السمفونية السادسة أو “السمفونية الرَعوية” هي مِن السمفونيات المُمَيّزة للموسيقار بتهوفن، فهي ترسُم لنا صورة ساحِرة عَن الطبيعة، وتصِف لنا في نفس الوقت مَشاعر الإنسان تجاهَها بأعذب الأنغام والألحان. هي تُعَد الى جانِب السمفونية الرينانية (نسبة الى نَهر الراين) للموسيقار شومان، وسمفونية (أحلام الشتاء) لجايكوفسكي مِن أروع المَقطوعات التي أولفت عَن الطبيعة وعَبّرَت بجمالية عَن صوَرها اللونية مِن سَماء وحُقول وأشجار باسِقة وزهور مُتفتحة زاهية، وعَن مَلامِحِها الجغرافية مِن سُهول ومياه وهِضاب وجبال، وعَن أصوتها كخرير الماء وزقزقة طيور السمان والوقواق والعَندليب وهَدير الرياح.
لقد عُـرف عَـن بتهوفن عِشقه للطبيعة وللتجوال في الهَـواء الطـلِق، وعِند تأليفه لهـذه السمفونية كان مُقيماً بأطراف فينا، ويَبدوا أن هذا العِشق بالإضافة لعَبقريته الأسطورية ساعَداه على تأليفها وإنجازها على أكمَل وَجه رَغم الصَمَم الذي كان قد أطبَق على سَمعِه بشَكل كامل قُبَيل بَدأه بتأليفها. “ذكريات وصوَر مِن حَياة الريف” هكذا وصَف بتهوفن سمفونيته السادسة وأضاف”سَعادتي لا توصَف وأنا أتجوّل بالحُقول والغابات وبَين أعشابها وصُخورها وأشجارَها، فهي تُعطي المَرء كل ما يَحتاجه مِـن مَصادر الإبداع”. وفعـلاً جائته فكرة تأليف هذه القِطعة الساحرة مِن روح الطبيعة عام1803 خلال تجواله بضَواحي الريف المُحيط بفينا، وأنجزها عام1808، وهي لا تصِف الطبيعة بشَكلها المُجرد فقط بل وحياة الريف المُرتطبة بها وبأجوائها وبظروفها وتقلباتها. لذا لا يُمكن للمَرء أن يَستمع الى هذه السمفونية على أجزاء وبشَكل مُتقطِع، وإن فَعل فإنه لن يَستمتع بها كما يَجب وكما أراد لها مؤلفها أن تكون، فهي قِصة مُتكاملة لن نفهَمها اذا لم نستمِع الى كل فصولِها وأجزائِها لتبدوا لنا الصورة واضِحة ومُتكامِلة ومُمتِعة وذات قيمة وفائِدة.
في الحَركة الأولى مِن السمفونية يَصِف بتهوفن صَحوة مَشاعر البَهجة حينما يَصِل المَرء للريف ويُصبح بأحضان الطَبيعة التي يُصَورها لنا هنا برَوعة وإتقان عِبر حِوار لحني دافيء خَلاب، مُستخدماً الوتريات مِن جهة للتعبير عَن تمايل سَنابل حُقولها الخصبة وطرقها المَكسوة بالعُشب الأخضر وتِلالها التي تترائى سُفوحَها مِن بَعيد، والهوائيات مِن جهة أخرى خُصوصاً الأوبو والفلوت ليَسمِعُنا تغريد العَصافير وزقزقتِها وهَفيف الرياح ونَسائمُها الى دَرجة أنها تكاد تتجَسّد لدى المُستمِع للحَركة.
أما الحَركة الثانية فيَبدوا أن بتهوفن أرادَها أن تكون الهدوء الذي يَسبق العاصِفة التي تنتظرنا في الحَركة الرابعة ويُنذرنا بإقترابها، فهي صورة للحَظات إسترخاء عِند جَدول صَغير تعَود بتهوفن أن يَجلس على ضِفته مُتأملاً الطبيعة وأسرارَها ليَصوغها لنا أنغاماً ساحِرة، فهي تمتاز ببُطئِها وعُذوبة أنغامِها حَتى يُخيّل للمَرء أن بإمكانه أن يَستنشِق هَواء الريف العَليل ونسائِمه المُنعِشة المَصحوبة بأصوات الطيور.
في الحَركة الثالثة أراد بتهوفن أن يُعبّر لنا عن أفراح أهل الريف وإحتفالاتهم بمَواسِم الحَصاد، بَل وأرادَنا أن نشعُر بسَعادتهم، حَتى أنه أبدَع لحنا شَعبياً قصيراً يُمكننا أن نمَيزه وسط أنغام الرَقص والغناء التي تمَيّز هذه الحَركة. لكن وعلى غِرار سمفونيات بتهوفن التي تدخل حَركاتها الأخيرة على التي تسبقها بدون وقفة، تُطبِق العَواصف الرَعدية على طقوس الإحتفال ومَظاهِر الفرَح قبل نهايتها لتقاطعَها بشَكل درامي مُفاجيء مُنذرة بحدوث ما ليسَ مُتوقعاً، يَتبَعها بَرق ودَوامات رياح يُبدع بتهوفن بتصويرها صُعوداً ونزولاً بإيقاع قوي يُشعِرنا أننا بقلب العاصِفة نسمَع هفيفها وتتقاذفنا رياحَها التي يُخيّل للسامِع أنها سَتأخذه مَعَها. لذا فهي تعَبّر أيضاً عَن تلك العِلاقة الأزلية الشائكة بَين الإنسان والطبيعة، وعن ذلك الخوف الكامِن داخله تجاهَها، وعَجزه عَن مواجَهة نزواتها مُنذ بَدء الخليقة حَتى يَومنا هذا.
لكن كما إن بَعد كل شِدّة فرَج، فإن بَعد كل عاصِفة سَكينة وسَماء صافية وشَمس تُشرق على الأرض لتُعيد أليها جَمالها ونَضارَتها، ولتعيد لأهلها إبتساماتهم وأفراحَهُم وأمَلهُم بغَـد أجمَل، وهذا ما تعَبّر عَنه الحَركة الخامِسة والأخيرة للسمفونية، فهي تبدأ بلحن هاديء رَقيق يعَكِس لنا مَشاعِر الراحة والإمتنان التي يَشعُر بها المَرء بَعد تلاشي العاصِفة وعودة الطيور والحيوانات والناس الى الظُهور تدريجياً بَعد أن زال خوفها وحَل بَدلاً عَنه أمان وطمأنينة تعكسُها هذه الحَركة التي تنحى أنغامَها في النهاية مَنحاً أكثر سُرعة وبَهجة وفرَحاً تنتهي به هذه التُحفة الموسيقية التي ترَكها لنا أسطورة الموسيقى العالمية بتهوفن.