19 ديسمبر، 2024 3:26 ص

شجرة المانيوليا : مريم مشتاوي .. في رواياتها الثلاث

شجرة المانيوليا : مريم مشتاوي .. في رواياتها الثلاث

(*)
شجرة المانوليا: حرفيا تعني حب الذات إذن هي نرسيس ثان، وهي من الأشجار الجميلة، ساقها منتصبة ذات قمة مستديرة أوراقها دائمة الخضرة، أزهار بتوقيت الربيع وتدوم حتى آواخر شهر آيار. وهي شجرة رقيقة لاتحتمل الرياح.. والمانيوليا ذات زهور بيضاء كبيرة عطرة جدا..ومعنى اسم الشجرة وصفاتها ستتوزع في شخوص الروايات الثلاث
(*)
تشترك الروايات الثلاث بأناقة المطبوع وحجمه المتوسط والحرف الكبير وتصنّف الروايات ضمن الرواية القصيرة فأطول الروايات هي (تيريزا أكاديا) تصل الى 198 صفحة وتشترك الروايات بتأنيث العنونة، إذ تحمل أسماء ثلاث فتيات .العنوان الأول لا يكشف عن تأنيثه إلاّ من خلال الدخول الى الرواية، فالشخصية المحورية اسمها (عشق) وهذا الاسم أحالني الى رواية جميلة جدا(عشيق المترجم) للروائي السوري الكردي جان دوست . وتدور الروايات في حلب واللاذقية وبيروت وأمريكا وإيطاليا وتركيا واليونان ..
(*)
في رواية (عشق) تجلس المؤلفة مريم مشتاوي على عتبة الرواية، وقبل أن يدخل القارئ الى بيتها الروائي الأول، تنبهه بالكلام التالي :(الشاعرة،، عشق،، في هذه الرواية خيالية تماما مثل الشخصيات الأخرى على الرغم من أنها تحمل ملامح من شخصيات متعددة في حياتي.. نقول ذلك تلافيا للخطأ المحتمل الذي قد يقع فيه قسم من النقاد الذين قد يماهون بين المؤلف وشخصياته..ولاسيما الشخصية الرئيسية..وخصوصا إذا كانت الرواية من تأليف امرأة) وهذه العتبة النصية، تعيدني الى عتبة نصية، تستقبلنا في رواية (صيادون قي شارع ضيق) للروائي جبرا إبراهيم جبرا، يؤكد أن لا تطابق بين شخصية جميل فران وشخصية المؤلف !! هذا الإنكار عاطل عن العمل في كلا العملين، ثانيا في مقابلة تلفزيونية أكدت المؤلفة أن ثمة تقارب بين شخصيتها وشخصية عشق!! ورغم هذا فقراءتي المنتجة غير معنية بهذا الجانب . في هذا السياق أرى أن كل كتابة لا تخلو من ذاتية الذات ، لكن الكتابة ليست جلسة على كرسي الاعتراف . ثانيا نسق الرجولة كافة (يتحلى) بهذه الظنية الأثمية نقاد وغير نقاد، ذلك لأن (..القارئ الذكر لا يدخل الى النص المنكتب من قبل أنثى، بل يفضل أن يغلق باب النص، ويتلصص عليه ،،فقط،، من ثقب الباب، وهذا الذكر القارئ،لايدري أنه يتلصص على ما فيه هو من اضطراب هارموني..والمسكين لا يميز بين ضمير المتكلم وأنا المؤلفة، ولدى فحولته المستعارة تنعدم المسافة بين كتب السيرة والأجناس الأخرى من الإبداع../ مقداد مسعود/ مؤنث الابداع)
(*)
الخيط الذي تلظم فيه حبات مسبحة رواية ( عشق ) هو تثبيت التاريخ رقميا. تبدأ الصفحة الاولى هكذا : بيروت 1970 وبعد أربع صفحات تقطع الرواية زمنا يتجاوز ثلث القرن : نيويورك 2013، ثم الارتداد الى بيروت 1985 ثم قفزة زمنية الى بوسطن 2010 فعودة الى بيروت 1990 وبعد عشر صفحات نكون في الجامعة الامريكية بيروت 2002 كل ذلك يجري في الفصل الاول. الذي ينتهي في ص36..في المسردة الأولى (بيروت 1970) خلاصات حياة عائلية تبدأ بزواج ياسمين من عبدالله بقرار من رئيسة الممرضات الأستاذة نبيلة أخت عبدالله ولايخلو قرارها من مغريات (أسمعي يا ياسمين، المرأة الذكية ما بيصعب عليها شي.أنت بالثلاثينات وإذا ما تزوجت ِ رح يفوتك القطار، وزواجك من أخي رح يمنحك حياة ارستقراطية ../11) في مسردة (نيويورك 2013) سيعرف القارئ أن عبدالله يعترف لأبنته عشق بعد (41) عاما انه تزوج أمها ياسمين ارضاء لوالدته وأخته نبيلة ، وبعد لحظات سيتداعى في ذهن عبدالله الى : (بيروت 1985).. نلاحظ أن السرد يلعب لعبة المشكال بشذراته الصغيرة الملونة مع كل حركة يدوية جديدة تلتقط العين شكلا هندسيا ملوناً جديدا مصحوبا بتاريخ معين ومدينة أخرى : بيروت ، نيويورك، بوسطن ، وستكون لندن ونقلات فيها هي الفضاء النصي للفصل الثاني .. أرى أن تقنية الفصل الأول محكمة ودقيقة، وأقتصادية أسلوبيا وتكشف عن مهارة.. بعد ذلك ستتجه الرواية الى أسلوبية السرعة الاعلامية في تحرير الخبر الصحفي، وهذه السرعة ممزوجة بسيادة اللغة المحكية ..
(*)
المفاجأة لها السيادة في الرواية :
*مطالبة عبدالله والد عشق بمغادرة البلاد
*تخلي كريم عن حبيبته عشق
*حمل عشق من شخص تتعرف عليه في حفلة لندنية !!
*أصابة جاد ابن عشق بالسرطان وموته المبكر
*موت نور في حادث مروري في لبنان
*خيانة هادي لعشق
*دموع من عينيّ تمثال العذراء
هذه المفاجأت تثير تساؤلات ضمن حيز أسباب الإقناع الروائي . وهناك مسألة تصنيع النسيان التي أستعملتها عشق..(تمادت عشق بالشرب ولم تصحُ إلاّ في الصباح في سرير لاتعرفه وفي غرفة ارستقراطية جميلة كانت عارية تماما من كل شيء حتى من ذاكرتها بدأت تضحك بصوت مرتفع…أخيرا تخلصت من كريم / 43) !! أكتفي بعلامتيّ التعجب .وهناك تيريزا أكاديا في الرواية الثالثة تعترف لنا وهي تحدثنا عن حبيبها التي تصفه أغسطنيو الخائن ..(تعمدت ُ أن أسكره وكنت أدفعه الى شرب كأس تلو أخرى،أردته أن يمزقني ولو مرة واحدة لأطفئ شهوتي وبعدها فليذهب الى الجحيم، أردت أن أعوض الحرمان الذي عشته../ 35)..!!
(*)
أرى أن هذه الرواية/ المحكية حيث السرد أقرب الى الشفاهية تخاطب قراءً مازالت تجاربهم في الحياة طرية. ولاضير في ذلك فمن حق المؤلفة توجيه خطابها الروائي لمن تشاء..
(*)
تستوقفني هذه الحوارية بين عشق والأستاذ محمد سلام، تقول عشق :(طيب أستاذ.. أنا مستعدة لأي شيء لأوصل، بدي صير مشهورة حتى أساعد الأطفال المصابين بالسرطان/ 81) هذا الكلام يصلح في فاصل أعلاني، لكن روائيا يكشف عن سذاجة الوعي الأدبي لعشق !! كما أضع قولها التالي وحده بين أربعة أقواس((أنا مستعدة لأي شيء لأوصل ))
(*)
في روايتها (ياقوت) محمد أثناء عبور البحر،وحسب إفادته للممرضة (أنا متذكر أي شيء غير أني تركت شاطئ تركيا مع حبيبتي ياقوت وكنا باتجاه اليونان /8)..وسيخبرنا السرد كيف تخلت يده عن يد ياقوت فغرقت هي وعاش هو ..في رواية (ياقوت) ثمة واقعية سحرية بنكهة مسيحية جميلة ومن خلال هذه الواقعية يكون السرد خيطا وإبرة تخيط السماء بالأرض يتجسد ذلك بالتعاضد بين نخبة من الموتى والأحياء الذين في الأرض يكابدون وستكون وظيفة ياقوت التي ماتت غرقا، كما جاء في كلام الملاك ميخائيل (تراقبني من بوابة الجنة الرئيسة مراكب البحر المتوجهة من تركيا الى اليونان – ولما تشوفي مركب عم يغرق بتنزلي تنتشلي الأطفال /14) وهذا النزول مشروط (لازم تسبقي وصول سمك القرش ..وتحملي الأطفال الى السماء../14).. وستكون للأنقاذ الإنساني ممثلية أرضية تتشخصن في ليلى الناسكة في دير مارا شربل، تتصل بها ياقوت من السماء لتعين عبدالله الذي فقد أولاده أثناء العبور من تركيا الى اليونان..
(*)
الحبيب المتخاذل متوفر في الروايات الثلاث ولا يختلف محمد: حبيب ياقوت عن كريم الذي تخلى عن عشق على اليابسة في المدينة وسوف يتخلى أغسطينو عن تيريزا ،في الرواية الثالثة (تيريزا أكاديا)
(*)
في رواية( ياقوت) تتوزع العنوانات الفرعية في كل فصل من الفصول عوضا عن لائحة التاريخ في رواية (عشق )
(*)
في روايتها الثالثة (تيريزا أكاديا) تكون نكهة الواقعية السحرية : مسيحية المنشأ
وهذه الرواية تفوقت على روايتيّ: (عشق) و(ياقوت) في (تريزا أكاديا) يتمازج الواقعي بالأسطوري يتقدم الواقعي سرديا، مع السطر الأول من الصفحة الأولى( أنا تيريزا أكاديا ابنة ميخائيل عواد لبناني مجنون هاجر في الستينيات إلى روما وتزوج بأمي الأيطالية الرقيقة أدريانا أرابيلا أجمل جميلات مدينة بورتوفينو../5) ..تواصل تيريزا سردها السييري، وكيفية وصول والدها من ميناء طرابلس الى قرية في ساحل الريفييرا الايطالي ثم تتساءل (أهناك تعاون بين آلهة البحار وصياديها؟) بسؤالها هذا يبدأ البعد الأسطوري في الرواية..(هذا ما شككت فيه طوال حياتي لأنني كنت أرى أبي يتكلم مع الرياح عند الشاطىء يزجرها، وكم كنت أتعجب حين كنت أراها تستجيب…!/ 8) ثم تجيب تريزا نفسها على سؤالها بسؤال ثانٍ: (أيعقل أن يكون إله البحر بوسيدن قد وضعه على عربته التي تجرها أحصنة ذهبية وشق به أعماق البحار مقابل أن يخلص له أبي..).. والسؤال السردي هنا من أين يأتى هذا الحس الأسطوري لدى الساردة تيريزا..؟ كيف توصلت الى أن والدها شيخ البحر الحقيقي وكل مافيه ينتمي الى عالم المياه
فهذا الأب من الكائنات المائية( يفهم الموج ويتحاور معه ويشعر بإنتمائه إليه أكثر من انتمائه إليّ/9) بشهادة ابنته تريزا. والغرائبية تتجسد في الميداني بتوقيت يوم معين (هناك عادة متبعة من العاملين في شارع فردريك أن تخلو المحال يوما واحدا كل شهر لتدخل البركة/ 12) ..في ذاك اليوم الربيعي ستقصد تريزا أمها الثانية أنجيليا أرموني لتفاجأها في عملها، في شارع فريدريك يختلف الطقس فالرياح القوية تكاد تقتلع كل شيء المحلات الفارغة من البضائع والأشجار،وبشهادة تريزا(شعرت بوجود يد قوية مخيفة تكمش الشارع بقبضتها،وتشد العابرين الى طقوس موحشة وبدأت أتساءل: كيف يختلف الطقس بين مكان وآخر في القرية نفسها/ 11)
(*)
مربية تريزا وأقرب الصديقات لأم تريزا، كانت كثيرة البكاء وبشهادة تريزا(كنت منذ صغري أرى الدموع تغلي في عينيها من دون أن تنهمر.حاولت جاهدة ً أن أعرف سبب وجع تلك السيدة التي غمرتني../10) هذه الشفرة الغريبة، سنلتقط مفاتحها في ص197، وسنعرف أن أنجيليا أرموني صديقة أم تيريزا أكاديا من الكائنات اللابشرية وبشهادتها وهي تبوح لتريزا(في الماضي أخطأت وتركت أبنائي ومملكتي لأبقى مع حبيبي – تقصد والد تريزا – أحببته حتى العبادة وعشقتك يا ابنتي وعشت معك على الرغم من شوقي الدائم الى عائلتي ومملكتي ../197)
(*)
رواية (تيريزا أكاديا) حكاية مغوية تشد القارىء وتجعله يتشوق لمتابعة ما يجري
فهي مسردة / توليفة من الوقائعي والغرائبي وهي أفضل الروايات الثلاث للروائية والشاعرة مريم مشتاوي..
*مريم مشتاوي/ في
(1) عشق / دار المؤلف/ بيروت/ط2/ 2017
(2) ياقوت / دار المؤلف/ بيروت / ط2/ 2017
(3) تيريزا أكاديا/ دار المؤلف / بيروت/ ط1/ 2017

أحدث المقالات

أحدث المقالات