23 ديسمبر، 2024 4:48 ص

شكوك حول نزال عمرو بن عبد ود مع علي بن أبي طالب؟

شكوك حول نزال عمرو بن عبد ود مع علي بن أبي طالب؟

ثمّة مفاهيم وتصورات خاطئة، اعتقدنا بها وصدقناها، نتيجة كثرة تداولها وتردادها علينا وبيننا. وهي في الواقع لا تعدو ان تكون خيالاً ومبالغات لا وجود لها. ولقد انطلت علينا وصدقناها، ربما لأنها رُبطت باشخاص لهم تميز في الدين والتاريخ، ونُكِنُّ لهم في انفسنا كل المحبة والتقدير. فكان من السهل أزاء ذلك ان نتقبل هذه المبالغات عنهم دون ان يستوقفنا الأمر كثيراً، ودون ان نراجع انفسنا حول حقيقة ما يروى، وصحة ما يُنقَل.

عطفًا على بحث سابق، تحدثنا فيه عن: (اسطورة المشرك الذي بصق على علي بن ابي طالب) حيث ذكرنا أن البعض يقول ان المشرك هو: عمرو بن عبد ود العامري. وتساوقاً مع ذات الموضوع نتحدث هنا عن: حقيقة النزال بين علي بن ابي طالب (رضي الله عنه وأرضاه) وعمرو بن عبد ود العامري. لنرى كم هي الاوهام والمبالغات والأكاذيب التاريخية، التي تعبأ بها عقولنا وافكارنا، مما يضر ببوصلة توجهاتنا الفكرية والسلوكية على حد سواء.
بحثنا هنا ليس عن شخص الإمام علي بن ابي طالب وبسالته (كرم الله وجهه ورضي الله عنه) فهذا مما لا شك فيه. ولا عن التشكيك في قتله لعمرو بن عبد ود من عدمه. وانما ينصب بحثنا عن عمرو هذا وعن مضمون ومفردات الرواية اللامنطقية واللامعقولة.

القصة وردت باكثر من شكل وتفصيل. وكل من ذكرها من المتقدمين انما نقلها عن محمد بن اسحاق، في كتابه (المغازي)، او بالأحرى عن ابن هشام في كتابه السيرة النبوية والذي بدوره نقلها عن ابن اسحاق. والأصل الكامل لكتاب محمد بن اسحق مفقود.
سأورد القصة أولاً من مصادر متنوعة، ثمّ أقوم بالرد عليها ومناقشتها.
في سيرة ابن هشام:
عن ابن اسحاق: ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكَانًا مِنَ الْخَنْدَقِ ضَيِّقًا (أي فُرسان من معسكر المشركين)، فَضَرَبُوا خُيُولَهُمْ فَاقْتَحَمُت منه ، فَجَالَتْ بهم في السَبْخَةٍ بَيْنَ الْخَنْدَقِ وَسَلْعٍ، وَخَرَجَ عَلِيٌّ- عليه السلام- فِي نَفَرٍ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى أَخَذَ عَلَيْهِمُ الثَّغْرَةَ الَّتِي مِنْهَا اقْتَحَموا بخيلهم ، وأَقْبَلَتِ الْفرسان تُعْنِقُ (أي تسرع) نَحْوَهُمْ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قد قاتل يوم بدر حتى اثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم احد ، فَلَمَّا كَانَ يوم الْخَنْدَقُ خَرَجَ مُعْلَمًا (أي جعل لنفسه علامةً وشعارا يعرف بهما). لِيُرَى مَكانهُ فَلَمَّا وَقَفَ هُوَ وَخَيْلُهُ. قال: من يبارز؟ فبرز له علي بن ابي طالب فقال له: ياعمرو إنك كنت قد عاهدت الله الا يدعوك رجل من قريش إِلَى إحدى خَلَّتَيْنِ الا اخذتها منه.قال له : أَجَلْ . قال له علي فإني أَدْعُوكَ إِلَى الله وَإِلَى رَسُولِهِ والى الْإِسْلَامِ. قال لَا حَاجَةَ لِي فِي ذَلِكَ. قَالَ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى النزال . فقال له: لم يَا بن أخي؟ فو الله مَا أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ، فَقَالَ له عَلِيٌّ، لَكِنِّي وَاللهِ أُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَكَ. فَحَمِيَ عَمْرٌوعند ذلك، فَاقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ، فَعَقَرَهُ،وضرب وجهه، ثُمَّ أَقْبَلَ على عَلِيٍّ فَتَنَازَلَا، وَتَجَاوَلَا، فَقَتَلَهُ عَلِيٌّ، (رضي الله عنه) وَخَرَجَتْ خَيْلُهُمْ مُنْهَزِمَةً ، حَتَّى اقْتَحَمَتْ من الْخَنْدَقِ هاربة. {السيرة النبوية لابن هشام (3: 176) ، ونقلها كذلك ابن كثير في البداية والنهاية 4: 105} .
في المستدرك :
عن ابن إسحاق قال : كان عمرو بن عبد ود ثالث قريش (أي ثالث القادة) ، وقال : من يبارز ؟ فقام عَلِيٌّ وهو مقنع في الحديد ، فقال : أنا له يا نبي الله ، فقال : إنه عمرو بن عبد ود اجلس، فنادى عمرو: ألا رجل ؟ ” فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” فمشى إليه علي رضي الله عنه، فقال له عمرو : من أنت؟ قال: أنا علي قال: ابن من؟ قال : ابن عبد مناف ، أنا علي بن أبي طالب ، فقال: عندك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسن منك فانصرف فإني أكره أن أهريق دمك، فقال علي: لكني والله ما أكره أن أهريق دمك ، فغضب ، فنزل فسل سيفه كأنه شعلة نار ، ثم أقبل نحو علي مغضبا واستقبله علي بدرقته فضربه عمرو في الدرقة فقدها ، وأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فشجه ، وضربه علي رضي الله عنه على حبل العاتق ، فسقط وثار العجاج ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التكبير ، فعرف أن عليا قتله. ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووجهه يتهلل ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هلا أسلبته درعه فليس للعرب درعا خيرا منها ، فقال : ضربته فاتقاني بسوءته واستحييت ابن عمي أن أستلبه وخرجت خيله منهزمة حتى أقتحمت من الخندق . {المستدرك على الصحيحين للحاكم ألنيسابوري الحديث رقم: 4388 ج3 ص 37}.

في دلائل النبوة:
وذَكَرَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ تَفصيلات اُخرى: قَالَ: خَرَجَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ وَهُوَ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ فَنَادَى: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: أَنَا لَهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ. فَقَالَ إِنَّهُ عَمْرٌو، اجْلِسْ.
ثُمَّ نَادَى عَمْرٌو: أَلَا رَجُلٌ يَبْرُزُ؟ فَجَعَلَ يُؤَنِّبُهُمْ وَيَقُولُ: أَيْنَ جَنَّتُكُمُ الَّتِي تَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ دَخَلَهَا أَفَلَا تُبْرِزُونَ إِلَيَّ رَجُلًا؟ فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: اجْلِسْ.
ثُمَّ نَادَى الثَّالِثَةَ،: فَقَامَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا.
فَقَالَ: إِنَّهُ عَمْرٌو، فَقَالَ: وَإِنْ كَانَ عَمْرًا.
فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَشَى إِلَيْهِ، (الى آخر الرواية كما في المستدرك)
وَأَنَّ عَلِيًّا طَعَنَهُ فِي تَرْقُوَتِهِ، حَتَّى أَخْرَجَهَا مِنْ مَرَاقِّهِ، فَمَاتَ فِي الْخَنْدَقِ، وَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَرُونَ جِيفَتَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ، فَقَالَ هُوَ لَكُمْ لَا نَأْكُلُ ثَمَنَ الْمَوْتَى. {دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ للبيهقي ج3 ص438}.

في مناقب آل ابي طالب لإبن شهرآشوب :
وذكر ابن شهرآشوب: لمَّا أَدْرَكَ عَمْرَو بْنَ عَبْدَ وُدٍّ لَمْ يَضْرِبْهُ فَوَقَعُوا فِي عَلِيٍّ عليه السلام ( أي أنكر بعض الصحابة توقفه عن قتل المشرك) فَرَدَّ عَنْهُ حُذَيْفَةُ فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) مَهْ يَا حُذَيْفَةُ، فَإِنَّ عَلِيّاً ع سَيَذْكُرُ سَبَبَ وَقْفَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ ضَرَبَهُ. فَلَمَّا جَاءَ سَأَلَهُ النَّبِيُّ ص عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: قَدْ كَانَ شَتَمَ أُمِّي وَ تَفَلَ فِي وَجْهِي فَخَشِيتُ أَنْ أَضْرِبَهُ لِحَظِّ نَفْسِي، فَتَرَكْتُهُ حَتَّى سَكَنَ مَا بِي، ثُمَّ قَتَلْتُهُ فِي اللَّهِ. {مناقب آل ابي طالب لإبن شهرآشوب ج2 ص115}.

اوردت اكثر من نص لنحدد ملامح الحكاية، وهنالك روايات أخرى بتفاصيل ثانوية لا حاجة لذكرها. كما اسقطت ايراد الأشعار التي تنسب الى طرفي المنازلة، للإختصار، ولأنه لم يثبت شيء منها نسبته الى قائله، وليست محلاً للنقاش هنا.
نقد الرواية:
1- الرواية ليست لها سند معروف صحيح . وهي مروية عن ابن اسحق بسند مرسل ومعضل اي سقط منها راو أو أكثر كما قال نقاد ومحققي الحديث كالحافظ الذهبي والخطيب البغدادي ومحمد بن طاهر القيسراني والالباني وغيرهم. وليس لها ورود في كتب الحديث المعتبرة، لذا لا يعتد بها، فهي رواية ضعيفة، لا تثبت.

2- اضفت القصة (بمروياتها اُلمتعددة). المبالغة في صفات الشجاعة والفروسية والرهبة على عمرو بن عبد ود. فقد وصف بأنه يعدل ألف فارس، وانه لا يبارى، وأن الفرسان تخشى مبارزته، وان النساء في الجاهلية كانت تخوف الاطفال بذكر اسمه، وانه فارس ياليل (وهو وادي الصفراء قرب بدر) لمواجهته فرسان بني بكر وحدة ومنعهم من الوصول اليه وو… كل هذه الصفات وغيرها، لكي يوحي لنا الراوي او الرواة، ان علياً بارز اعتى واقوى فرسان العرب طرّاً، الفارس الذي يرتعد منه الجميع ولا يتجرأ احد الاقتراب منه او منازلته إلّا علي. (وأوأَكد هنا ان بحثنا ليس للإساءة لشخص الإمام).
يظن المسكين واضع هذه الروايات -ان احسنا الظن به- انه بالغلو والمبالغة ينتصر لعلي بن ابي طالب (رضي الله عنه)، ويعلي من شأنه. وما درى انه انما يسيء لعلي وللنبي وللمسلمين.
قطعًا لا أحد يشك في شجاعة وشهامة وبطولة وجرأة واقدام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ورضي الله عنه وارضاه)، ولكنه ليس بحاجة لأن يكذب له أحد، او يكذب عليه زوراً وبهتاناً. فهو اسمى وأجل في حقيقته، وفي منزلته في أنفسنا، من ان نزور تاريخه ونبالغ فيه بالباطل.

3- سلّمنا جدلاً صحة الرواية: فإن سن الامام علي (رضى الله عنه) يوم المبارزة في غزوة الخندق هو مابين 27– 30 سنة وهو عمرالفتوة والقوة والعنفوان. أمّا “البطل الرهيب المرعب عمرو بن عبد ود الذي لا يُبارى في الجاهلية!” فكان عمرة يوم ذاك 80 سنة (في اقل تقدير)، وهناك من يقول انه بلغ المائة او أكثر. فهل تُحسن المقارنة هنا في مبارزة شاب في عنفوان شبابه وقوته، مع كهلٍ هرمٍ عجوز تجاوز الثمانين!؟.

4- أن عمرو بن عبد ود هذا الذي يقال انه يعدل ألفًا. قد شارك في معركة بدر يوم ان كان شابّاً، ولم يغن عن قريش شيئاً بمشاركته تلك، مع قلة عدد المسلمين آنذاك. بل على العكس من ذلك، فهو لم يستطع الدفاع عن نفسه ولا حمايتها، فأصيب بجراحات خطيرة لازمته فترة طويلة، اقعدته عن المشاركة في معركة أحد التي حدثت بعد عام كامل من موقعة بدر.

5- لم يكن عمرو بن عبد ود شخصية ذات شهرة. ولم تَذكر كتب التاريخ المعتمدة وكتب السير والمغازي شيئاً عنه. ولم تُذكر له صولات وجولات في معركة بدر ولا في غيرها، باستثناء ما ذُكر في هذه القصة من خروجه الى غزوة الخندق. فلماذا المبالغة في التعاطي مع هذه الشخصية؟. فاذا ما تجاوزنا المبالغات، فسيكون الحدث بمستواه الطبيعي من انه مبارزة لعلي كمبارزاته السابقة، كتب الله له فيها النصر ، ولكنها هذه المرة مع شخصية مُسنَّة، يُزعم أنها ذات بال كبير في التاريخ. بيد انها ذاقت طعم سيف الحق لاصرارها على عداوة ومحاربة المسلمين.
6- مغالات الرواية في خبر مقتل عمرو، وكأنه “طاغية العرب الأكبر” ؟. الواقع التاريخي يقول أن هناك من الطغاة المشركين، من كان قتله أعظم من قتل عمرو، ممن قتلهم علي وغيرعلي. كأبي جهل بن هشام وأُمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وعتبة وشيبة بني ربيعة وغيرهم . أولئك الطغاة الذين سخروا من النبي وكذبوه وآذوه، وآذوا اصحابه ألأذى الشديد. ومنهم من نزل فيه قرآن كريم بالذم والوعيد. ولم يكن عمرو لا من الذين آذوا (بالاحرى لا تعرف طبيعة أذاه) ولا ممن نزل في ذمهم قرآن.
7- رواية المستدرك تقول انه “ثالث” قريش، وهذا من التدليس والكذب الواضح. فعلى المستوى السياسي والسيادي: فإن صناديد قريش وساتها معروفون، واستفاضت كتب التاريخ والسير بذكرهم ، كأبي جهل، أبي لهب، ابي سفيان، عكرمة بن ابي جهل، عتبة وشيبة ابني ابي ربيعة، النضر بن الحارث، امية بن خلف، عقبة بن ابي معيط، الوليد بن عتبة، صفوان بن أمية…. وبعضهم ماتوا على الكفر وبعضهم منّ الله عليهم بالهداية فيما بعد فاسلموا. وليس لعمرو ذكر بين هؤلاء جميعا وهم عتاة وسادة قريش ورؤس الكفر، فكيف يكون الثالث؟.
اما على مستوى الفروسية والقيادة العسكرية: فلم يعرف لعمرو دور بارز في معركة بدر التي جرح فيها. ولم يعرف له تقدم وقيادة في ساحات القتال. لاقيادة فرسان، ولا فصيل، ولا سرية، ولا اي تشكيل عسكري. الا ما ورد في الرواية موضوع البحث، من عبوره الخندق مع آخرين. وكل ذلك لا يؤهله لأن يكون ثالث قريش.

8- ألأَولى ان نقول: ان عَمراً هذا ليس اكثر من رجل يجتر امجاد شبابة ويريد ان يراه الناس بعين ما كان عليه في ماضية، لذا خرج “مُعَلّماً”. فعبر الخندق متبجحاً بما كان يستشعر من سطوة وقوة ماضيه التليد. ولكن هيهات فاليد الصلبة التي كانت تحمل السيف في شبابه، لم تعد اليوم ذاتها في كهولته. فعامل الزمن يفل الحديد. أو لعله في اجتيازه الخندق كان كمغامر استنفذ زمنه وسئم الحياة وهو ابن الثمانين فسعى لحتفه. وكما يقول الشاعر زهير بن أبي سلمى في معلقته:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش … ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم.

9- الرواية تشير الى أنّ الرسول، كما اصحابه يلزمون الصمت ولا يردون على تحدي عمرو ! بل ان الرسول يهاب عمرو فيقول لعلي: (اجلس انه عمرو!) وهي عبارة توحي ان الخطر عظيم ماحق. فهل “خانته (صلى الله عليه وسلم) الشجاعة” هو الآخر(معاذ الله) في ان يتصدى بنفسه لهذا الخطر؟ أم ان علياً كان اشجع منه حين يجيب ” وَإِنْ كَانَ عَمْرًا”؟. اليس علي (رضي الله عنه) هو الذي يقول: (كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وَلَقِيَ الْقَوْمُ الْقَوْمَ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلى الله عَليه وسَلم ، فَمَا يَكُونُ مِنَّا أَحَدٌ أَدْنَى إِلَى الْقَوْمِ مِنْهُ). وهل هناك من هو أشجع من الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) والذي كان يصول حين يدلهم الخطب وينفرد بالمواجهة مع العدو ويحتد الهجوم وهو يردد: “انا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب”.

10- إنه لأمر غريب ومريب توجيه الطعن للصحابة، والحط من قدرهم، بالزعم انهم خافوا وخنسوا وجبنوا ولم يجيبوا نداء عمرو وتحديه!. والسؤال هنا هو: كيف يعقل ان يُعرِضوا عن مجابه المتحدي وهو بهذا العمر المتهالك؟. إلّا إذا كانوا منهزمين نفسيًا!؟. ولكن، ألم يكونوا على الدوام خط الصد الشجاع عن الله ورسوله ودينه، إزاء الشرك والوثنية؟. وما موقعة بدر واُحد والمشاهد الاخرى، وحفرهم الخندق وثباتهم في مواقعهم في ظرفهم الحالك ذاك، الا دليل واضح على البطولة والشجاعة وصدق العزيمة.
نعم، كانوا خائفين. ولكن خائفين من غدر بني قريظه من خلفهم، ومن اجتياح الأحزاب الكامل للمدينة، والقضاء على الدين الجديد، وابادة الأهل والعشيرة. وليس الخوف من مبارزة فردية.
الم يُخبر القرآن الكريم عن عزيمتهم وقوة ايمانهم. حين رأوا العدد الهائل للأحزاب وقد عسكرت امامهم. قال تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} الأحزاب ﴿ 22 ﴾. فهل هؤلاء يهابون ثمانيني هرِم!؟.

11- لا يمكن فهم هذا الخذلان والخوف المزعوم لأن الذين عبرو الخندق هم اربعة فرسان فقط ، احدهم عمرو، وبعبورهم يكون قد انقطع ظهيرهم وسندهم من المشركين، فاصبحوا صيدا سهلاً للمسلمين ولقمة سائغة، فقد جاءوا الى حتفهم في ساحة المسلمين المسورة بالخندق. فكيف يهاب المسلمون بضعة نفر.
ثُمَّ هل يظن الراوي ان فئة المسلمين قد تقوقعت عند رسول الله، يسمعون تحدي عمرو، دون جواب، أم انهم توزعوا للحراسة والرصد خلف الخندق على امتداده كامنين متحصنين خلف ساتره الترابي للتصدي لأي محاولة اختراق من جانب المشركين.

12- هنالك ثنائية متنافرة غير مفهومة. فبمقابل زهد علي (رضي الله عنه) -ولاشك في زهده- تأتي القصة بالطعن في عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) ووصمه بالطمع (حاشاه). بالزعم أنه لم يهنئ علي على انتصاره وعودته سالما، ولا حمد الله على قطع دابر رأس من رؤوس الشرك والوثنية، ولا بإنتصار التوحيد على الشرك. وانما همه الشاغل هو قضية الاسلاب والغنائم، وطمعه فى الدرع الذي يلبسه عمرو والذي “ليس للعرب درعا خيرا منها”. فهو يسأل عن ذلك فقط!.
والتسؤل هنا: لماذا إختار واضع الرواية شخص عمر بالذات لهذا الموقف؟. هل للأمر دلالة ما؟. ثمَّ أليس من الغريب حشر لفظ “العرب” هنا؟. ما الذي تتميز به هذه الدرع عن كل الدروع عند العرب؟. أم هل ياترى: ان واضع الحديث شعوبي فارسي لا يحب العرب، أو ذا ميول فارسية، فأراد الغمز في العرب في انهم لا يحسنون صناعة الدروع!، مثلما انهم لا يحسنون مبارزة الشجعان، باستثناء علي؟!.

13- من اعجب الأمور حوار النبي (صلى الله عليه وسلم) مع علي (رضي الله عنه)، فيقول النبي لعلي: (اجلس انه عمرو!) وكأن النبي حريص على الشاب المدلل، من ان يتعرض للخطر في سبيل الله!. اليس هو حيدرة مجندل الأبطال، الذي لايهاب ميادين الشهادة؟ ، اليس هو الجندي البارز من جنود نصرة هذا الدين؟. الا يضحي ويجود بنفسه ذبّاً عن الرسول والاسلام؟. فلماذا يخاف عليه النبي ويمنعه؟!. هل يضن به عن الأذى والمخاطر، محاباةً له لأنه من أهل بيته!؟.
لا، ليس هذا من منهج النبوة، فأهل بيته ينبغي أن يكونوا هم القدوة والأسوة، وأول من يضحي وينصر النبي ودعوته؟. ألم يدفعه (صلى الله عليه وسلم) من قبل مع حمزة وعبيدة للمبارزة في بدر، ويجندلوا متصدري قريش في المبارزة. فلماذا يخاف عليه هذه المرة. لقد أثبتت الوقائع التاريخية ان المسلمين كانوا على الدوام يبزّون فرسان المشركين في المبارزة، وينتصرون عليهم بتوفيق الله. فلا مساحة لمثل هذا الخوف.

ثمّ اليست عبارة (اجلس انه عمرو!) هي غمز وطعن في الرسول. في انه لايبالي بدماء الآخرين دون علي؟. فإن كان الامر على هذا الحال، فلا مناص من التماس العذر للآخرين ، وحجتهم ستكون قوية، في ان يقولوا لنبيهم (وحاشاهم ان يخطر ذلك على أذهانهم): لماذا نعرّض أنفسنا للخطر، وابن عمك في أمان بجانبك تمنعه من المشاركة؟!.

14- عمرو يستصغر سن علي فيقول له: (من اعمامك من هو أسنّ منك) بمعنى ليتقدم احد اعمامك للمبارزة بدلاً عنك. وهذا من اعجب الأمور التي تدل على زيف الرواية. وعبثية الحوار. فلم يكن قد بقي لعلي من الأعمام ألأحياء في زمن معركة الخندق سنة 5 هجرية، سوى العباس بن عبد المطلب. والعباس كان مقيما مع المشركين في مكة، ولم يهاجر الى المدينة، ويعلن إسلامه، ويلتحق بالمسلمين إلا في فتح مكة سنة 8 هجرية.

15- الاضطراب والخلط الحاصل في الروايات في تحديد من هو المقتول ؟: هل هو ذلك الذي اتقاه بسوءته؟. أم هو الذي بصق عليه وسب إمه؟. أم لا هذا ولا ذاك؟. وهل هو عمرو، أم مرحب اليهودي، أم احد المشركين المجهولين .وهل حدثت الحادثة في غزوة الخندق، ام في غزوة خيبر.. (تقدم ذكر جانب من الموضوع في: اسطورة المشرك الذي بصق على علي بن ابي طالب). كل هذه الإختلافات في الروايات مما يبطل مصداقية القصة.

16- ألروايات تقول: بعث المشركون الى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يشترون جثمان عمرو بالمال. وروايات تقول: انهم بعثوا لشراء جثمان نوفل بن عبد الله بن المغيرة الذي قتله الزبير بن العوّام. فهل القتيل عمرو أم نوفل؟، أم كلاهما؟.
وإن كان هنالك من تعليق، حول رد الرسول على هذا الطلب أقول: إن رده (صلى الله عليه وسلم) يظهر الجانب الأخلاقي في تشريعات الحرب حين يقول: هو لكم نحن لا نأكل ثمن الموتى(أو نحو ذلك). انها عملية تعفف وترفع من رسول الله عن هذا المال الذي لا يليق أن يقبله من يدعو للقيم ومكارم الاخلاق. لقد خشي (صلى الله عليه وسلم) ان تنسب اليه ما يخدش مكارم الاخلاق التي هو عليها، فأبى قبول المال بنبل وعزّة نفس، رغم حاجة المسلمين المالية والضائقة الاقتصادية التي كانوا عليها يومذاك. فلا متاجرة بالموتى، ولا بالقيم. وعموما هذه المقولة تعبير عن جانب من مفهوم الحرب الاخلاقية في الاسلام. وهو بحث فقهي يطول الحديث فيه، وفيه العديد من الآراء المختلفة، ليس هنا مجال طرحها.

هذه القصة وغيرها كثير، من الحكايا والروايات الخادعة، التي لا جذور لها. دسها المغرضون في كتب التاريخ والحديث والسيرة والأدب. وتداولها الناس حتى اصبحت في نظر الكثيرين حقائق. والأدهى ان يرددها اليوم –بحسن نيّة- دعاة ذوو شهرة في حلقات الدروس المرئية ووفي الخطب على المنابر يقرعون بها اسماع الجماهير، بغرض الإبهار. دون ان يمعنوا النظر ويمحصوا ما يقولون.
وربما تُلقَّن للأجيال الصغيرة. وهذا من الخطأ الجسيم ان يتلقفها أبنائنا الصغار فيحفظونها. فيصعب بعد ذلك تغييرها في أذهانهم وعقولهم، لأن الطفولة صفحة بيضاء ما نقش عليها في البداية يصعب محوه لاحقاً.
تقتضي الحكمة والمنطق ان لا نفتري على تراثنا وتاريخنا. وأن لا ننساق وراء العجائب والغرائب ونُطرب آذان الناس بالغلو والمبالغات التاريخية، ونظن اننا بذلك نُحسن صنعا. متجاهلين الأثر التخريبي في فكر وعقل الجماهير جراء هذا الإفتراء. لقد كرمنا الله بالعقل لا لكي نعطله، وانما لنتدبر به، فما دُوّن في كتب التاريخ بحاجة الى تنقيح. ما أحوجنا الى تاريخ صادق شفاف بلا تزوير. يوثق بصدق حركة الامة وامجادها وحضارتها للأجيال المقبلة.

الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
العنوان البريدي [email protected]