23 ديسمبر، 2024 11:20 ص

سورة الفاتحة من الآية 1 إلى الآية 2

سورة الفاتحة من الآية 1 إلى الآية 2

مكية وآياتها سبع
الفرق بين السور المكية والسور المدنية يكمن في أن السور المكية هي التي نزلت في مكة قبل الهجرة، أما المدنية فهي كل ما نزل في المدينة أو في غيرها بعد الهجرة، بما في ذلك الآيات التي نزلت في فتح مكة أو في الغزوات الأخرى، ويطغى على السور المكية طابع الإيجاز وذلك لأن المخاطبين بها لديهم من الأدوات البلاغية ما يفوق المجتمع المدني الذي يكثر فيه اليهود الذين هم بحاجة إلى شيء من الإسهاب باعتبارهم أقل فهماً في تلقي الخطاب العربي، ومن هنا اقتصرت السور المكية على تبيان الأسس الرئيسة للدين دون الإطناب في تفصيل التشريعات، وهذا يدل على أن سورة الفاتحة هي سورة مكية بجميع آياتها ولا يعتد بقول مجاهد الذي اعتبرها من السور المدنية مخالفاً بذلك الإجماع والحجج الظاهرة في السياقات المكية، وكذا لا يعتد بقول من ذهب إلى أنها نزلت مرتين إحداهما في مكة والأخرى في المدينة، وذلك بدليل قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم) الحجر 87. وسورة الحجر التي أشارت إلى سورة الفاتحة ووصفتها بالسبع المثاني هي الأخرى مكية بالإجماع وبهذا تسقط حجة من ذهب إلى أن سورة الفاتحة مدنية أو أنها نزلت مرتين فتأمل.

وبناءً على ما تقدم يظهر أن القرآن الكريم كان مجموعاً في عهد النبي (ص) وبهذا يظهر فساد من قال إنه جمع في عهد الصحابة، وما يبين قوة حجتنا ويبرهن على صدق قولنا هو تسمية السورة بفاتحة الكتاب، فإذا لم يجمع القرآن في عهد النبي تكون التسمية باطلة ولم يقل أحد ببطلانها فلاحظ ذلك بدقة وتأمل. فإن قيل: ما معنى تسميتها بالسبع المثاني؟ أقول: فاتحة الكتاب هي المركز والقرار للقرآن الكريم ولذلك فإن آياتها تثنى وتعطف على غيرها من الآيات، والثني هو العطف، كما في قوله تعالى: (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) الحج 9. وهذا يوحي أن معنى المثاني هو الاسم المشترك بين القرآن وبين فاتحة الكتاب مما يدل على أهميتها وفضلها على السور الأخرى، علماً أن الله تعالى قد وصف جميع القرآن الكريم بما فيه سورة الفاتحة بالمثاني، كما في قوله: (الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) الزمر 23.

قوله تعالى: بسم الله: الاسم: لفظ يدل على مسمى، وقال الراغب في المفردات: الاسم: ما يعرف به ذات الشيء وأصله، وقال غيره: إنه مشتق من السمو وتصغيره سمي وجمعه أسماء. انتهى. والسمو: يعني العلو والارتفاع: وكل شيء يعلو بعنوانه واسمه ولا يمكن أن يستدل على ذات الشيء إلا بالرجوع إلى الاسم الذي وضع له، وهو مأخوذ من السمة التي تفيد معنى العلامة. ومن هنا نعلم أن الاسم يوضع للتشريف كما هو الحال في بعض الحضارات التي تطلق أسماء الأشراف على الأماكن المهمة، وذلك تيمناً ببقاء صاحب الاسم وإن كان ميتاً. ولهذا فإن ابتداء سورة الفاتحة باسم الله تعالى يدل على التوجه الصحيح الذي يرشد إلى تعليم الناس كيفية الابتداء باسمه سبحانه في جميع أمورهم الحياتية، كالذبح

والأكل وما إلى ذلك من الأعمال التي يقوم بها الإنسان، وقد بين سبحانه هذا المعنى بقوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) الأنعام 118. ومنه تعليم الإنسان كيف يبدأ القراءة، وذلك في قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) العلق 1. ويقول الطباطبائي في الميزان: قد شاع بين المتكلمين في الصدر الأول من الإسلام في أن الاسم عين المسمى أو غيره وطالت المشاجرات فيه، ولكن هذا النوع من المسائل قد اتضح اليوم اتضاحاً يبلغ إلى حد الضرورة ولا يجوز الاشتغال به بذكر ما قيل وما يقال فيه والعناية بإبطال ما هو باطل وإحقاق ما هو الحق فيه، فالصفح عن ذلك أولى، وأما لفظ الجلالة، الله أصله الإله، حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإله من أله الرجل يأله بمعنى عبد، أو من أله الرجل أو وله الرجل، أي تحيّر، فهو فعال بكسر الفاء، بمعنى المفعول، ككتاب بمعنى المكتوب، سمي إلهاً لأنه معبود أو لأنه مما تحيرت في ذاته العقول، والظاهر أنه علم بالغلبة، وقد كان مستعملاً دائراً في الألسن قبل نزول القرآن يعرفه العرب، كما يشعر به قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف 87. وقوله تعالى: (فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) الأنعام 136. ومما يدل على كونه علماً أنه يوصف بجميع الأسماء الحسنى وسائر أفعاله المأخوذة من تلك الأسماء من غير عكس، فيقال: رحم الله، وعلم الله، ورزق الله، ولا يقع لفظ الجلالة صفة لشيء منها ولا يؤخذ منه ما يوصف به شيء منها. انتهى بتصرف يسير منا.

قوله تعالى: الرحمن الرحيم: رحمن أكثر مبالغة من رحيم وذلك لأن فعلان فيها مبالغة تفوق ما في فعيل، وقدم الرحمن على الرحيم، باعتباره يتناول كل ما عظم من الأمور، أما الرحيم فيتناول دقائقها، واستناداً إلى صيغة المبالغة فإن رحمن يلزم منه الدوام كغضبان، ورحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغة فعيل تستعمل في الصفات الدائمة، أي إن الرحمن صفة ذاتية تدل على المنشأ والأصالة، أما الرحيم فإنها تدل على وصول الرحمة إلى المنعم عليه. ومن المواقف الطريفة التي حدثت للزمخشري في معنى المبالغة يقول في تفسيره الكشاف: مما طن على أذني من ملح العرب: أنهم يسمون مركباً من مراكبهم بالشقدف وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق، فقلت في طريق الطائف منهم لرجل ما اسم هذ المحمل؟ أردت المحمل العراقي فقال: أليس ذاك اسمه الشقدف؟ قلت: بلى، فقال: هذا اسمه الشقنداف، فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى وهو من الصفات الغالبة. انتهى. وما ذكره من زيادة بناء الاسم وعلاقة ذلك في زيادة المسمى فهذا مجمع عليه، ولذلك لا يعتد ببضع أسماء تخرج عن القاعدة في إظهار المبالغة للاسم الأقل بناءً، كما ذهب بعض المحدثين إلى عدم الاعتماد على القاعدة بسبب أن حذر أكثر مبالغة من حاذر فتأمل.

قوله تعالى: الحمد لله رب العالمين: الفرق بين الحمد والمدح والشكر يترتب على كون المراد من الحمد لغة: الثناء على عمل اختياري أما المدح فهو الثناء على الممدوح سواء صدر منه عملاً فيه نفعاً للمادح أو لم يكن فيه نفع، كما هو الحال في مدح الإنسان لجماله أو لكرمه وإن لم ينتفع المادح بذلك، وهذا يدل على عموم المدح دون الحمد، أما الشكر، فهو أخص من الحمد والمدح لأنه لا يستعمل إلا في رد الجميل سواء أكان ذلك بالقول أو العمل، كما في قوله تعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) إبراهيم 7. وكذا قوله: (اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور) سبأ 13. والألف واللام في الحمد للاستغراق أي إن كل حمد هو لله تعالى وذلك لما أنعم به على عباده عن اختيار منه. أما مصطلح الرب: فيعني المالك والمربي، ويلزم منه الإضافة إذا أطلق لغير الله تعالى، كأن تقول: رب البيت

أو رب العمل وهكذا. وقال الطبرسي في مجمع البيان: الحمد والمدح والشكر: متقاربة المعنى، والفرق بين الحمد والشكر أن الحمد نقيض الذم كما أن المدح نقيض الهجاء، والشكر نقيض الكفران، والحمد قد يكون من غير نعمة، والشكر يختص بالنعمة، إلا أن الحمد يوضع موضع الشكر ويقال: الحمد لله شكراً، فينصب شكراً على المصدر، ولو لم يكن الحمد في معنى الشكر لما نصبه، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب التعظيم ويكون بالقلب وهو الأصل، ويكون أيضاً باللسان، وإنما يجب باللسان لنفي تهمة الجحود والكفران، وأما المدح فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح مع القصد إليه، وأما الرب فله معان منها السيد المطاع، كقول لبيد:

وأهلكن قدماً رب كندة وابنه… ورب معد بين خبت وعرعر

أي سيد كندة، ومنها المالك نحو قول النبي (ص) لرجل: أرب غنم أم رب إبل، فقال: من كل ما آتاني الله فأكثر وأطيب، ومنها الصاحب نحو قول أبي ذؤيب

قد ناله رب الكلاب بكفه… بيض رهاب ريشهن مقزع

أي صاحب الكلاب، ومنها المربب، ومنها المصلح واشتقاقه من التربية، يقال ربيته ورببته بمعنى، وفلان يرب صنيعته إذا كان ينممها، ولا يطلق هذا الاسم إلا على الله، ويقيد في غيره، فيقال رب الدار ورب الضيعة. و (العالمون) جمع عالم والعالم جمع لا واحد له من لفظه، كالنفر والجيش وغيرهما، واشتقاقه من العلامة لأنه يدل على صانعه، وقيل إنه من العلم لأنه اسم يقع على ما يعلم وهو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العقلاء، لأنهم يقولون جاءني عالم من الناس ولا يقولون جاءني عالم من البقر، وفي المتعارف بين الناس هو عبارة عن جميع المخلوقات. انتهى.

وفيه: إن عدم صحة قولهم جاءني عالم من البقر يرجع إلى الاستعمال الشائع للمصطلح وأنت خبير بأن لغة العرب تميل في الغالب إلى الأدب في التعبير وإلا فالمعنى في نفسه صحيح، ولذلك عدل في آخر كلامه إلى القول المتعارف بين الناس والمراد به التعبير بالعالمين عن جميع المخلوقات، لأن هذا هو الحق، وما يثبت ذلك الحديث الذي دار بين موسى وفرعون، والذي صوره تعالى في قوله: (قال فرعون وما رب العالمين) الشعراء 23. فأجابه موسى كما في قوله تعالى: (قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) الشعراء 24. ثم أخذ موسى بإرجاع فروع الخلق إلى هذا الأصل، وذلك في قوله تعالى حكاية عنه: (قال ربكم ورب آبائكم الأولين) الشعراء 26. وكذا قوله: (قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) الشعراء 28. وبهذا تدخل جميع الأشياء التي ذكرها موسى في معنى رب العالمين.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن