الطرق الوسطى المتفرعة عن السبيل الأمثل للعبادة لا يمكن أن تجانب الصواب إذا ما وجهت توجيهاً صحيحاً لا يخرج عن نطاق المفاهيم العامة التي غرست في كيان الإنسان منذ أن وجد على الأرض، إلا أن التركيبة السالبة التي تقابل تلك المفاهيم هي التي تباعد بين الناس وبين الفطرة السليمة التي جبلت عليها النفس البشرية وبناءً على هذا التوجه ظهرت بعض المحدثات التي اتخذت عناويناً لا تقترب من النهج الذي فطر عليه الإنسان، ولهذا أصبح الإله المعبود بغير حق يتجسد في عدة مصاديق يأخذ بعضها طابع الأصالة وبعضها يلتزم جانب التقرب للإله الحق، وقد اشار تعالى إلى هذا التقسيم بقوله: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون) البقرة 170. وكذا قوله: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) الزمر 3. وهذه الأعذار التي بني عليها اعتقادهم الباطل لا تخرج عن كونها من الوسائل الفاسدة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يقف شركهم عند هذا الحد بل تفرع إلى وسائط أخرى من بينها الملائكة والأنبياء أو غيرهم من الصالحين سواء كان ذلك بعلم من المعبود الذي جُعل وسيلة للتقرب أو بغير علم منه. وعند تأمل هذا الاتجاه في القرآن الكريم يظهر أن هناك مجموعة من الآيات تشير إليه، كما في قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة 116.
وبناءً على هذا الاختلاف في فهم المعبود افترق الناس إلى ثلاث طوائف اشارت إليهم سورة البقرة في مطلعها، ولكل واحدة من هذه الطوائف ما يميزها عن الأخرى حسب اللوازم الإيمانية المتأصلة في جذورها، ويتضح هذا المعنى من خلال العوامل الثابتة في التقوى التي تقابل الكفر من وجه والنفاق من وجه آخر، وقد ذكرنا في تفسير الآيات السابقة من أن الكفار لم ينتفعوا بالإنذار لذا اختصر الحق بيان أمرهم في آيتين فقط وأطنب في تعريف المنافقين وذلك نظراً للتأثير السلبي الذي أحدثه هؤلاء من خلال إظهار الإيمان وإبطان الكفر، ومن هنا فقد أدخل الحق سبحانه جميع هذه الطوائف تحت خطاب واحد وهو خطاب الناس دون أن يفرق بين ميولهم أو اتجاهاتهم وكذا ألوانهم أو انتماءاتهم وصولاً إلى النهج الذي يتصف به كل منهم في طريقته العبادية، ولهذا فقد التزم الصنف الثاني اتخاذ الأنداد مقابل الحق سبحانه، وعند تأمل خطابه تعالى يظهر أن هذا هو دأب القرآن الكريم دون البحث عن التطبيقات الثانوية التي يعتمدها الناس في مسمياتهم. فإن قيل: بناءً على ما قدمت لا يمكن أن نركن إلى تقسيم الناس إلى شعوب وقبائل كما في صريح القرآن الكريم؟ أقول: العلة من التقسيم التي بينها الله تعالى لا تتعدى إلى أكثر من التعارف بين الشعوب والقبائل وإن شئت فقل بين الدول كما في الوقت الحاضر، وأنت خبير من أن هذا التقسيم يقع تحته الكثير من العناوين وأنواع التعايش والتكافل وصولاً إلى التسخير الذي لا يخرج عن الهدف الأسمى لهذا التقسيم الذي بين الله تعالى علته الموجبة دون التخلف عن مقومات العبادة الخالصة، كما في قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) الحجرات 13.
وعند البحث عن مصاديق هذا التقسيم تظهر هناك إشارات واضحة ترتبط جميعها في الغاية نفسها وإن اختلفت المسميات، كما في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين… إلا
من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) هود 118- 119. وكذا قوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات 56. وعند تأمل هذه الآيات مجتمعة يتحصل أن المصاديق المشتركة بينها تبنى على المفهوم العام للخلق دون الابتعاد عن التوجه الذي لا ينفك عن التقوى التي يمتاز من خلالها الأكرم من الناس فتأمل. وهذا النسق لا يبتعد كثيراً عن آيات البحث التي جعل الله تعالى في سياقها أرقى درجات العبادة التي يصل الإنسان عن طريقها إلى التقوى، فقال جل شأنه: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 21. وكما هو ظاهر فإن هذا الخطاب لم يوجه إلى طائفة دون أخرى من الطوائف التي أشارت إليهم السورة في مطلعها كما قدمنا وذلك لأن التكليف لا يقتصر على المؤمنين بل هو ملزم للجميع وإن اختلفت النوعية الفاعلة في الكيفية التي تقيّد جميع من وصل إليهم الخطاب، وهذا بحث فقهي ليس محله التفسير وقد أفاض فيه العلماء كل حسب وجهته التي يعتقد بها وكتب الفقه لا تخلو منه. ولا يخفى على المتأمل من أن الخطاب قد قرع آذان الجميع وذكرهم بعبادة إله واحد لا شريك له، ولا يعتمد هذا الجانب إلا بنبذ الأنداد وكل ما يعبد من دون الله تعالى باعتبار أن هذا الأمر كان ملازماً لكثير من الناس، وهذه هي علة الجملة الاعتراضية التي بينها سبحانه بقوله: (والذين من قبلكم) البقرة 21. وبناءً على هذا السياق يظهر أن التقوى تتعلق بالعبادة دون الخلق فتأمل ذلك. ويمكن تقريب هذا المعنى من خلال المتفرقات الأخرى، كما في قوله تعالى: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون) المؤمنون 23. وقريب منه الأعراف 65. وكذا قوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة 183.
وبعد أن خاطب سبحانه الناس جميعاً بخطاب الفطرة وذكرهم بخلقهم وخلق الذين من قبلهم انتقل إلى بيان أحوالهم المعاشية مشفعاً ذلك بالإنذار، فقال عز من قائل: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) البقرة 22. ومفهوم الآية الثانية يتناسب مع منطوق الآية الأولى من حيث دلالته على أن من جعل هذه النعم العظيمة للناس هو الذي يستحق العبادة دون غيره من الأنداد فتأمل. وفي بيان تلك النعم يتضح أن المراد من وصف الأرض بالفراش فيه نوع من الاستعارة اللطيفة التي قابلها سبحانه بتشبيه السماء بالبناء الذي يكون أقرب إلى هيئة القبة المحيطة بالأرض، وقد أجرى الحق هذا الترتيب على ما هو مشاهد بواسطة الإدراكات المجردة دون النظر إلى المفاهيم العلمية أو ما يجري في الأفلاك التي اختلف العلماء في حيثيات مصاديقها، وهذا القدر المشار إليه بهذه الكيفية لا يخرج عن الدلالات الساذجة باعتبار أن ما يثير اهتمام الإنسان هو هذا الجزء المنظور بالنسبة إليه، وفي القرآن الكريم إشارات كثيرة تبنى على هذا الوجه وترتبط جميعها في بيان النوعية المعرفية التي لن تكون بمنأى عن الآثار الأخرى وهذا النهج قد يظهر في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) يونس 5. وكذا قوله: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) النحل 16. وقوله: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) البقرة 189.
وفي حالة تأمل ما تقدم من الآيات نفهم ان المراد من مصاديقها لا يخرج عن مدى توافق أبعادها المشاهدة التي يحتاجها الإنسان في حياته على هذه الأرض دون الاعتماد على الاسس المعرفية التي لها شأن آخر يعلمه الخاصة من الناس، ومن هنا تظهر النكتة في مجموعة من الآيات، كقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) البقرة 185. والنكتة ظاهرة في تكرار الهدى فتأمل بلطف. وكذلك قوله: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون) الأنبياء 32. وقوله: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) يوسف 105. من هنا نعلم أن
المراد من السماء في موضوع البحث هو ما يعلو الإنسان ولهذا جاء التأكيد على إنزال الماء منه، وقد بيّن القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) النور 43. من هنا يظهر أن المقومات العملية بين السماء والأرض هي التي جعلت إخراج الثمرات على هذا الوجه الذي يصل إلى الإنسان والمخلوقات الأخرى من خلال القابل المشترك بينهما، علماً أن هناك قطعاً كثيرة من الأرض لا تتأثر بالماء النازل من السماء فتأمل.
من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن