22 ديسمبر، 2024 10:42 م

سياسة الضرب على اعشاش العقارب

سياسة الضرب على اعشاش العقارب

اجيال عدة سحقت في عهد صدام حسين………قتل وفقر وتهجير واستضعاف والوان من الظلم جرت على العراقيين خلال تلك الفترة العصيبة من الزمن….التقارير السنوية لمنظمة العفو الدولية ومنظمات حقوقية غيرها لا تخلو من بصمات النظام وخروقاته المقصودة والفاضحة لحقوق الافراد والشرائح الاجتماعية……
لم يكن صدام متدينا ولم يحب ابدا المتدينين…. صاحب الدين جاهل في نظره, عاق لحكمه واجب السجن والتشريد و القتل …..ولم يكن قريبا من العلمانيين والليبراليين والمتطلعين الى الحداثة في كل الوانها….. ولم يميز جلاديه ابدا بين زبائنهم المعارضين .
الفساد في عهده كان كسلطته محصورا بين اهله وذويه وغير ذلك فالكل سواسية امام شريعته … السرقة في عهده حق سلطاني والبطش سلاح للذود عن حدود هذا الحق المقدس……
ولكن صدام كان صريحا ولم ينف قط بغضه لمعارضيه وغالبا ما كان يصفهم بالخيانة لدرجة وصلت حد المجاهرة بالتلويح امام وكالات الانباء عن مصير الاعدام الذي ينتظر معارضيه على يديه….
تمسك بشعارات القومية العربية وفتك بخصومه ومعاونيه وحارب جيرانه تحت خيمتها…. هكذا كان فهمه للقومية ولم يخف شيئا في هذا المجال ابدا..
صدام كان عارفا ببغض الناس له ويتظاهر في اغلب الاحيان بالقناعة والتصديق عند سماعه لأهازيج الجموع له ………لم يكن مهموما قط بحب الناس له والتفافهم حوله بقدر خوفهم من بطشه.
في وصف موجز لعهد صدام حسين ذكر الدكتور صاحب الحكيم الناشط العتيد في مجال حقوق الانسان في العراق والمقيم في لندن حادثة لاحد المسنين من منطقة الفرات الاوسط فقد ولده في جبهات القتال مع ايران ورفض في حينها تسلم مكرمة رئاسية بحجة كبر سنه وعدم حاجته للمال…. لم يكن رفض الشيخ المسن للمكرمة “الفرعونية” امرا هينا على النظام ولم يندرج ضمن الثقافة المعهودة في تلك الحقبة من الزمن….. صعب الامر على مسؤول المنطقة ومن هو فوقه في المراتب الحزبية… الرفض لديهم حالة من التمرد والسكوت عليه محفوف بالخطر والمهالك …. أوصلوا خبره الى راس النظام فأوصى بجلبه الى القصر ليطلع بنفسه على سبب التمنع…..وهناك من قال بانه كان عارفا للسبب ولكنه اراد التمعن في دوافع الشيخ المتمرد لعله يجد في الامر شيئا من المعارضة المقصودة او المستندة على قناعة فكرية مغايرة لتوجهات نظامه………………………………………………….
وقبل ان يبادر الشيخ بالكلام, تطرق صدام الى الاعراف العشائرية وعن حالة رفض الدية التي تعني في التقاليد العربية رغبة ذوي الضحية بالانتقام بدلا من التسوية, ولكنه تفاجأ ببساطة الشيخ وصراحته حين اشار الى زهده في الدنيا و كبر سنه وقلة حيلته وقرب دنيته وخشيته من شيوع خبر المكرمة بين الناس وما يعنيه من وجود للمال في حيازته فيشجع السراق والمارقين على نهبه وانتهاك حرمة داره ودوس كرامته فتصبح المكرمة مذلة له ومنقصة لمنزلته وشائبة في ارذل عمره…. لم يكن الجواب وافيا للحاكم في طبيعة الحال ولكنه كان كافيا لحبس الغيض في نفسه. وقبل ان يشير عليه بالخروج, اجتهد صدام في ايداعه سرا لم يعلنه على الملأ من قبل…(ليكن معلوما لديك, ايها الشيخ بانني اعرف بغض الشعب لي , وان مجرد شيوع خبر سقوطي بين الخلق سيبادر الصغار قبل الكبار بنهش لحمي حيا والانتقام مني وفي حينها سوف لا تبقى لك لحمة في جسدي حتى بصغر لحمة الاذن كي تنهشها لو اردت الانتقام …….. )
صدام كان صريحا في بطشه جليا في ذوده عن حدود الفساد قانعا بنهجه اللاديني واللاإنساني….
وماذا عن عراق اليوم ؟
لم يصل ساسة عراق اليوم على ظهور الدبابات الاميركية كما يردد الاعلام العروبي بين الفينة والاخرى بل على اشلاء الالوف او الملايين من ضحايا الحروب والانتفاضة الشعبانية المقدسة… ولم يصوت العراقيون لهم في 2005 او بعدها الا للتوق نحو مصير افضل واستنادا الى القيم والشعارات والحاجات الدينية التي تلاقحت مع عواطف العراقيين بنقاء وبراءة لا تختلف عن براءة الاطفال وصفائهم…..
لم يصوت عليهم الشعب لبرامجهم الواعدة
كما لم يعرف شعبنا القسم الكبير منهم من قبل
لم تكن لصدام حسين مرجعية دينية او اخلاقية او عشائرية هادية له او راعية او رادعة ….
ولكن لقادة العراق الجدد ( او قسم منهم ) مرجعياتهم الدينية والعشائرية ومنهم من تفطن في دينه وبلغ به في سنوات المحنة…ومنهم من تدرج في قناعاته الايديولوجية من العلمانية الغربية الى العروبية الاقليمية لينتهي في الاسلام السياسي كما ورد في حديث النائب حسن العلوي امام الاعلام في 24 تموز 2012 عندما تناول هيمنة طائفة معينة على القائمة العراقية بعد ان بدأت علمانية محضة….
اعوام عدة توالت بعد سقوط النظام السابق شهد خلالها العراق جيلا من السياسيين يتاجر بالدين والمذهب والقومية والعشيرة والديمقراطية والاعراف كما يتاجر بائع الخمر بقارورات النبيذ المعتقة في حانات بغداد القديمة….
في 29 نيسان 2006 وعقب التكليف الاول للسيد نوري المالكي برئاسة الوزراء اصدر مكتب المرجع الديني الاعلى آية الله السيستاني بيانا تضمن توجيهات المرجعية للفترة القادمة من الحكم تناولت محاور عدة نخص منها :

حصر حمل السلاح بيد القوات الأمنية العراقية وضرورة بناء هذه القوات على أسس وطنية سليمة يكون ولاؤها للوطن وحده.
معالجة الحالة الأمنية ووضع حد للعمليات الإجرامية التي تطال الأبرياء من خطف وقتل وتهجير.
اختيار وزراء أكفاء يتصفون بالنزاهة ويتمتعون بالسمعة الحسنة ممن يأخذون على عاتقهم حل المشكلات الأمنية والخدمية في البلاد
الاهتمام بالخدمات المقدمة للمواطنين من ماء وكهرباء وخدمات عامة .

وما الحصيلة ؟
وزارات بعض الاحزاب تفرض عمولاتها جهارا على العقود وتعتبرها حقا مقدسا ورزقا مخطوطا لها في السماء…..مشاهد بائسة ومخيبة للآمال تجري في كل بقعة من هذا البلد المظلوم.. صدام حسين بكل ما عرف عنه من فساد وجشع يبدوا قزما امام ميزانيات وخروقات بعض الحاكمين الجدد الفلكية التي تجاوزت مئات المليارات حسب الارقام المعلنة هنا وهناك……………………………………….
في هذا الركن من بغداد نسمع عن احد الوزراء وقد حول مكتبه الى مضيف عشائري لا يتوقف ابدا عن وصف فوائد صلاة الليل وادعيتها التي تدفع البلاء وتكثر النعم ولكنه لا يوفر جهدا في جمع الاتاوات “الرزق الالهي!!” اثناء النهار اتماما لمراسم العبادة……..
وفي ركن اخر, نقرا ونسمع عن ملفات فساد مهولة تقبع في اقبية السياسيين في انتظار التلويح بها في فترة التنابز والصراع على المكاسب غير المشروعة…….
في هذا الزمن المقيت شهد العراقيون لونا خاصا من الوان العمل السياسي :الضرب على اعشاش العقارب وتفريخ الازمات على حافة كل حملة انتخابية بدلا من التفاخر بالبناء والانجازات والتقدم وردم الهوة بيننا وبين الآخرين….
في الامس القريب وقبيل الانتخابات البرلمانية السابقة تم اجتثاث صالح المطلك ليتحول فيما بعد الى صانع فاعل للقرار في هذا البلد المظلوم.. واليوم مع قرب انتخابات المجالس البلدية تخرج الجموع هنا وهناك بأصوات طائفية بعد ان سكنت زوبعة الازمة مع الاخوة الكورد في شمال الوطن…..
لم يعرف الشعب انجازا عملاقا بمستوى معاناته سوى ما تم كشفه من سرقات عملاقة وارهاب كما اشيع عن وزير الكهرباء السابق ايهم السامرائي الذي وضع حجر الاساس في مسيرة نقص الخدمات ووزير التجارة السابق فلاح السوداني الذي تاجر بمقدرات فقراء العراقيين وابطال فضيحة صفقة الاسلحة الروسية وطارق الهاشمي الذي سخر ادوات الدولة لترويع الناس وقتلهم وجرائم اخرى تجاوزت في مدياتها ما عرضته افلام السينما الامريكية من الاعيب وارقام…

بائس انت يا عراق……… اين كنت واين صرت والى اين المسار؟ حتى الحمائم التي كانت في الامس تلوذ في قبب مزاراتك المختلفة غارت من سياسييك وصارت تتخندق و تتحصص وتتلذذ بالصاروخ والكاتم و تتصارع على الاشلاء…….
اعوام من التخدير والآمال والالام سمع العراقيون خلالها لغة سياسية لم ترد في قواميس العالم……. تصفير الازمات وعودة الى المربع الاول وملفات وملفات مقابلة وغيرها………
اعوام من التجارب الفاشلة بقيادات تتراشق وتتصارع وتحلم بالتفرد والاقصاء لتلد بلدا يباري في بؤسه وشقائه افشل بلاد العالم……
اعوام, والفقر سمة العراقيين والجهل قدر الكثير منهم وعوز الخدمات والامن رفيقا لحياتهم اليومية…..
في هذا العهد :
نتظاهر بالدين ونفعل خلاف قيمه………………………………………………………………….. نتظاهر بالديمقراطية والحداثة والتحرر ونقتل وننهب و نسلب حقوق الخلق وامالهم……………..
وفي عهد صدام :
صراحة في البطش والتنكيل ووضوح في النهب بعيدا عن خيمة الديمقراطية والدين والمذهب
والعشيرة….
الدولة المدنية التعددية التي طالما حلم بها العراقيون تتحول يوما فيوما الى مقاطعات يتصارع شيوخها وامرائها وتتفسخ فيها المواطنة الى ولاءات فئوية وعشائرية وتتناسل فيها الازمات والكوارث…..
ومن يدري…. ؟ .
من يدري…. فقد ينصف التاريخ يوما ما الظالم الجائر الجاهل الطائفي “صدام” على قاعدة “اهون الشرين” بما جناه حكام هذا العهد على شعبهم ؟ وقد يلد العراق بطلا قوميا جديدا بلون ديني او طائفي او عشائري يطل علينا ليس لشجاعته في البناء بل لبراعة ضربه على عش العقارب والفرقة والازمات !!!!!!!!