاسس والقواعد العلمية الحديثة .. والشاهد التاريخي العالمي يعكس الحقيقة المطلقة في النتائج والحروب العالمية والتي كان السبب فيها هي النزعة الشوفينية القومية .
الالتباس الاخر هو جدلية الاديان وربطها بالمنظومة الفكرية السياسية المعاصرة ولعل الاسلمة اليوم هي اكثرها احتداما والواقع يفرض تساؤلات منطقية في ان منظومة الفقه الاسلامي لم تتمكن من الارتقاء بمستوى السلوك الحضاري للفرد المسلم وليس لديها اي منهج او فكر في المسارات الاقتصادية والتعليمية والاجتماعية ولا تستطيع ان تنفذ من اقطاب الاجتهاد والتشريع واليات الولوج في المنظومة القانونية المحلية والعالمية كونها متمردة ومصرة على البقاء ضمن صندوق النص وثوابته واطلاقيته والتقديس الظاهري والتقليد والارجاع والمراجع والعلماء والفقيه الولي الى مالا يمكن حصره في سطور .. المشكلة البنيوية هي في اسياد الصخب الناعقين بالامة الاسلامية ومفهوم الامة في حد ذاته تدليس والتباس عقائدي صعب التفكيك .. والوحدة الاسلامية شعار للتداعي والاستهلاك الشعبوي لان انبثاقه هو صراع على مستوى المذاهب والطوائف والمعتقدات بل ان الاسلمة هي اساس الصراع في الشرق الاوسط بما افرزته المدونات الفقهية والقراءات السياسية للنص الثابت من احزاب الاسلام السياسي والجماعات المسلحة الاصوليه والتنظيمات الارهابية والمؤسسات والحوزات والمدارس الدينية التي تستهلك العقل في غوابر النصوص والاحاديث والمرويات بهذه النمطية العصائبية وتجعله اداة طيعة للصراع في داخل نفس المنظومة .. وكل المحاولات في التجديد والبحث والعودة الى الاصل والتسميات التنظيرية المتعددة كالاسلام الاولي والوسطي والتسامح لاتخرج من كونها محاولات لردء النكوص الفكري والسلوك العقائدي الذي جر على الشعوب ما جر من التخلف والتجهيل وعدم اعمال العقل كونه نسبيا مقارنة بالتقديس المطلق للتركة الثقلية المتخالفة الشاذة لكي تعيد الشرعية كحل للانعكاسات الخطيرة والتحديات المستعصية للاستقرار والسلام في الشرق الاوسط حيث تلك الازدواجية الصاخبة بين الاسلمة والعروبة منذ ان رسمت الحدود بدون ان يصاحب ذلك فكرا تنويريا وابقى مستقبل تلك الشعوب مقيدا بالماضي لكي تسلم له تسليما .
وفي هذا الواقع المحتدم من الصراعات المتلازمة عليه والمنظومات الحاكمة السلطوية الاستبدادية .. لايمكن ان يكون هناك سلام او استقرار او مصالحة او تعايش ما لم يتم تفكيك محاور الصراع القومي والاسلامي والجماعات التي ترتبط بها حركيا وعقائديا بمسمياتها المختلفة والعمل على تطهير الفكر الشرقي من تمكين اسياد وزعماء الصخب والضلال والاشغال ومن يوتوبيا المشروع الاسلاموي والعروبي وتنوير النخبة المثقفة بان النقد والرد والبحث في المسائل العقائدية والعرقية لم يعد عاملا مؤثرا في المتغيرات النهضوية وان عليهم مغادرة تلك التحميلات والعمل على الخصوصية المحلية فقط مع خلق بيئة ثقافية تواصلية متميزة تنطلق من ابعاد فكرية متجددة وتاسيس المراكز البحثية وعلوم الدراسات السياسية الاستراتيجية والتعبئة العلمية بانشاء دول قوية بمنظومات اقتصادية مستقلة تعمل على كسر احتكار الحكومات للثروة واطلاق التنمية المستدامة كحل ناجع لتحرير الشعوب من الفقر لكي يتحرر العقل تباعا من خلال العدالة الاجتماعية والحقوق والواجبات والمهم هو في احترام السيادة والحدود وان تنزع من فكرها عباءات العمامة والعقال ورموزها من الملوك والامراء والولاة والفقهاء وخطوطها الحمر وتشريعاتها والتوجه نحو منظومه امنية قادرة على حمايتها وعدم الدخول في المورثات والازمات التاريخية وجعل ذلك منوطا فقط بالخصوصية الشعبية لكل بلد وعدم استغلال اي احتراب كاوراق للمساومات والتفاوض للدخول في صراعات متعددة والكف تماما عن صخب “الاسلمة والعروبة” فهو رهان خاسر .