سلطانة : غالب هلسا في روايته الأخيرة

سلطانة : غالب هلسا في روايته الأخيرة

(*)
في كل رواياته وبعض قصصه القصيرة، يتواجد الروائي غالب هلسا، بشخصه المعلن في السرد، وليس فقط في هذه الرواية، لكنه في هذه الرواية يوظف الكثير من بداياته فيمكن اعتبار رواية (سلطانة/ ط1/ دار أزمنة/ شباط2003) الطبعة الأولى/1987/ دار الحقائق/ بيروت.. فالروائي غالب هلسا يتوقف طويلا عند سيرته وهو في المكان الأول وسيرة القرية ببيوتها وعوائلها، والحوادث التي تمر على رجالها وتحديدا في أربعينات القرن الماضي والرواية تنطلق من تلك السنوات ثم تغادر القرية مع مغادرة جريس منها إلى العاصمة عمان، وتعبرُ الرواية من عمان إلى القاهرة التي يسكنها جريس في عصر أنور السادات. تتمحور قراءتي حول من استحقت أن تكون عنوانا لهذه الرواية
(*)
تبدأ الرواية بسارد حيادي يخبرنا عن شخص غير معرّف، تهاجمه أحلام اليقظة، ومثل هذه الأحلام، محض توضيحات لرغبات ملجومة، في هذا النوع من الأحلام يكون الإنسان ذاتا وموضوعا، أحلام اليقظة تبث فاعليتها في معظم شخوص الرواية. وفي السطر ما قبل الأخير، من الصفحة الأولى يخبرنا السارد عن الشخص بقوله (هكذا استيقظ جريس).. في القسم الثاني من الصفحة ذاتها يتوارى السارد الحيادي ويخبرنا السارد المشارك بصياغة الحدث والرواية (صحوتُ من النوم على عالم بلا أصوات).. في الصفحة الأخيرة من الرواية تصبح الأمكنة أضيق من خرم الإبرة فينتاب سلطانة ذلك الحلم الذي حلمته في يقظتها .. (ثم أخذت تحلم بذلك الكوخ على شاطئ البحر. ارتسمت صورة بحر أسود صاخب، وسماء رمادية، وأشجار كثيرة جداً ساكنة، وفروعها، محملة بالثلج. وهي وحيدة. لماذا لا أحقق هذا الحلم؟ قالت لنفسها، إنها قادرة على ذلك)..

(*)
جريس: يظهر ويختفي تاركا فضاء الرواية لسواه من الشخوص والأحداث. والأمكنة، وجريس هو عصب الرواية.. واسم جريس قناع شفيف يكمن خلفه غالب هلسا و جريس حين حل في القاهرة بدأ يكتب رواية عنوانها (الخادمة) جعل أميرة بطلتها، وأميرة بنت سلطانة المتمردة التي صارت تعامل أمها بفظاظة، خصوصا بعد مقتل حكمت وهو عشيق مزدوج لأميرة وأمها سلطانة، فصارت بنتها متربصة بها تحاسبها على أبسط حركة تقوم بها، حتى تيقنت سلطانة أن (هذه البنت عقاب حقيقي لها، عقاب من الرب ينتقم لحكمت ولكثيرين غيرهم../ 476)..أما حين يبدأ جريس بكتاب الرواية فهذه الكتابة الروائية رد فعل إبداعي، على سؤالٍ وجهته أميرة إلى جريس (لماذا لا تعود إلى الأردن/ ص423)
(*)
بعد أن قرأت عزة، بعض فصول الرواية، حكى لها جريس تفصيلات عن سلطانة، فإذا بشفاهية الحكي تتغلب على سطوة السرد الذي انتهت منه عزة للتو!! وهكذا استولت على اهتمام عزة شخصية سلطانة وأكثرت من السؤال عنها، ومن التعليق عليها، وصارت مفتونة بشخصية سلطانة. وبلا دراية منها أعادت عزة سلطانة ًإلى جريس حتى استعاد عشقه لها، فيقرر هو كتابة الرواية من جديد، ويصر أن تكون أميرة هي بطلة الرواية.. لكن بمؤثرية عزة وهو يعيد كتابة روايته عن أميرة، يخبرنا السارد الحيادي.. (حين أعاد جريس كتابة الرواية أصبح عنوانها (سلطانة/ 424( !! وجريس يسرف حد المبالغة في توصيفه لسلطانة (سلطانة حضور، إذا غاب غابت. لا يمكن وصفها سواء بالكلام أو بالصورة الفوتوغرافية، أو حتى بالسينما../ 199)
(*)
سلطانة لها في القرية مغامرات مع الخوري صليبا..(يقال إنّ أول لقاء تم بين سلطانة وصليبا كان في الهريج الشرقي، ثم أصبح أحد أمكنة لقائهما../70)..أما بنتها أميرة فهي تشتغل في أحدى بيوت عمان ولها مغامراتها أيضا.. ولسلطانة مؤثرية على جريس وبشهادته حين يراها في القرية(رأيتها مقبلة من بعيد، نفذت إليّ كأنني لمست شريطا مكهرباً، تسير وكأنها في طريقها إلى فوق، إلى السماء. ليست كالأخريات تنجر أقدامهن على الأرض والجسد الفارع تحسّ به تحت الثوب رشيقاً، متدفقاً. بالعينين المشحونتين بمغناطيسية سائلة تدعوك إلى الالتصاق../41)
(*)
في التجارب الروائية يحدث ذلك، حين يقرر الروائي ان يكتب رواية سعيدة ويقطع شوطا فيها، فجأة ً الكائن النصي يتمرد على سلطة الروائي، ويسقط الروائي طوعا في غواية الكينونة النصية، ويواصل التنفيذ بمشيئتها. لكن الأمر مع جريس اتخذ أبعادًا أخرى.. فقد اكتشف أمراً مذهلاً، وكاد أن يبوح بكشوفاته إلى عزة لكنه لجم نفسه. في ميدان التحرير وسط التظاهرات أيام حكم السادات، وهو ينظر إلى عزة قال لنفسه (هذه سلطانة)!! هل تقمصت عزة شخصية سلطانة من خلال مرويات جريس عنها؟ هل أصبحت عزة قناع سلطانه؟ ؟ ولماذا جريس يفعل تماهيا بين الاثنتين ليختفي حضور عزة في ظهور سلطانة؟ وربما يكون السبب: (كانت سلطانة تملأ خيال عزة/ 423)
(*)
جريس قناعا للروائي غالب هلسا، ؟ وسلطانة هي المثال الأعلى للمرأة لدى غالب هلسا فهو يعترف (وجهها سيظل محفوراً في ذاكرتي حتى آخر العمر. عشت بعد تلك اللحظة في مدن كثيرة – عمّان، بيروت، دمشق، بغداد، القاهرة، أديس بابا، روما، برلين، تونس، فاس، الرباط، الدار البيضاء، أثينا، الاسكندرية، وكثير من المدن الأخرى، وعرفت وأحببتُ نساء في كل هذه المدن، ولكني لم أعرف قط وجهاً أثارني وظل يلاحقني كوجه سلطانة../ 197).. لماذا الشارة القرمزية لا تستحقها إلاّ سلطانة بالنسبة لغالب هلسا؟ ربما يهبنا بعضا من الأسباب اعترافه التالي وهو يصف وجه سلطانة (كان للوجه فتنة لا توصف بتفاصيلها، بل بالأثر الذي تخلّفه، فتنة تعلم أنها ممتنعة، لأنها حتى حين تمنح نفسها، فسوف تحس أنّك لم تلمسها بل تجولت بشفتيك على وجه امرأة. في وجه تلك المرأة حريّة لا تستطيع السيطرة عليها أو امتلاكها) وهذا يعني أن وجه سلطانها حصنها المنيع، وحريتها ضمن خبرتها الميدانية لا يحدها حد.. لكن حين تقصد خليج العقبة وتشتغل بالممنوع، تتغير ملامح وجه سلطانة، لأن الوجه مرآة الروح وليس قناعاً، فالثراء المادي والرفاهية الباذخة، جردت الوجه من سماته الأولى وها هي صورها منشورة في الصحف والمجلات (الصورة جميلة بقدر ماهي مخيبة)!! إذن اكتشف جريس خللاً في روح سلطانة، ويضيف وهو يتصفح المجلة (كانت صورة لامرأة فاخرة، امرأة من نساء البلاط اللواتي يتمتعن بسلطة مطلقة) ثم يفضح زيف الفرشاة الخانعة أمام جبروت سلطانة (لا ينجح رسامو البلاط إلاّ في اقتناص الضخامة والأنوثة والبراءة) ومن خلال التدليس فالرسامون يسدلون (الستار على مكائدها، وصلابتها الفولاذية، وتدبيرها الحاذق../ 439) بعد كل هذا التدقيق يعلن جريس أن التي في اللوحة (لم تكن سلطانة.. ليست سلطانة التي يتذكرها) خلافاً لرأي جريس يكون رأي عزة (دي حلوة بجد. كنت متصوراها.. يعني كده..).. وما تقوله سلطانة، محض مكياج صنّعه محرر الحوار (أنا فلاحة، وأشعر بالانتماء إلى الأرض. قد أقبلُ موتي، ولكنني لن أقبل أبداً أن أفقد قطعة الأرض).. ثم تتوالى هلوسات جريس .. في أحلام يقظته كانت سلطانة امرأة أخرى، عالمه في الأردن معاد ٍ لسلطانة، فهي مهربة حشيش وتتعاون مع العدو.. جسدها المحصن بوجهها استباحه الشيخ. وصارت كل ذكرياته مع سلطانة بلا صوت، يستعيد صوراً ثابتة فقط وكل ذلك يجعله في مقام الحيرة كيف سيكتب سلطانة ً روائيا؟ هل المسألة متوقفة على تقنية الرواية؟ لا مسافة بين الروائي وسلطانة، وهذا يعني لا يستطيع تشكيل شخصيتها بحيادية سردية، وإذا تعاطف مع شخصية سلطانة أصيبت الرواية بميوعة الغنائية
(*)
الثراء الفاحش جعل سلطانة لا تجهد نفسها من أجل إدارة أعمالها، النقود تأتي وحدها، الكل يهابها يتجنبون قسوتها، لا أحد يراها امرأة جميلة ومشتهاة. أن تقضي يومها في تحصيل مكاسب لم تحلم بها أبداً، يجعلها في حيرة ،هل هي سعيدة أم لا؟ هل هي راضية عن نفسها أم لا؟ تشعر فقط أنها مرهقة
(*)
مثل بقية شخوص الرواية يراودها حلم يقظة ٍ منقوع بالماء (أخذت تحلم بذلك الكوخ على شاطئ البحر. ارتسمت صورة بحر أسود صاخب، وسماء رمادية، وأشجار كثيرة جداً، ساكنة، وفروعها محملة بالثلج.. يبدو أنها عاشت في قلب ذلك الكوخ أكثر مما يجب../ 476) حلم يقظة سلطانة يعيدني إلى ما لم يحققه جريس روائيا، إلاّ في السعة، روايته (سلطانة ) بسعة 476 صفحة
(خطر لي أن أكتب رواية طويلة جداً عن شاب أحبّ فتاة جميلة ورقيقة كالزهرة، تصاب بالسل وتموت… كان الحبيب يسكن قلعة مهملة على قمة جبل، وفي الشتاء يجلس وحيداً يصغي لزئير الرياح وهي تعصف بين الأشجار العملاقة/ 148) يلاحظ القارئ أن جريس استبدل سلطانة بالشاب وجعلها في معزل عن جحيم الآخرين كما فعل مع الشاب .

أحدث المقالات

أحدث المقالات