كان العراقيون الثلاثة الكبار ملتفين عند جاسم العايف. عبد الكريم كاصد، مهدي محمد علي، وعزيز السماوي. يختار كريم ومهدي طريق النوق. أما عزيز، فيطلب يشماغاً من أم وضّاح. يضعه على رأسه، ويقول مبتسماً لآخر مرة: رائحة الكاري. كانت النوارس العراقية الثلاثة قد كفّت عن الغناء، خيوطها مربوطة بأشباح البصرة الميتة، تدخل وتخرج من قاعدة الليث الأمنية. سار الثلاثة كلٌّ في طريق. مات عزيز السماوي في لندن، ولم يكن لنخلة الله أن تونع في برد السرو والصنوبر. وقبل أيام قليلة، سالت شفاه مهدي على وسادة بيضاء مجهولة. كان آلاف الحريم يولدن، ويمتن في الفجر، إلاّ مهدي، حلمنا البصري الجميل. ظهرت على الجبين لمعةٌ بيضاء، تخالف لون الجسد، انتشرت على الوجه وعمّت كل البدن. قبّلته الواقفة عنده. وادعته، وخرجت. قالت: أسيرُ إلى المسجد الجامع حتى يأتيني النعي. عادت، فوجدته على حاله، يشك الناظر فيه بين الحياة والموت. دفنته وحدها، وكان على وجهه مشهدٌ من صور الأحياء، وكان في عروقه صورٌ من الأموات. كفى حَزَناً أنها نازحةٌ، ولها نحو أكناف العراقِ حنينُ.
أحقاً أننا لن نراك؟ أحقاً لن ترانا؟ أسرع، فقد تمزق قميصُ الليل، وشطَّ الحنين. أعطيتنا سرَّ الغناء، وقلتَ اهبطوا إلى الجحيم، وها هي منابع أنهرك قد جفّت اليوم. نحنُ الذين ألقيناك في شباك العذاب، ولم يكن يشجيك غير الرباب. جناحٌ صارخٌ.
سنلتقي في مسجد الحسن البصري، لكن لا تُفجع من رؤية البصرةِ عريانةً، بلا نخيل.
أنت لم تشرك بالله، ولم تلوث دجلة أو الفرات، ولم تتسبب في بكاء الأطفال، ولم تخطف الحليب من فم الرضّع.. لمَ متَّ؟ لكنك لا تعترض على السماء. إنه طريقك الخفي، فيه الكثير من حفلات الزفاف. ومن لم يخاطر بشيء، لن يملك شيئاً. ملكت القلوب بجنتك، “جنّةُ البستان”.
ها هو وطننا الذي تركته يوماً بلا أحد، بلا أبواب، بلا بيوت، ولا شبابيك. بلا أموات. أواهُ لو نطق الترابُ.
عينك اليومَ، تراب
يدك اليومَ، تراب
عسى أن ينجي اللهُ قصائدكَ من التراب
قبرك في كل مكانٍ شعَّ فيه الضوءُ، والكفن