شارع المتنبي، بالنسبة للعراقيين هو موطن الأسرار والكتابات المخفية عن عيون السلطات وهو حكاية البحث عن المفقود منذ زمن بعيد. وهو المكان الذي يقرأ الباحث والإعلامي العراقي (توفيق التميمي)* تاريخه وحاضره بعيدا عن التأويل. وتبدو معضلة أي قراءة تتناول مكانا معروفا هي أن تأتي بشيء جديد لم يسمع به من قبل، وهذا ما يواجه بحثا حين يتناول مكانا ترسخ في الذاكرة العراقية والعربية مثل شارع المتنبي الذي يحتل قلب بغداد.شارع المتنبي هو سجل الأدباء والسياسيين والمجانين والشعراء الرواد والصعاليك الذين توزعوا في بلدان العالم والذين يتمنون أن يقلبوا فيه الآن كتابا تنقل بين الأصابع كالبلدان التي وطأتها أقدامهم.تقترن ظاهرة رصيف الكتاب، في شارع المتنبي، بظواهر اجتماعية واقتصادية متعددة ومتنوعة خلال حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، وخاصة خلال فترة الحصار على العراق، الذي أصاب البنية الاجتماعية إصابات باهظة مما ولد ظواهر وأمراضا وجرائم وسلوكيات لم يعتدها العراقي سابقا، مع انه قد خرج من حرب طاحنة امتدت ثماني سنوات، وأعقبتها حروب خاسرة أخرى. يعتبر شارع المتنبي واحداً من أهم مكونات المكان العراقي ثقافياً، كون إن الشارع يشكل وجه العراق الثقافي، وأغلفة كتبه والكثير من متونها وحواشيها، تقترن وتحاول أن تنقب في الروح الثقافية والمعرفية في الواقع العراقي وتحولاته الصاخبة القاسية المريرة، والشارع بات في تلك المرحلة ميدانا للصراع الشرس بين الثقافة الحرة ورموزها، والسلطة القامعة.من الرصيف والعوز والحرمان والقمع والطموح للاطلاع والمقاومة برزت ببسالة نادرة ظاهرة “الاستنساخ” العراقية بتفرد، فهي إذا كانت عادةً، بحثاً عن الربح غير المشروع واستغلال المؤلف والباحث والكاتب والأديب وسرقة جهوده وحقوقه، فإنها في العراق، وفي تلك المرحلة بالذات، كانت غير ذلك. إنها المطبوع المعارض والمشاكس الذي فضح في أحد معاني ظهوره ورمزيته تفاهة وانحطاط وتخلف الثقافة السلطوية.يتعقب الباحث التميمي في تاريخ المكتبات البغدادية العريقة أمانة منه أولاً واستجابةً للضرورات التاريخية والبحثية ثانياً، ومن هذه المكتبات المكتبة العصرية التي أسسها المرحوم محمود حلمي سنة 1914 وهي أول مكتبة استوطنت شارع المتنبي قادمة من سوق السراي، وكان ذلك في أربعينيات القرن المنصرم وتوالى بعدها انتقال مكتبات أخرى، منها الشرق والأهلية والمثنى والمعارف والنهضة والتربية ومكتبة الشطري وغيرها من المكتبات كالزوراء والبيان والنهضة، والنهضة العربية وغيرها.. ومن هذه المكتبات تطور رصيف الكتاب ومزاده، وكان رائده الأول الأستاذ “نعيم الشطري” صاحب المكتبة البغدادية ومؤسس مزاد الشطري الشهير. وواجه التميمي مصاعب عدة لغرض هذا التوثيق، منها انعدام المعلومات التاريخية الرسمية خاصة في المكتبات الجامعية المعنية بهذا الأمر أساساً، مما دعاه للبحث الشخصي في هذا الموضوع، مع صعوبته وامتناع بعض ورثة هذه المكتبات عن تقديم يد العون والمساعدة في هذا الجانب. وأغلب المصادر التاريخية تؤكد أن هذا الشارع يعود في أصله إلى أواخر العصر العباسي وهو منذ ذلك الحين اشتهر بازدهار مكتباته والمؤسسات الثقافية التي كانت فيه، والملك غازي هو الذي أطلق عليه تسمية “شارع المتنبي” عام 1932 تيامناً بالشاعر “أبي الطيب المتنبي”.وقد دار جدل في الأوساط الثقافية العراقية حول ظاهرة ثقافة الاستنساخ التي تميز بها رصيف الكتاب في شارع المتنبي، التي تقوم على تصوير الكتب الأصلية ضوئيا وبيعها. وما زال هذا الجدل مستمرا حتى الآن حول من أسس لهذه المغامرة، فالبعض يرى أن الشاب “صباح ميخائيل” هو من بدأها، والبعض الآخر يذهب إلى أن القاص والروائي “حميد المختار” هو مَنْ كان الأول، وقسم آخر ينسبها إلى الشاعر “زيارة مهدي”. ومن المهم أن نعلم أن من بدأها هو أحد المثقفين العراقيين، ومن “الرصيف” ولدت هذه الظاهرة، وبدأت معها رحلة محفوفة بالمخاطر والعذاب والمحن، بسبب “ثقافة الاستنساخ” وما كانت تعمد إليه السلطة من إجراءات للحد منها، خاصة وان ظاهرة الاستنساخ قد تركزت على كتب المعارضين العراقيين، ممن كانوا من المقربين من النظام ويملكون أسراراً كثيرة عنه.وكانت حركة الشارع جاذبة لنشاطات الأجهزة الأمنية ومحاولاتها السيطرة عليه وعلى ونشاطه الثقافي، وبذلت جهودا مستميتة في ذلك بمساعدة بعض العاملين فيه وتعاونهم مع المخبرين السريين، أو من المتطوعين الوشاة ومنهم بعض الأساتذة في الجامعات العراقية، مما حول عمل وحياة العاملين على حركة الاستنساخ، جحيماً من النادر الخلاص منه، فقد وقع بعضهم في شرك الجهات الأمنية التي دفعتهم للاعتقال، ونكلت بعوائلهم دون رحمة، وألقت بهم في السجون لسنوات ومنهم “سعد خيون العبيدي” و”رحيم عبيد موسى” و”حيدر محمود شاكر” وكنيته (حيدر مجلة).ويشهد الشارع وأهله على عملية النهب المنظم للتراث الثقافي العراقي، عن طريق تهريب المخطوطات والوثائق النادرة والتي كانت تجري بتسهيل موثق من بعض وجهاء السلطة. ويروي الباحث توفيق التميمي حكايات “مجانين شارع المتنبي” والمشتركات التي بينهم ومنها لوثة جنون الكتابة والرسم والتهور الشجاع وبطولات الجنون التي لا تتيسر للأصحاء، والنبذ من العوائل والحرمان من الإرث والسكن في الكراجات الليلية ومنادمة سكان المقابر النائية، وتمسكهم بحرية الجنون التي يرون إنها أنبل من العقل. وكذلك مصائرهم الشخصية المتشابهة، حيث السجون أو الموت بلا مراسيم أو نحيب من قريب، وتواجدهم بعد الغياب الأبدي، في الذاكرة الخاصة بالرصيف وباعته ورواده الدائمين. ومن المجانين في شارع المتنبي الشاعر “صباح العزاوي” والقاص “حامد عبد الرضا الموسوي” القادم من أرياف النجف والمقتول برصاصة طائشة ختمت حياته التي يكتنفها الغموض حتى في طريقة موته المعلن، والرسام والشاعر والكيماوي “هادي السيد حرز”.هؤلاء المجانين المقترنة تسميتهم بشارع المتنبي ليسوا سوى ظاهرة خاصة بذلك الرصيف وشارع المتنبي بالذات، ولم يكن أمامهم غير خيار قدرهم الطوعي والبطولة المتلفعة باليأس والتي تنكر لها العقلاء ـ الواعون ولم يتمتع بها غير المجانين، أو مَنْ يدعي منهم ذلك، لمواجهة ذلك الزمان وفظاظة أيامه.وقد كان الشارع على موعد مع اغتياله في يوم الاثنين، الخامس من آذار عام 2007، اليوم الذي تم فيه تفجير شارع المتنبي وحصد أرواح بعض رواده والعاملين فيه.. فعند الساعة الحادية عشرة والنصف تعطلت لغة الكتابة، واحترقت الجدران وتفحمت أجساد باعة الكتب، وتهاوت السطوح، وانهارت البنايات، ولم يبق من شارع المتنبي غير أكوام من الكتب المحترقة وتحتها أجساد الباعة، ومن بقايا هذه الأجساد ربما يد مبتورة أو رأس مهشم أو جسد مشوه وسط دخان صعد إلى أعالي السماء، وألسنة النار المستعرة.توفيق التميمي، سجل ذاكرة شارع المتنبي وأيامه المشرقة والمعتمة، في كتاب بعنوان “ذاكرة الرصيف”،ووصف المؤلف كتابه في عنوان فرعي على غلافه جاء فيه: “فصول غير مروية من تاريخ شارع المتنبي”، وأضاف أيضاً: “سيرة رواها” ولم يقل كتبها، ويأتي ذلك انسجاما مع العنوان الفرعي ذاته، إذ أن السير تروى عادةً، ومع كل الجهد التاريخي والتوثيقي والمعاينة اليومية التي بذلها التميمي لغرض توثيقها ومن ثم كتابتها فهو بدراية وبتواضع كبيرين يقرر إنه “يروي”. وبحكم إن التميمي أحد الرواة – الشهود فأنه ينقب في المكان- الرصيف المحدود مسافة والمفتوح زمنياً لاستعادة مكونات وتاريخ هذا الرصيف- الذاكرة لغرض الحفاظ عليها من الاندثار أو النسيان ولتوصيلها إلى الزمن القادم والأجيال المتعاقبة.
*(ذاكرة الرصيف) – تقديم الدكتور سلمان عبد الواحد كيوش