انا الان بعمر تجاوز السبعين عاما بخمسة اعوام ، ومنها قضيت خمسة وخمسون عاما في الاعلام ، ولا زلتُ .. و معروف ان عين الاعلامي مرآة صافية تلتقط الغث والسمين من مسيرة الحياة ، وهذه المسيرة التي توجتها بحب الناس ولاسيما زملائي ، وحظيت خلالها بمواقع مهنية رفيعة ، وتوليت مسؤوليات ادارية عديدة ، تلألأت فيها عناقيد الضياء من احبة انقياء ، مثلما شابها نبات السوء من اشباه الرجال .. وفي ذاكرتي ، يتربع الانقياء على مصاطب الوجدان ، بثقة ومحبة وتقدير ، كون معدنهم نقي ، بعيد عن انكسارات الحياة ، فبقوا وتدا شامخا ، متحدين نفاق المنافقين ، وغدرهم ، وكذبهم ، من الذين تناسوا اليد البيضاء التي مدت اليهم ، فعملوا على نكران الجميل ، واتفقوا على بلورة تهم كيدية ، في خسة ودناءة ، لكن حكمة الزمن كانت لهم بالمرصاد ، حيث ظهر الحق ، وبانت خيوطهم السود تحت الشمس ، مكللة بازدراء المجتمع ..
ربما يسأل البعض : لماذا الاشارة الى هذه الحالة الانسانية الان ، فأجيب : عاد بي الزمن الى نحو ست سنوات .. كانت بغداد وعدد من المحافظات تئن من وطأة احداث تشرين المعروفة ، وكانت الدوائر الحكومية محاطة بحواجز ضخمة من الكونكريت ، وما ان لاح الانفراج النسبي ، حتى بدأت الدوائر والمؤسسات الحكومية مستعينة بأجهزة وأليات امانة بغداد ، والجهات الساندة بحملة لإزالة تلك الحواجز ، والرجل الذي اتحدث عنه ، سارع مع موظفيه بتعضيد جهود دوائر امانة بغداد ، برفع الحواجز عن دائرته السيادية ، تاركا موقعه كمدير عام في الخلف ، وكانت مبادرته ، دافعا ملموسا لإنجاز المهمة بوقت سريع ، لكن في اثناء تأديته واجب ازالة الحواجز ، وقع ما لم يكن بالحسبان ، حين تهاوى عمود من الحديد عليه ، تسبب في كسور ورضوض بليغة في جسمه ، ودفع الله ما كان اعظم ..
في حينها ، تأملت ما حدث ، وتساءلت : هل كان واجب هذا الانسان النبيل ، ان يرافق من هم مسؤولين عن واجب الازالة تلك ؟ اكيد لا .. فالرجل كما قلت هو بموقع مدير عام في دائرته ، لكن حرصه المهني ، دعاه ليكون في مقدمة الركب ، وهذا الموقف ليس الوحيد في خدمة دائرته ، فقد سبقتها مواقف كبيرة وكثيرة ، لعل من ابرزها سعيه البارز والمعروف ، في تهيئة الظروف ، لاستحصال موافقات الجهات العليا ، لأنشاء ابرز معلم معماري عراقي في تاريخ الوطن ، وايضا كانت بصمات يده ، هي الابهى في المؤتمرات التي كانت تعقدها مؤسسته التي احبها بشكل عجيب ..
وانا اتأمل مواقف هذا الرجل ، واتساءل : كم تسري سفينةُ حياتنا في بحارها إلى حيث لا ندري .. الرجل هو والانسانية ، توأم .. ولم نتحادث يوما، إلا ووجدتُ عنده طيبة ونيل وشجاعة ، بسعة فجر الصباح ، وقد نشرت مرة في صحيفة ” الزمان ” الدولية ما قاله لي يوما ، وانا في مكتبه : ” لا يهمني أن أكون في اعلى موقع .. قدر ما يهمني أن أعود للفراش في المساء ، وأنا أشعر أنني قمت بشيء مفيد لناسي ومجتمعي .. فضميري مقياس تقربي الى الباري ” ..
ولن انسى ، يوم كتبتُ له رسالة هاتفية سريعة ، بعد سماعي خبر تهاوي عمود من الحديد عليه ، ريثما ألملم حزني ، فإذا به يهاتفني ، مبتسما ، شاكرا اقدار رب العالمين ، غير اني سمعت في ثنايا صوته حزنا عميقا ، ربما من الالم الذي كان يصاحبه اثناء مهاتفته .
بعد ما قلت : هل كانت دائرته على مستوى المعدن النقي الذي يمتلكه .. لا ومليون لا.. مع الاسف .. كانت مواقف من اصبحوا اولي الامر الذين جاءت بهم الصدفة السوداء ، تحمل ضغينة ، لانهم كانوا صغارا امامه ، فهو رجل حقيقي تسبق أفعاله أقواله ، بالعكس منهم ، وهو يؤمن إن قوة الرجل تكمن في قلبه وهو الذي يجمع بين الرِقة والصلابة بذات الوقت ، حيث لا تكتمل انسانية الرجال إلّا بالعطف والخير وحب العطاء ، وهكذا الدنيا ، فيها تظهر معادن الرجال عند المواقف الصعبة ، ولا تُكشف المعادن الثمينة إلّا عند المواقف العظيمة … واخيرا .. لله درك دكتور صالح ماهود ، ابا حيدر الحبيب ، كم ظلمك من كنت عونا لهم ، وكم طالتك ، ظلما ، سهام رجال الظل في الاعلام ، وشخصيا كم فقدت من زملاء انطلت عليهم ادعاءات الخبث ضدك ، وضد د. مظهر محمد صالح ، واني لأعجب لصبرك العظيم ، ومؤكد ان من هذا الصبر ، بانت بذرة عودتك الى محبيك ، فقد تعلمنا جميعا ان نزرع الطيب ، لكن لا ندري متى سنحصد؟ وتَمشي بنا الحياة بدروبها ، ولا ندري إذا كنَا سنصل إلى نهاية الطريق ، أم لا ، وبالأمل ننتظر مسافرا ، ولعلَّه لن يعود ، ويأْتينا غائب ما كنّا نرتجي أن يعود ..
فرح بك وانا اراك على عهدك .. باسما ، حازما ، فالحياة امتحان ، وانت اهل لهذا الامتحان.