22 ديسمبر، 2024 11:14 م

زهــــــايـــمـــر

زهــــــايـــمـــر

أوقفني ذاتَ يومٍ شيخٌ كان قد غطى بياضُ الثلج لحيتَه وبعضَ رأسِه، في يده اليسرى عصا خشبية مقبضها يحكي قصة عشق بين رجل وشجرة، وفي يده اليمنى يحمل كأسا مزاجها عصير تفاح كان قد تناثر بعضه على قميصه الأبيض كدنانير الذهب قائلا: أظنني قد ظللت الطريق الى غرفتي، فهلّا ساعدتني؟ فأوصلته الى غرفته الأنيقة وانتظرته حتى قعد على أريكة قوائمها رشيقة، فمد يده مصافحا شاكرا وقال: الرجل من صافَـحَ بقوة لا تعرف الطريق الى قلب إزدان رقة، والرجل من هجرت الرقةُ يدَه لتسكن قلبـَه، فأجاني كلام ذلك الشيخ ذي العينين الزرقاوين ولهجته اللندنية التي لا يتحدث الناس بها في المدينة التي هو نزيل بإحدى مستشفياتها، قلت في نفسي ربما كانت هذه إحدى اللحظات النادرة التي يسترجع فيها المصاب بمرض الزهايمر بعض ذاكرته أو كلها. اقعد، قالها مريضي بنبرة حازمة لا تخلو من عطف، فقعدت. (القعود غير الجلوس، فالأول هو الانتقال من علو الى أسفل، أما الثاني فهو الانتقال من أسفل الى أعلى، يقال: كان مضطجعا فجلس). سألني سؤالا اعتدت سماعه، من أي البلاد انت فأجبت كعادتي: احزر. مصر؟ استحسنت جوابه بل اعتبرته نصرا صغيرا يليق بحاكم عربي يصور التلة التي صعدها زحفا كجبل أشم لشعب دائم التصفيق، فمريضي يعتقد بأنني عربي ولم يقل الهند أو باكستان كغيره وتذكرت حينها حادثة طريفة عندما كنت اعمل في مستشفى بمدينة نصف سكانها من شبه القارة الهندية وسألني شيخ آخر عرفت من ملابسه أنه باكستاني سؤالا بلغته فأجبته بالإنكليزية بأني لا أتكلم لغته فارتفعت نبرة صوته ربما كان يسبني وتركني وذهب واظن وليس كل الظن إثما أنه حسبني من بني جلدته الذين تنكر بعضهم للغتهم الأم. أعود الى الشيخ في غرفته وسؤاله فقلت من العراق، فاستبشر وجهه وقال: انا أيضا ولدت في العراق. ها هو مرض الزهايمر قد عاد، همهمت في نفسي، ثم زاد الشيخ: ولدت في قاعدة الحبانية، فوالداي كانا في الجيش البريطاني. ثم حاول الشيخ تذكر بعض الكلمات العربية التي تعلمها في العراق قبل ثمانين عاما وقام بالعد من الواحد الى العشرة فانبهرت، كيف يستطيع دماغ الشيخ تذكر كل هذا وفي نفس الوقت لا يستطيع تذكر الطريق الى غرفته والأغرب من هذا لا يتذكر دماغ الشيخ نفسه اسم ابنه. إن الزهايمر لمرض عجيب. استأذنت الشيخ بان اتصل بعائلته لكي يشهدوه في حالته هذه فقال: أرجوك لا تفعل فلم يتبقى من عائلتي سوى ولدي الذي أشبعني قسوة وبرودا ولم أره منذ عشرين عاما رغم انه يسكن في نفس المدينة، لم أرد التدخل فيما لا يعنيني واحترمت رغبته فموقف كهذا للأسف يتكرر امامي يوميا، آباء واُمهات يُتركون في باب المستشفى لأن الأبناء لا يريدون ان يعتنوا بسبب وجودهم في هذه الدنيا.

في المستشفى تعرفت على وجه آخر من عالمي الجديد الذي لا أعرف إن كنت قد اخترته أو اختارني، تذكرت تلك الفاتنة التي تركت والدتها العجوز في طوارئ المستشفى وانطلقت الى مطار المدينة لتلحق رحلتها المتوجة الى إحدى جزر الكناري، أتذكر الحادثة لأنها طلبت عدم ازعاجها بأي اتصال هاتفي خلال إجازتها، وعدما التفت الى من حولي لم أجدهم مستغربين إطلاقا وهذا بالضرورة يعني انهم اعتادوا مشاهدة مواقف مشابهة أو انهم قاموا أو سيقومون بالفعل نفسه أو ان الامر لا يعنيهم على الإطلاق. ربما لم يعامل الأهل أولادهم بالحسنى وربما كانوا أشخاصا سيئين يستحقون ما يجري لهم، لا أعرف، ولكنني أعرف ان هذا الفعل مخالف للطبيعة. ذكري لهذه الحالات لا يعني أن البريطانيين لا يعتنون باهلهم ولا يعني ان الناس في بلداننا العربية ملائكة ولكن نسبة حدوث حالات كهذه في البلدان المتقدمة أكثر بكثير من نسبة حدوثها في بلداننا التي غادرتها رحمة الرب منذ أمد بعيد، بل ان نسبة حدوث نفس الحالة في بريطانيا تكاد تكون معدومة ضمن ذوي البشرة السمراء كبشرتي سوآءا كانوا من شبه القارة الهندية أو البلاد العربية. هل لما يؤمنون به علاقة بذلك؟ بالطبع لا، فمجوع المعبود من الارباب يفوق المائة والخمسين ربا في الهند وحدها. أهي الحداثة والتطور؟ لا أعلم، ربما هو زهايمر من نوع غريب أصاب ابن الشيخ المريض في ردهة المستشفى التي أعمل فيها وأصاب تلك الفاتنة التي انطلقت كالنسيم الى سواحل جزيرة لانزروتي للتمتع بشمسها. أترى أصاب الزهايمر عائلة عجوز اُخرى التقيتها قبل أيام كانت قد انفجرت ماسورة الماء الرئيسية ففاض المنزل بماء طفت فوق سطحه ذكريات نصف قرن من الزمان؟ فبدلا من ان يقوم الأولاد والبنات بالتنازع على من يستضيف امه، أوصلوها الى المستشفى ليتسنى لشركة التأمين انقاذ الموقف؟ العجوز الأخيرة لم يكن الزهايمر قد وصل دماغَـها ولكنه بالطبع معشعش في دماغ ذريتها. أيصحُ أن يوصف مجتمع بالجمال والدلال والكمال لأن مواطنيه يبتسمون في الشارع ويفتحون الباب لك ويحترمون الطوابير سوآءا عند البقال أو المقهى أو الملهى الليلي أو في الطرق السريعة؟ كل ما تقدم وإن كان جميلا نادر الحدوث في مدننا لا يكاد يغطي حجم بشاعة ما أرى يوميا في مكان عملي خلال العشرة سنوات الماضية.
أعود الى شيخنا فوجدته قد غفى على أريكته، ربما كانت غفوته بسبب تعب أحسه بعد نشاط دماغه المفاجئ وربما هي الغفوة التي تتبع الأكل وربما أصابه الملل وربما هي غفوة وكفى ولا يجب أن أطيل في البحث عن أسبابها فالكل يغفو. أتراني اُصبت بعدوى مرض البحث عن أسباب كل شيء وأي شيء حتى البديهيات؟

يقول الامبراطور الروماني الفيلسوف ماركوس اوريليوس الذي عاش في القرن الثاني لميلاد السيد المسيح ما ترجمته:” إن من أخطر الأشياء على العقل الإنساني انكفاء البديهيات” ومعنى ذلك انعدام المنطق السليم او الفطرة السليمة. هل كان ماركوس اوريليوس يتنبأُ بزهايمر يصيب المنطق أم أن المرض كان معروفا في عصره وهل يعني هذا ان الزهايمر مرض لكل العصور؟ كان معدل أعمار الناس قديما أقل بكثير من معدل أعمار البشر حاليا، ففي مصر القديمة المشهورة بأطبائها كان معدل حياة المواطن المصري ٣٦ سنة فقط، وفقدت الملكة اليانور وزوجها الملك ادوارد الأول ملك إنكلترا اللذان عاشا في القرن الثالث عشر للميلاد خمسة عشر طفلا قبل ولادة أدوارد الثاني الذي خلف والده في حكم إنكلترا، ولك أن تتخيل عزيزي القارئ مقدار الألم الناتج عن خسارة هذا العدد من الأطفال في عائلة واحدة، فالتهاب بسيط يستطيع قتل أي انسان والمضادات الحيوية لم تُعرف قبل عام ١٩٤١ عندما استعمل الكساندر فليمنغ البنيسيلين لأول مرة بعد بحوث استمرت لسنوات، وقد كان لي شرف معالجة الممرضة التي حقنت اول جرعة بنيسيلين في بريطانيا العام الماضي. أريد أن أقول ان الزهايمر مرض يصيب بعض من تقدم بهم العمر لذلك نراه شائعا في أيامنا هذه نظرا للتقدم الحاصل في مجال الطب والذي سبب ارتفاع معدل اعمار البشر إذا اخرجنا الموت الناتج من الحروب والحوادث من المعادلة، لذلك أظن انه لم يكن معروفا أو واسع الانتشار في العصور السابقة مثله كمثل أمراض القلب التي يندر حدوثها في الشباب، وهذا الاستنتاج يدفعني للنظر مرة اُخرى عن صحة بعض القصص المذكورة في الكتب المقدسة عن أعمار البشر التي فاقت بضع مئات من السنين. إنها حقا لمعجزة ان لا يحتاج أحدهم الى شريط اوكمنتين او ارثرومايسين او فلاجيل أم يا ترى أن محلات العطارة كانت قد اكتشفت المضادات الحيوية قبل المرحوم الكساندر فليمنغ؟ لا تستغرب يا صديقي فقد اخذت عن ابن خلدون مبدأ إعمال العقل في الخبر واذكرك بما قاله ابن النفيس: ” وربما أوجب استقصاؤنا النظر عدولاً عن المشهور والمتعارف، فمن قرع سمعه خلافُ ما عهده، فلا يبادرنا بالإنكار، فذلك طيشٌ، فرُبَّ شَنِعٍ حقٌّ، ومألوفٍ محمودٍ كاذبٌ، والحقُّ حقٌّ في نفسه لا لقول الناس له ولنذكر دوماً قولهم إذا تساوتِ الأذهانُ والهمم، فمتأخرُ كُلِّ صناعةٍ خيرٌ من متقدمها”.

هل تنسى الوردة أن تزهر في الربيع وهل تنسى الشجرة أن تلقي بثمارها وظلها على عاشقَين أسندا ظهرَيهما الى جذعها الذي لا ينسى لونه؟ هل تنسى القطة أن تهرب إذا صادفها كلب أو طفل بيده حجر ام هل ينسى العصفور أن يحتمي من المطر؟ كلا لا وزر.

أما عن الزهايمر الذي أصاب وسائل الدعاية لا الإعلام وبعض الأقلام والحكام فهنا يطول المقام ويكتمل الجهل كبدر التمام يشع ظلمة على الدوام. وفي الختام أبعد الله عنكم وعن أحبائكم مرض الزهايمر.