23 ديسمبر، 2024 6:15 ص

سورة البقرة من الآية 63 إلى الآية 66

سورة البقرة من الآية 63 إلى الآية 66

المفاهيم الكبرى المبيِنة للأحكام المنزلة على أهل الكتاب لا تخرج عن أخذ الميثاق وما يتفرع عليه من المصاديق العملية المتعلقة في تنظيم ما تنص عليه الأوامر التشريعية، باعتبار أن الكتب السماوية كفيلة بتبيان المنهج الإلهي مضافاً إليه ما يستجد من الجوانب التي تحتاج إلى ترسيخ أعمق لأجل أن تحيط بجميع الأبعاد المصاحبة للتشريعات، وكذا ما يرجع إليها من المصاديق الثانوية المتصلة بالتقسيمات المعدة سلفاً والتي يمكن التوصل إليها بواسطة التفاصيل المشار إليها في جل الكتب المنزلة على الأنبياء ومن هنا كان الأمر الموجه إلى بني إسرائيل بأن يأخذوا ما في التوراة بقوة، والقوة كما هو ظاهر في سياق البحث الذي سيمر عليك بيانه فيها نوع من العموم، فهي لا تقتصر على القوة البدنية أو المعنوية وإنما هي جامعة للأمرين معاً لكي يتم استيعاب المفاهيم العامة التي ينادي بها الأنبياء، والتي نزلت على ضوئها الكتب حاملة للتشريع.

وبناءً على ما تقدم يظهر أن الأوامر الموجهة إلى بني إسرائيل لا تبتعد كثيراً عن المعنى الحرفي عند إرادة تطبيقها ومدى تعلق ذلك التطبيق بإطاعة الأوامر واجتناب النواهي، وتعليلاً لكثرة الأخطاء الواردة في مسيرتهم العملية نلاحظ أن نتائج العقاب الذي حل بهم كان بسبب اعتمادهم على الخداع والالتفاف على الأحكام الشرعية دون وجه حق، ولذا تراهم قد ابتدعوا ما يسمى بالحيل الشرعية في مسألة اصطياد الحيتان وسيمر عليك ذلك من خلال تفسير الآيات التي نحن بصددها، وعند تأمل هذا الأمر نلاحظ أنه يكاد يتقارب مع ما يذهب إليه ضعاف الإيمان في هذه الأمة الذين لا يزالون يتمسكون بحرفية التشريع دون النظر إلى الغايات، ولهذا فهم يعمدون إلى الحيل الشرعية ظناً منهم أنها من المباحات أو الرخص التي أقرها الشرع، ولهذا السبب نرى أن هناك مجموعة من الطاعات أو الالتزامات العملية قد أخذت جانباً آخر لدى بعض الناس الذين يعتقدون أن عملهم هذا مطابقاً للتشريع الإلهي، وهذا ما يجعل أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً.

من هنا نعلم أن الحق سبحانه قد أشار إلى هذا السنخ من الناس بقوله: (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً… الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) الكهف 103- 104. وكذا قوله تعالى: (وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) الزخرف 37. ومن الأمثلة على ذلك:

أولاً: ما يرفع من أعلام كتب عليها واعتصموا بحبل أهل البيت جميعاً ولا تفرقوا ونحن نعلم أن الاعتصام بحبل أهل البيت من الأشياء العظيمة، إلا أن وضعه في سياق كهذا يعد تحريفاً لكتاب الله تعالى وما أقبحها من حسن نية.

ثانياً: ما يرفع من أعلام كتب عليها انتخبوا القوي الأمين… ولا تعليق.

ثالثاً: ما يتصدر بعض المقالات من عناوين تبدأ بقوله تعالى: (ويسألونك) ولكن تكملة هذا اللفظ تنسب إلى أغراض متدنية لا يراد منها إلا الجهل الذي مني به أصحاب تلك المقالات.

وقفة مع آيات البحث:

قوله تعالى: (وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) البقرة 63. الطور هو الجبل، ويظهر بيان ذلك بصورة أكثر تجلياً إذا أضفنا إلى هذه الآية قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون) الأعراف 171.

وفي الميثاق ثلاثة أقوال:

الأول: أمرهم الله تعالى بأن يعملوا بالأحكام الواردة في التوراة فكرهوا ذلك فرفع فوقهم الطور.

الثاني: الميثاق المأخوذ على بني آدم وهم من أكبر مصاديقه وذلك لكثرة ما أرسل إليهم من أنبياء.

الثالث: ما أخذه الله تعالى على الرسل وأتباعهم من الإيمان بالنبي الخاتم (ص) ولهذا السبب كان امتناعهم. وعندي أن الرأي الأول هو الأرجح.

أما تسمية الجبل بالطور فقد ذكر المفسرون لها عدة أسباب أهمها:

أولاً: معنى الطور الجبل بالسريانية.

ثانياً: ما أنبت من الجبال فهو طور، وما لم ينبت فليس بطور.

أما المراد بالقوة فقد ذكروا لها مجموعة من الأقوال:

أولها: الجد والاجتهاد.

ثانيها: الطاعة.

ثالثها: العمل بالأحكام الواردة بالتوراة. والأخير هو الأقرب.

أما الذكر ففيه قولان:

الأول: ذكر الثواب والعقاب.

الثاني: دراسة ما فيه.

وقوله تعالى: (لعلكم تتقون) أي تتقون العقوبة عند تخلفكم عن اتباع الأحكام التي ذكرت فيها الأوامر والنواهي.

قوله تعالى: (ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين) البقرة 64. أي أعرضتم عن العمل بما في التوراة وكذا عن الميثاق والوفاء به، ومن مصاديق ذلك:

أولاً: تحريفهم للتوراة وترك العمل بها.

ثانياً: قتل الأنبياء والكفر بتعاليمهم.

قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) البقرة 65. الآية تشير إلى قوم كانوا في زمن داود كما قيل وكانوا يسكنون على ساحل البحر، وهم الذين ذكرهم تعالى بقوله: (وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون) الأعراف 163. وكما هو ظاهر من السياق فقد نهاهم الله تعالى عن صيد الحيتان في اليوم المذكور ابتلاءً لهم واختباراً لإيمانهم وإثبات الحجة عليهم، وهذه السنة جارية في جميع خلقه سبحانه، كما ذكر ذلك في قوله: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون… ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) العنكبوت 2- 3. وبالرجوع إلى بني إسرائيل نجد أنهم لم يجتازوا الاختبار، وبدأ الضعف يدب فيهم عند رؤيتهم للحيتان أي الأسماك وهي تملأ البحر بطريقة لم يألفوها من قبل، ولهذا أخذوا بالاحتيال على الأمر الإلهي فشرعوا في حفر الأحواض الكبيرة التي تدخلها الحيتان دون أن تخرج منها وذلك بعد فصلها عن البحر، فإذا جاء يوم الأحد استخرجوها من الأحواض بكل يسر، وهذا هو الاعتداء الذي أشار إليه تعالى في موضوع البحث وكذا في آية الأعراف.

فإن قيل: ما الغرض من ذكر هذه الواقعة في القرآن الكريم؟ أقول: ذكرت هذه الواقعة في القرآن الكريم لأجل إظهار معجزة النبي محمد (ص) لأن الخطاب كان موجهاً لليهود الذين عاصروه، وهذا يدل على أن إخباره لهم بما علموا خير دليل على صدق رسالته، ولذلك صدر تعالى الآية بقوله: (ولقد علمتم) هذا من جهة، ومن جهة أخرى يظهر أن في الآية تحذير من إنزال العذاب عليهم كما أنزله على أسلافهم وذلك بسبب تمردهم في هذه الحادثة، إضافة إلى أن في الواقعة عبرة لمن يحاول الالتفاف على نهج الله تعالى وتشريعه كما قدمنا في معرض حديثنا، ولهذا كانت العقوبة التي عاجلهم الله تعالى بها فيها نوع من المسخ والخسوء في آن واحد.

فإن قيل: هل كان المسخ مادياً أم معنوياً؟ أقول: ذكرنا في كتابنا هذا أن كلا الأمرين جائز في المسخ، وقد ذكر مكارم في تفسير الأمثل: أن المسخ هو تغيير الشكل الإنساني إلى الصورة الحيوانية، ومن المسلم أنه حدث على خلاف العادة والطبيعة، على أنه قد شوهدت حالات جزئية من (موتاسيون) والقفزة وتغيير الشكل في الحيوانات إلى أشكال أخرى، وقد شكلت فرضية التكامل في العلوم الطبيعية الحاضرة. ولكن الموارد التي شوهدت فيها الموتاسيون والقفزة إنما هي صفات الحيوانات الجزئية، لا الصفات الكلية يعني أنه لم يشاهد إلى الآن نوعاً من أنواع الحيوان تغير على أثر الموتاسيون إلى نوع آخر، بل يمكن أن تتغير خصوصيات معينة من الحيوانات، إضافة إلى أن هذه التغييرات إنما تظهر في الأجيال التي توجد في المستقبل، لا أن يحصل هذا التغيير في تولد الحيوان من أمه.

ويضيف مكارم: وعلى هذا الأساس يكون تغيير صورة إنسان أو حيوان إلى صورة نوع آخر أمراً خارقاً للعادة، ولكن يذكر أن هناك أموراً تحدث على خلاف العادة والطبيعة، وهذه الأمور ربما تقع في صورة المعاجز التي يأتي بها الأنبياء، وأحياناً تكون في صورة الأعمال الخارقة للعادة التي تصدر عن بعض الأشخاص، وإن لم يكونوا أنبياء وهي تختلف عن معاجز الأنبياء طبعاً. وبناءً على هذا وبعد القبول

بإمكان وقوع المعاجز وخوارق العادات، لا مانع من مسخ صورة إنسان إلى إنسان آخر، ولا يكون ذلك مستحيلاً تأباه العقول، ووجود مثل هذه الخوارق للعادة لا هو استثناء وخرق لقانون العلية، ولا هو خلاف العقل، بل هو مجرد كسر قضية عادية طبيعية. وبناءً على هذا لا مانع من قبول المسخ على ما هو عليه في معناه الظاهري الوارد في الآية.

وأضاف في الأمثل: من أن بعض المفسرين وهم الأقلية قالوا إن المسخ هو المسخ الروحاني والانقلاب في الصفات الأخلاقية، بمعنى ظهور صفات مثل صفات القرود أو الخنازير في الطغاة والمتعنتين، مثل الإقبال على التقليد الأعمى والتوجه الشديد إلى البطنة والشهوة، التي هي صفات بارزة لهذين الحيوانين. انتهى بتصرف يسير منا.

قوله تعالى: (فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين) البقرة 66. اختلف المفسرون في إرجاع الضمير إلى عدة وجوه:

الأول: إلى حالة المسخ، أي جعلنا مسخهم قردة نكالاً لمن عاصرهم وكذا من جاء بعدهم.

الثاني: إلى القرية أي جعلنا قرية أصحاب السبت نكالاً لما بين يديها وما خلفها.

الثالث: إلى هذه الأمة، أي جعلنا هذه الأمة نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين. والنكال هو العقوبة الشديدة أو العبرة.

والذي أميل إليه هو الرأي الأول وذلك للمذكور المتقدم فتأمل.

من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن