كنتُ في العشرين من عمري عندما عُرض مسلسل المصابيح الزرق على شاشة التلفزيون السوري ، و كُنت وقتها قد التحقت بالسنة الثانية بكلية الأدب العربيّ بجامعة تشرين في اللاذقية حيث أسكن مع عائلتي .
هناك اعتدت أن أتنفس الصباح بشرهٍ كلّ يوم مع لمعة الشمس الخجولة خلق الأفق ، أغلي البنّ بفرحٍ على شرفة دارنا حيث تطلّ على شاطئ الساحل الجنوبي لمدينتنا ، أراقب البحّارة أصحاب المراكب ، أراقب رحلتهم ألى قلب البحر كلّ صباح ، أسمع لهجتهم المحبّبة لمسمعي حينما يتكلمون بأصواتهم العالية ، أراقب شبكات الصيد التي يحملونها و أدعو لهم برزقٍ وفير من أسماك البحر . كُنت ألملم بعضاً من نفحات الموج أخبؤها في حقيبتي الجامعية و أمضي إلى محاضراتي اليوميّة ، و بحكم شغفي بعالم الأدب الذي أدمنت عليه منذ طفولتي ، اعتدتُ القراءة بحشريّة جمّة ، اعتدت السكن بمكتبة الجامعة ساعات طوال كنتُ نسيتُ نفسها فيها مراراً ليذّكرني بنفسي هاتفٌ من البيت .
كنتُ أغرق هناك تارة بين صفحات حيدر حيدر و الماغوط ، و أمين معلوف ، و جبران خليل جبران ، و كثيراً ما كنتُ أغرق بين أحلامي الممدّدة بين شريط لواء الاسكندرون و بيت جدّي في قرية ( السويدية ) عندما التقطت رواية ( بقايا صور ) ، و أسأل نفسي كلّ مساء ما شكلُ ( السويدية ) في اللواء ، ما طعمُ التفاح هناك ؟ و ماذا حلّ بأشجار الزيتون التي زرعها جدي مع أبيه ؟ و هل قطع الأتراك جذع الشجرة التي كتب جدي وأصدقائه عليها أسماء محبوباتهم ؟
هناك ذهبتُ بأحلامي و سُعدتُ بها ، و عقدت وعداً بيني و بين الأرض لن أخبره لأحد .
شدّني غلافٌ رسمت عليه أبواب البيوت ، لأعرف أنّ كاتب الرواية هذه لم يمكن يملك باباً ، نحن نرسم أحلامنا التي لم تتحقق ، نعوّض عمّا ينقصنا على صفحات الورق ، نرسم باباً لنُشعِر أنفسنا أننا ملكنا البيت و الوطن .
( بقايا صور ) هو اسم الرواية التي أمسكت بها و قرأتُ عليها اسم الكاتب ( حنا مينه ) ابن اللواء الأصليّ والبحّار الواقعيّ الشجاع ، بقايا صور و هي الجزء الأول من ثلاثية السيرة الذاتية لحنّا ، حيث جعل نفسه الشخصية المحورية في العمل و تحدّث عن حنّا الطفل ، ليتفاجأ القارئ حياة الطفل خالية من حياة الأطفال ، فتكلّم بواقعيّة صادقة حدّ الألم .
فقر و عوز و جوع صبغ حنا بإنسانية فائضة صنعت شخصيته لأربع و تسعين سنة عاشها ، حيث تكلّم فيها عن مكان ولادته في إحدى قرى مدينتي اللاذقية ليفتّح عينيه متجوّلاً على أقدامه الغضّة باحثاً عن مأوى و فتات خبز يملي معدة الطفل الصغيره مع أخواته البنات الثلاث ، متألّماً على أختيه اللتين عملتا خادمتين في المدينة فقال :” العربة ليست وطناً ، و الصفصاف لا ينمو في الصحراء ” .
( بقايا صور ) تعكس حياة الجماعة بلسان الفرد ، و تعكس قساوة الواقع وطعم التهميش و الحرمان و التشرّد و عدم الاستقرار النفسي و الجسدي بمشاعر جيّاشة ممزوجة بالحزن و الأسى حتى شعرتُ أنني كنت معهم مع كلّ ليلة قضوها تحت التينة خائفين ، فتلمّستُ ضعف الحال و قلة الحيلة . ومن بقايا صور عبرتُ إلى ( المستنقع ) و التي كانت الجزء الثانية من الثلاثية ، حيث دارت أحداثها بحيّ من أحياء لواء الاسكندرونة يُدعى ( الصاز ) بالتركية و يعني المستنقع بالعربية ، وكانت تدور أحداثها بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن قرر الانتداب الفرنسيّ متواطئاً مع دول أخرى أن يعطي اللواء لتركيا ، فقال حنّا واصفاً هذا في المستنقع :” و هكذا غدا اللواء مسرحاً لصراع سياسي ، و كُتب علينا نحن سكّانه أن نشهد تلك الأيّام العاصفة التي كُنّا نخرج فيها من الصّباح للمساء بمظاهرات تنادي بعروبة اللواء و تندّد بالمؤامرات الخارجيّة “.
عندما قرأتُ( القطاف ) شعرتُ بفرحة حنّا و إخوته عندما طبخة لهم الأم ( المجدّرة ) وهي الأكلة الشعبية الرخيصة مكوناتها برغل و عدس و قليل من الزيت ، فجعتُ معهم عندما جاعوا ، و تعبتُ معهم من قطاف الزيتون ، و أصابتني حمّى جراء ضربة شمس قاسية أثناء العمل معهم في البستان .
كانت مزارع الزيتون هي محور العمل هذه المرة في الجزء الثالث من سيرته الذاتية ، و عند قراءتي القطاف عرفتُ معنى أن تُخلق رجلاً بلا أحلام و آمال ، أن تحفظ أزقّة شوارع المدن الغريبة قبل أن تحفظ زوايا حقل عائلتك ، أنّ تؤمّ أبواب البيوت مستجدياً نوم ليلة تحت السقف لأنك لا تملك بيتاً و تنام مع المئات من المهجرين في السّاحات و الشوارع ، أن تحلم بلقمة الخبز و تنسى أن تحلم بشهادة نجاحك في المدرسة ، و عندما اعتاد حنّا أن يرافق الأفاعي في بستان الزيتون بلا أبه أو خوف كُنتُ أنا معه رُغم وعلي الشديد من ذكر اسمها ، لكنني معه شعرتُ بلا مبالاة كتلك التي شعرها هو تماما .
كانت الرواية ذات الغلاف الأخضر كناية عن لون الزيتون السوري في السّاحل ، علامة حقيقية في مسيرتي الثقافية و العلميّة .
عام ٢٠١٢ و في غمار سباق المسلسلات الرمضانية بينما كنت أغرق بمحاضرات الشعر الأمويّ و النثر الإسلاميّ و تاريخ الأدب العربيّ تحضيراً لامتحانات السنة الثانية من الجامعة ، عندما شدّت مسامعي كلمات أغنية أطربتني حين قال المغنّي ” من شرفة هالدني طلبت ع الحي العتيق ، رفرف زمان الولدني و هالشّال لوّح ع الطريق ” ، ليأخذني فضولي إلى شاشة التلفاز لقراءة تفاصيلها ، و أُفاجأ بأنّها شارة مسلسل عنوانه ( المصابيح الزرق ) و هو مأخوذ من رواية لمينه بذات الاسم ، كان المسلسل بإخراج سوريّ عظيم تجلّى احساسه الفنيّ بكلّ تفاصيل الكاتب الحقيقي للرواية ، حتّى شعرتُ أثناء مشاهدتي الحلقة الأولى إنّ مينه هو ذاته من أخرج الامل التلفزيونيّ .
أرهقتني تعلّقاً تلك التفاصيل السّاحليّة التي فاضت بها الحلقة الأولى من المسلسل ، و أتعبتني تفاصيل الجوع و العوز التي أصرّ مخرج العمل ( فهد ميري ) على إبرازها بوضوح في كلّ زاوية من زوايا البيت العربيّ القديم الذي تسكنه عدّة عائلات سورية اختلفت بالطباع و المنطق و الدين ، و جمعهم اثنان لا ثالث لهما ( الفقر و حبّ الوطن ) .
و بحبّ شديدٍ و امتنان جليل لمسيرة مينه قررتُ أن أجعل ابن اللواء و البحر نقطة فاصلة بمسيرتي الدراسيّة ، و أذكر بدقّة عندما أحضرت لنا أُستاذة النّقد في جامعتي بموسكو استمارات مطبوعة ، و قالت لنا أملؤوا بياناتكم من أجل تسجيل عناوين أطروحاتكم للماجستير ، و بدون أيّ تردّد او تفكير كتبتُ ( The manifestations of humanism in the works of Hanna Minh and Maxim Gorky ) ، و عندنا رويتُ ما حدث و ما قررتُ دراسته لإحدى المعارف متخصصي الأدب في موسكو قال لي ساخراً ” ومن سيهتم بحنّا مينه الآن ! اكتبي عن الأدب الروسي و ابتعدي عن حنا مينه ، الكثيرون كتبوا عنه أبحاثاً و دراسات و لم يفهمه أحد منهم ، حنّا صعب كتير ” ، فأجبته في سرّي ” جاهل أنت برتبة دكتور” .
عندما سئل نجيب محفوظ شيخ الرواية العربيّة ، و صاحب ( أولاد حارتنا ) ، من ترشّح من الكتّاب العرب لنيل نوبّل من بعدك ، قال بلا تردّد ” حنا مينه “.
كان الصّراع الطبقي مسرح حنّا مينه في الأدب و كانت الواقعيّة لعبته ، فكتب عن معاناة الناس اليوميّة ، و جسّد مرارة الطفولة في أدبه معتبرتً أوجاعه ملهمةً لرواياته ، جعل البحر بطلاً في أغلب رواياته فتكلّم عنه و وصف حياة البحّارة على المراكب و ما يحيطها من أخطار فكان البحر منبع إلهامه قائلاً “إذا نادوا يا بحر: أجبت أنا. … البحر أنا فيه، ولدت وفيه أرغب أن أموت” .
كيف لا و قد نشر عام ١٩٧٦قصته القصيرة ( على الأكياس ) التي كتبها على الأكياس عندما كان يعمل حمّالاً للأكياس على المراكب و السّفن ، كما كانت أولى رواياته ( المصابيح الزرق ) التي صورت حياة الفقراء أثناء الحرب العالمية الثانية في اللاذقية مهجة البحر الأبيض المتوسط و لؤلؤته ، وجاء اسمها المصابيح الزرق من عادة طلاء المصابيح باللون الأزرق بغية تضليل طيران العدو لتوحي بمنظر المنائر البعيدة محاطة بالضباب ، فلم يقف حنا عند تصوير فكرة ( أثر الحرب في الناس ) ، بل صوّر حياةً كاملةً بكلّ تفاصيلها كانت الحرب جزءاً من يومياتها و ليست كلّها ، فكان التركيز الأكبر في العمل على حياة الشخوص اليوميّة ، ومكافحتهم في سبيل العيش كلّ على طريقته ، فقد تفرّقوا في أساليب الحياة و تجمّعوا على فكرة النضال و المقاومة .
فارس البطل الرئيسي في العمل شاب عشرينيّ ثائر على كافة أنواع الظلم و الاستعمار تتجمّع حوله مجموعة العائلات الفقيرة ، فهناك مريم السوداء و زوجها نايف الفحل ، و أم صقر خادمة البيوت و ابنها العاطل عن العمل و غيرهم و غيرهم .
قال ” او خبروني بكتابة شاهد على قبري لقلتُ لهم اكتبوا ” المراة .. البحر .. و ظمأ لا يرتو ” ، وقال عن فقره ” كنتُ أكيد الكلب لأنّ اه مأوى ” ، فكان حنّا مينه أحد أهم رموز الرواية العربية ، و أهمها على الإطلاق في سورية ، و انتشرت أعماله عالمياً و تُرجم بعضها إلى الروسية و الصينية و عدّة لغات، كما ساهم بتأسيس رابطة الكتّاب السوريين ، و اتّحاد الكتّاب العرب عام ١٩٦٩ ، بعد أن عمل في جريدة الإنشاء الدمشقيّة ثمّ صار رئيس تحريرها ، و كتب القصص القصيرة و المسرحيّات و الروايات التي زادت عن الأربعين ، و تحوّل كثير منها إلى نصوص سينمائية و أعمال تلفزيونيّة من أبرزها الشراع و العاصفة ، الشمس في يوم غائم ، شرف قاطع طريق ، المغامرة الأخيرة ، المرأة ذات الثوب الأسود ، حمامة زرقاء في السحب ، حكاية بحار ، الثلج يأتي من النافذة ، الياطر ، الأبنوسة البيضاء ، الولّاعة ، المغامرة الأخيرة و غيرها …
٢١ أغسطس ١٩١٨ ذاع في دمشق خبر وفاة كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين عن ٩٤ عاماً قضاها بين أقلامه و أوراق رواياته و ذكرياته البحريّة ، بعد أن كتب وصيّة منذ ١٠ سنوات بخطّ يده طالب فيها بعدم نشر خبر وفاته عند حصولها ” عندما ألفظ النفس الأخير ، آمل و إشدّد على هذه الكلمة ، ألّا يذاع خبر موتي في أيّة وسيلة إعلاميّة ، فقد كنتُ بسيطاً في حياتي و أرغب أن أكون بسيطاً في مماتي ” .