يعد العلامة السيد محمد جواد العاملي (1164/ 1226- 1751/ 1811) الفقيه المتتبع، من كبار تلاميذ المراجع الكبار: الوحيد البهبهاني (1206/ 1792)، ومحمد مهدي بحر العلوم (1212/ 1798)، وجعفر كاشف الغطاء (1228/ 1813)، وفي أثناء سفر الشيخ جعفر إلى إيران، اعتزل للتدريس والفتوى والتأليف، ولم يرجع الى شيخه حين عاد، ولعل ثمة خلافا نشب بين العاملي وابن المرجع الشيخ موسى، الذي ظلت له اليد الطولى في إدارة المدينة إبان سفر الشيخ جعفر الكبير، ولو تفرسنا في النصوص التاريخية لتبين أن بذرة الخلاف نثرت قبل هذا الوقت، وتحديدا قبيل مقتل السيد محمود الرحباوي، بحسب الأمين: حدثت فتنة ظل أوارها يشتعل قرابة قرن بين الزكرت والشمرت، إذ يقيم الزقرت في محلتي العمارة والحويش والشمرت في محلتي المشراق والبراق، وسبب هذه الفتنة انه كان في الرحبة بنواحي النجف رجل يدعى السيد محمود الرحباوي، جاء آباؤه لطلب العلم وتوطنوا النجف، فأخبر إن بالرحبة عين ماء طمها التراب، فاستخرجها السيد محمود، واحدث عليها مزارع وبساتين، وبنى عندها قصرا وسكنه، وكان السيد محمود رجلا سخيا، فاشتهر عند الاعراب بسخائه؛ وكان له أختان: تسمى إحداهما أم السعد، وهي التي تنسب إليها خرابة أم السعد في محلة العمارة بالنجف، لأنها كانت دارا لها، والثانية تسمى رخيثة، وقد منعهما أخوهما من التزوج، ولهما أبناء عم يخطبونهما منه فلا يزوجهما؛ فشكتا أمرهما إلى الشيخ جعفر الكبير … وكذلك أبناء عمه لما امتنع من تزويجهم غضبوا وطلبوا منه القسمة، فطردهم وانكر حقهم، فشكوه إلى الشيخ، وطلبوا حضوره إلى مجلس الشرع، ولعلم الشيخ بأنه لا يحضر، لم يرسل اليه، فوسطوا في ذلك ولده الشيخ موسى، فكلم أباه؛ ولم يزل به حتى أرسل جماعة من أهل العلم مسلحين مع آخرين من أهل النجف، وفيهم عباس الحداد أحد الشجعان، وعدتهم سبعون رجلا، وكلهم بالسلاح، وأمرهم باحضار السيد محمود طوعا أو كرها؛ فنهاه تلميذه السيد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة عن ذلك، وخوفه وقوع فتنة لا تطفأ، فلم يقبل لاعتقاده ان ذلك امر بالمعروف ونهي عن المنكر، فلا يجوز له تركه وهو قادر عليه… ، فجاءوا إلى القصر فلما اخبر بمجيئهم، قال: أخرجوهم، وأغلقوا باب القصر دونهم، فتفرقوا عند أصحابه، وباتوا عندهم، وأصبح السيد محمود مقتولا، واتهم بقتله أبناء عمه وأصحاب الشيخ، فتبرأ بنو عمه من دمه، فانحصر ثاره بأصحاب الشيخ، وكان الحاكم في النجف الملا محمد طاهر، وهو سادن الروضة المطهرة، وكانت بين السيد محمود وعشيرة الملا محمد طاهر خؤولة، فهو إذا المطالب بثاره، فاستطال الملا محمد على أهل العلم وقصدهم بالأذى] (أعيان الشيعة 4/ 102).
يكشف النص عن أثر الأبناء على قرار المرجعية أحيانا، على الرغم من أصوات المعارضة لكبار الحاشية، ونتبين كم كان العاملي حكيما ومصيبا، لمّا كان النجف يمر بسنين عجاف في خضم الهجمات الوهابية عليه بين الآونة والأخرى، فلا مناص من تذليل المشكلات الداخلية، وتوجه المجتمع بكله وكلكله نحو مواجهة العدو الخارجي.
كان هذا مرام السيد العاملي، وعليه أصَّل منهجه في تقوية الدفاعات على مسالح سور المدينة، وتعزيز الحماية حول الأبواب، وحضّ الناس- لا سيما الشباب- على تنكب الدفاع والذود عن حياض النجف وحماية أهلها؛ هكذا ظل العاملي في سنيه العشر الأخيرة من عمره في النجف يعاهد أزمة الهجمات الوهابية، ويحمل معاناة أبناء المدينة وخوف زائريها، فقد ألزم نفسه بإدارة منهج المقاومة والرباط عن قدسية المدينة، والدفاع عن أهلها، فكان بمثابة رئيس أركان الحرب، في التخطيط والتسليح والمراقبة والتوجيه وتوظيف الطاقات؛ بل رأى أنَّ من واجبه إقناع الطبقات البروجوازية والثيوقراطية وصدّ محاولتهم الخروج من المدينة والنجاة بأنفسهم، فكتب لهم رسالة “الرباط”، يحثهم فيها على البقاء أسوة بأبناء المدينة على أصنافهم وتنوعهم.
سجلت مصادر التاريخ للوهابيين هجمات عدّة على غربي الفرات، ولاسيما المدن المقدسة، ومحاولاتهم اباحتها وهتك مقدساتها، منها:
– في سنة (1216/ 1801) كانت ذروة التمدد العسكري الوهابيّ، باتجاه العتبات المقدَّسة في العراق، في عمليات كربلاء، مستغلًّا الشعائر الدينية في عيد الغدير (18 ذي الحجة/ 2 مايس)؛ وبعد أنْ أباح كربلاء، وهتكَ الحرم الحسينيّ، وذبح ما يقارب من 5 آلاف، وجرح 10 آلاف، من سكان المدينة، بعدها توجّه الوهابيّ بجنده الى النجف لمنازلتها؛ لكنُه انسحب إثر مناوشات الأهالي وصمودهم بوجهه، وكان الموقف عصيبا على المجتمع النجفي، تشحنه الرهبة، ويحرِّكه الخوف مما جرى في كربلاء .
– في سنة (1217/ 1802) جاؤوا مرة أخرى، وأغاروا على النجف، وقتلوا جمعا من العلماء والمجاهدين في يوم الغدير.
– في 9 صفر 1221/ 28 نيسان 1806، هاجم الوهابيون النجف وأوشكت التجربة الأليمة تنشب أظفارها في أهلها، بحسب الفقيه جواد العاملي كشاهد عيان، قال : “قبل الصبح بساعة، هجم علينا في النجف، ونحن في غفلة، حتّى أنّ بعض أصحابه صعدوا السور، وكادوا يأخذون البلد؛ فظهرت لأمير المؤمنين- عليه السلام- المعجزات الظاهرة والكرامات الباهرة، فقُتل من جيشه كثير، ورجع خائباً. يُلحظ- هنا- توظيف رمزيَّة الإعجاز لدى الإمام في رد الوهابيّين على أعقابهم، وهو ما يؤمِن به كثيرٌ من مجتمع الشيعة، حتى أضحى ترسيما في وعيهم التاريخيّ.
ثمّة محاولات وهابية أخرى للهجوم على كربلاء والنجف، شهِدت مقابلاتٍ مسلَّحة، وصمودًا لأهل المدينتين في الدفاع عنهما. لم تكتفِ المصادر من توثيقها، بل سجَّل أصحابها- خلال معايشتهم وملاحظتهم- مظاهر الخوف والهلع والرعب المنبثّة في المجتمع إبان الهجمات، والتي تسهم في تعطيل مناحيَ الحياة الاجتماعيّة أو بعضها؛ قال العاملي : “وفي هذه السنة [1223/ 1808] جاء الخارجيُّ الّذي اسمه سعود، في جمادى الآخرة، من نجد بما يقرُب من عشرين ألف مقاتل أو أزيد، فجاءتنا النذر بأنّه يريد أنْ يدهمنا في النجف الأشرف غفلةً، فتحذّرنا منه، وخرجنا جميعًا إلى سور البلد، فأتانا ليلًا، فرآنا على حذر، قد أحطنا بالسور بالبنادق والأطواب، فمضى إلى الحلّة، فرآهم كذلك، ثمّ مضى إلى مشهد الحسين- عليه السلام- على حين غفلة- نهاراً، فحاصرهم حصارًا شديدًا، فثبتوا له خلف السور، وقتل منهم، وقتلوا منه، ورجع خائباً، ثمّ عاث في العراق، فقُتل مَن قُتل؛ وبقينا مدّة تاركين البحث والنظر، على خوف منه ووجل، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم، وقد استولى على مكّة- شرّفها الله تعالى- والمدينة المنوّرة، وقد تعطّل الحاجّ ثلاث سنين؛ وما ندري ماذا يكون، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله”.
يعايش العاملي- في كتابة يومياته ومشاهداته على حاشية كتابه مفتاح الكرامة- المشهد النجفي، ويرسم الحراك الاجتماعي في الأزمة، فيصف أحوال الناس والوضع السياسي وتنازع القبائل في غربي الفرات، إثر هجوم الوهابيين على المدن المقدّسة، في محاولة لانتهاك حرماتها (مفتاح الكرامة، حاشية 21/ 409): في سنة 1225/ 1810 أحاطت الأعراب من عنيزة، القائلين بمقالة الوهّابي الخارجي، بالنجف الأشرف، ومشهد الحسين -عليه السلام، وقد قطعوا الطرق، ونهبوا زوّار الحسين (ع) بعد مُنصرفِهم من زيارة نصف شعبان، وقتلوا منهم جمًّا غفيرًا، وأكثر القتلى من العجم، وربّما قيل: إنّهم مائة وخمسون، وقيل: أقلّ؛ وبقي جملة من زوّار العرب في الحلّة، ما قدروا أن يأتوا إلى النجف الأشرف، فبعضهم صام في الحلّة، وبعضهم مضى إلى الحسكة ، ونحن الآن كأنّا في حصار، والأعراب إلى الآن ما انصرفوا، وهم من الكوفة إلى مشهد الحسين – عليه السلام- بفرسخين أو أكثر، على ما قيل، والخزاعل متخاذلون مختلفون، كما أنّ آل بعيج وآل جعشم يتقاتلون، كما أنّ والي بغداد، جاءه والٍ آخرَ، وأنّه معزول، وهما الآن يتقاتلان، وقد غمّت علينا أخبارُهما لانقطاع الطرق، وبذلك طمعت عنزة في الإقامة في هذه الأطراف. ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم
نرتسم في النصوص صورة واضحة المعالم للواقع الاجتماعي في النجف إبّان الهجمات الوهابيّة، وما تثيره في نفوسهم من خوف وهلع، وما يصاحبه من فقر مُدْقَع، وقِلَّةِ الإمكانات والاستعدادات، على نحو يستدعي قسمًا من الناس الى الهروب من المدينة طلبا للسلامة، وفيهم بعض أهل العلم، وكان من المعوَّل عليهم الصمود، وشحذُ العزيمة على المواجهة والمصابرة، بدلًا من تقاعسهم عن حماية النجف الشريف وحراسته؛ بحسب محمد الجواد العاملي، الذي اضْطُرَّ الى كتابة “رسالة في الرباط” ، لحلِّ الالتباس على الناس، وكانت تعبّر عن إرادة الجمهور، نظَم فيها حُججه، لوجوب الدفاع والمرابطة، في أمور ثلاثة: أولها- إنَّ النجف الأشرف ثغرٌ، لموقعه على خاصرة الصحراء، وتحيطه قبائل الأعراب، وعشائر البدو المتعصبين؛ ثانيها- إنّ به قومًا مسلمين يُخافُ هجومُ العدوِّ عليهم؛ ثالثها- إنّ فيه مرقد أمير المؤمنين، وعِزّ الإسلام والمسلمين، وموضع ناموس الدين؛ من هنا تتجلى أهمية رسالة “الرباط”، والتي أوردها كاملة السيد حسين البراقي (1261- 1332/ 1845- 1914) في (اليتيمة الغرويّة، ص ص 530- 543).
كان يخاطبهم بقوله : فما بَدا فيما عدا؛ أ ليسَ هو إمامكم، الذي كنتم- بالأمس- تزورونه، وبأنفسكم تفدونه؟ فما بالكم- اليوم- خذلتموه، وتركتموه، وإلى أهل نجد أسلمتموه؛ ولو جاء- من العشرة آلاف- عشرةٌ، لحصل بذلك كمال النُّصرة؛ فتقصيركم- والله- معلوم، وكل واحد ممن سمع فهو مأثوم؛ لأنّ الحماية والرعاية واجبة كفاية، وهي حماية لإمامكم، ومن بقي في مشهده من أخوانكم، لضعفٍ قعدوا به، أو مانعٍ لا يُقدر على رفعه، أو ترجيحٍ أخذ بضبْعِه، ظانًّا منه السلامة، وأنَّ القتلَ- دون سيده- ليس فيه ندامة… بل هو مفتاح الكرامة.
نتحصل من النص: كم كان موقف رجالات الدين صَلْبًا في الدفاع عن حياض المدينة، ومشهدها المقدَّس، وناسِها المسلمين!، وأنّهم شرَّعوا له حكمًا في باب الجهاد، بخاصة العلامة السيد محمد جواد العاملي، وأنّه لم يقف على عتبة الخطاب، بل كان يتابع إدارة المقاومة ميدانيًّا، يحثّ الناس على المرابطة في سبيل الله، والدفاع عن العرض والمذهب، ويرشدهم الى المثابرة على حراسة الثغر، ويذكرهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا، اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (آل عمران200).
أحيانًا يتساهل العاملي الفقيه، بما يناسب المقام، وما يتساوق مع كبرى الأهداف، وهي درء ضرر الاعتداء الخارجي؛ ففي مقال: أنّ العاملي، وقد قارب سِنّ الشيخوخة ، ظلّ يتناوب مع العلماء في حفظ سُور المدينة، وتشجيع المرابطين، وانّه مرّ على أحد المسالح ليلةً، فوجدهم يشتغلون بضرب الدفِّ واللهو، فنهاهم، ولمَّا عاد رآهم نائمين، فسأل رئيسهم، فقال: انّما يُوقظهم هذا الدّفُّ، فقال: “يا بَنِيَّ، دقّوا على طبيلتكم، دقُّوا، فإنّها عبادة”. (أعيان الشيعة 4/ 290)
طالما ترسّم في الوعي الاجتماعيّ الشيعيّ، أنّ الإمام عليّ هو صاحب المعجزات، بل هو الأكثر- بين أئمة أهل البيت- صدرت عنه الكرامات، فهو الملجأ الأول لذوي الحاجات، وإليه ترجع التوقيعات في إزالة الكروب وفرج الهموم، في حياته وبعد مماته؛ هذا المعنى الكاريزمي المتشبث بالرمز الدينيّ وما يصاحبه من حضور ميثولوجيّ في الوعي الاجتماعيّ، تمكن العاملي من توظيفه في شحذ الطاقات الدفاعية عن بيضة البلد، من تمثلاته أن الفارس الرمز خرج على صهوة جواده الأبيض شاهرا سيفه في وجه الأعداء؛ كم لهذه من دلالة في الصمود والمواجهة!؟
لماذا تسمية “مفتاح الكرامة”؟ وهو الذي يعدّ من أهم مصنفاته، حتى لقب به هو، والاكثر من هذا أن اضحت أسرته تلقب بـ “بيت مفتاح الكرامة” ودارهم الواقعة في آخر سوق العمارة، مجاور مسجد الأعرج.
أ ليس “مفتاح الكرامة” شرحا لقواعد العلامة الحلي ( 726/ 1326)؟، كما يفصح عنه العنوان؛ فهل هو توظيف لتناغم الجرس الموسيقي (السجع) المتبع في العنوانات بين لفظي: الكرامة والعلّامة؟؛ أم فيه دلالة سيمائية الى كتاب العلامة “منهاج الكرامة”، لموازاته له في حركاته وسكناته الجرسية، لقصدية منه في نيل الكرامة الدنيوية والأخروية نتيجة اتباع سنة أهل البيت ومنهاجهم الفقهي؟ هل هو ربط بين كتاب العلامة “منهاج الكرامة” ورد ابن تيمية (728/ 1328) عليه بكتاب “منهاج السنة النبوية”؟، وبين رمزية الجهاد وترسيمه في مخيال العاملي في مقاومة الوهابية أحفاد ابن تيمية؛ يبدو ان كتاب “مفتاح الكرامة” كان شغل العاملي الشاغل خلال سنيه العشر الأخيرة، وهي التي قضاها في إدارة أزمة التواجد الوهابي وهجماته على النجف الأشرف، فوضع عنوانه جامعا الدلالات العقدية في “كرامة” العلامة، والملامح التاريخية في الكرامة معنى المقاومة والشهادة، كما حمل في طياته الرؤى المستقبلية.
لعل الأخيرة تكمن في قوله: “إنّ الحماية والرعاية واجبة كفاية، وهي حماية لإمامكم، ومن بقي في مشهده من أخوانكم، لضعفٍ قعدوا به، أو مانعٍ لا يُقدر على رفعه، أو ترجيحٍ أخذ بضبْعِه، ظانًّا منه السلامة، وأنَّ القتلَ- دون سيده- ليس فيه ندامة… بل هو مفتاح الكرامة”. ثمة رمزية تمعن في تجليها- عندما أسفر الاجترار التاريخي بلبوس جديد عن هجمات الاعراب الوهابيين (داعش)- أن تبعتها فتوى “الجهاد الكفائي” للمرجع السيد علي السيستاني ” وتأسيس ” الحشد الشعبي” في (16 شعبان 1435/ 14 حزيران 2014)، وما قدمه الشعب العراقي بإزائها من شهداء، بأن المقاومة والشهادة هي مفتاح الكرامة.