19 ديسمبر، 2024 12:22 ص

تعذر الإنسان في الوصول إلى مقاصد القرآن الكريم على الوجه الكامل من السرد المتقن الذي يرتبط أوله بآخره هو السبب في تكرار القصص والمواعظ في متفرقات الكتاب المبين وهذا ما أشكل على عدد من الباحثين في هذا المجال حتى ذهب بهم الظن إلى أن القرآن لا يكرر بل يأتي كل مرة بنوع مختلف من القصص أو ما يطرح من المواعظ، وهذا النهج لا يتفق مع الغايات المرادة من الكلام البليغ باعتبار أن الواقع يجانب ما ذهب إليه الذين أشاروا إلى أسباب التكرار وهذا ظاهر في الآيات التي يبين فيها تعالى مجموعة من الحكم والمواعظ على الرغم من اختلاف الموارد التي ذكرت فيها وبنفس اللفظ، وكذلك بيان علمه بخفايا النفس البشرية وخلق الإنسان وصولاً إلى ما تكنه الصدور أوما يترتب على ذلك من بيان كما  في ذكر الأسماء والصفات، إلى آخر ما يجده الإنسان الباحث في هذا الأمر. ومن جهة ثانية يكون التكرار ملازماً إلى مراحل خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار بالإضافة إلى عناوين أخرى أهمها تسلية النبي (ص) والترغيب والترهيب الذي يبين الحق من خلاله صفات الجنة وصولاً إلى نزع الغل من القلوب أو ما يقابله في ذكر النار وتخاصم أهلها، ولهذا التكرار فوائد عظيمة أهمها توجه النفس البشرية ورجوعها إلى الله تعالى وهذا هو المنهج المتبع في التشريع، وقد اشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات 55. وكذا قوله: (انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون) الأنعام 46. وقد كرر هذا المعنى في آيات كثيرة.
 
 وعلى الوجه المقابل لهذا الطرح يظهر أن جميع السنن والأسباب التي تؤثر في رحلة  الإنسان العاجلة لا تحتاج إلى بيان باعتبار أن الفروقات الناتجة عن العلل الكونية لا يمكن أن يطرأ عليها التغيير اللاحق من حياة الإنسان الذي لا يبتعد كثيراً عن المتطلبات الآنية المتفرعة على ملكاته والتي يستطيع من خلالها أن يتحكم بجميع الأسباب التي تظهر تباعاً في رحلته الأرضية، أما في حالة انسلاخه عن تلك الأسباب فههنا تتكفل السنن والنظم في اختيار نوعية التحكم في هذا الإنسان نظراً إلى ابتعاده عن الخطط المعرفية التي أخرجته عن الطرق الوسطى التي تتناسب مع القابل الذي وهبه إياه الحق سبحانه. ومن هنا فإن البيان القرآني يرسم تلك التجليات بأبهى الصور التي تنظم المراحل الحياتية دون أن يكون للظلم أي دور فيها، كما قال تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) الكهف 7. وكذا قوله: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب) آل عمران 14. وعند النظر في هذه السنن يتضح أن الغاية الأسمى منها لا تفارق الإذن الإلهي الموضوع لهذه القاعدة، كما بين تعالى ذلك في الكبرى بقوله: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) العنكبوت 2.
 
وعند تأمل مصاديق هذا الأمر تظهر هناك الكثير من الأمثلة التي تبين انحراف الإنسان بسبب اتباعه لشهواته ورغباته بواسطة الطرق التي تخالف التشريع، ومن هنا فقد لا يحصل على الفرص الإضافية التي تمهد له الرجوع إلى طريق الحق سبحانه، ولهذا أشار جل شأنه إلى أحد هذه المصاديق بقوله: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين) الأعراف 175. وبناءً على هذا يمكن القول إن سعي الإنسان في هذه الأرض لا يخرج عن المقادير الممكنة التي تستمد أفعالها من خلال السبل الصحيحة التي ترتبط مباشرة بالقانون الإلهي باعتبار أن هذا القانون يكفل للإنسان تقييد رغباته الناتجة عن إرادته للأمور العاجلة دون أن يجعل لها الأصالة التي تحبب إليها المغريات الزائلة وكل ما من شأنه أن يدعو الإنسان إلى السبل االجائرة، وقد أشار سبحانه إلى الذين يسعون في الأرض نحو الجهة المقابلة بقوله: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً) الإسراء 18.  
 وأنت خبير من أن هذه الإرادة لا يظهر فيها الإطلاق فهي مقيدة بالمشيئة واختصاص النوع، وهذا من الأدلة التي تبين أن الله تعالى لا يجري الأعمال أو العطاء على المنح الجزافية باعتبار أن المراحل التكوينية هي التي تؤثر في الأفعال التي يقوم بها الإنسان ولهذا فإن الرغبات العاجلة تكون أقرب إلى الواسطة التي يصل من خلالها إلى نتائج أكثر بعداً عن التطبيقات المنهجية التي يكون الجزاء الظاهر فيها لا يخرج عن الأسباب المقيدة التي يريد الإنسان أن يحتفظ بالجزء الأكبر منها إلا أن هذا قد لا يتفق مع التقييد الذي أشار إليه تعالى في قوله “لمن نريد” فتأمل.
 
فإن قيل: هل يجري هذا الترتيب في الأنبياء؟ أقول: الآية ناظرة للجميع إلا أن الأنبياء لا يمكن أن يركنوا إلى الأرض وملذاتها لأن مهمتهم أسمى من ذلك وخير دليل على هذا ما ذكر في القرآن الكريم من أن الاختبارات التي تعرضوا لها تجري حسب النوعية الملازمة في رحلتهم مع أقوامهم والتي من أهم مصاديقها التكذيب أو القتل، كما بين تعالى ذلك بقوله: (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) البقرة 87. وفي هذا الاختبار من الحكمة ما لا يخفى على المتأمل باعتبار أن الحجة البالغة لا تقوم إلا بعد حصول هذا الاختبار، ومن هنا تظهر النكتة في قوله تعالى: (قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام 149. وعلى الرغم من هذه الابتلاءات التي تعرض لها الأنبياء إلا أنهم صبروا وجاهدوا من أجل تبليغ الدعوة التي كلفوا بها، ولهذا خاطب الله تعالى النبي (ص) بقوله: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم) الأحقاف 35. وفي هذه الآية تسلية للنبي (ص) باعتبار أن ما يتعرض له قد تعرض له الأنبياء من قبل، وهذه من السنن التي لا تتخلف وربما تجري مصاديقها في الدعاة إلى الله تعالى في كل زمان ومكان وأنت خبير من أن التجديد كثيراً ما يواجه بالرفض من قبل أصحاب الباطل الذين أشرنا إليهم في مقدمة البحث كما مر عليك من حبهم للدنيا والركون إلى الأرض. وما يقابل ذلك قد ظهر جلياً في الجهة التي يتبعها الأنبياء والمتمثلة في أروع مصاديقها التي ذكرها الله تعالى في قوله: (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) ص 46. وللمفسرين في الآية آراء:
 
الرأي الأول: قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: جملة (إنا أخلصناهم) علة للأمر بذكرهم لأن ذكرهم يكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير و (أخلصناهم) جعلناهم خالصين فالهمزة للتعدية، أي طهرناهم من درن النفوس فصارت نفوسهم تقية من العيوب العارضة للبشر، وهذا الإخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوءة. والعصمة: قوة يجعلها الله في نفس النبي تصرفه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمداً أو سهواً وعما هو موجب للنفرة والاستصغار عند أهل العقول الراجحة من أمة عصره، وأركان العصمة أربعة:

الأول: خاصية للنفس يخلقها الله تعالى تقتضي ملكة مانعة من العصيان.

الثاني: حصول العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات. انتهى ومن أراد الأركان الأخرى فليراجع تفسير التحرير والتنوير.

 
الرأي الثاني: يقول أبو حيان في البحر المحيط: (أخلصناهم) جعلناهم لنا خالصين وخالصة، يحتمل وهو الأظهر أن يكون اسم فاعل عبر به عن مزية أو رتبة أو خصلة خالصة لا شوب فيها، ويحتمل أن يكون مصدراً كالعاقبة فيكون قد حذف منه الفاعل أي أخلصناهم بأن أخلصوا ذكرى الدار، فيكون ذكرى مفعولاً، أو بأن أخلصنا لهم ذكرى الدار، أو يكون الفاعل ذكرى أي بأن خلصت لهم ذكرى الدار، والدار في كل وجه من موضع نصب بذكرى، وذكرى مصدر والدار دار الآخرة. انتهى موضع الحاجة.
 
الرأي الثالث: ذهب الطبرسي في مجمع البيان إلى أن قوله تعالى: (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) أي جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى الدار والخالصة بمعنى الخلوص والذكرى بمعنى التذكير، أي خلص لهم تذكير الدار وهو أنهم كانوا يتذكرونها بالتأهب لها ويزهدون في الدنيا كما هو عادة الأنبياء وقيل المراد بالدار الدنيا عن الجبائي وأبي مسلم، أي خصصناهم بالذكر في الأعقاب من بين أهل الدنيا. انتهى وما نقله عن أبي مسلم والجبائي رد من قبل كثير من المفسرين. فإن قيل: ماذا تعني الباء في قوله: (بخالصة) أقول: الباء سببية أي أخلصناهم بسبب هذه الخصلة، كما في قوله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم) آل عمران 159. أي بسبب رحمة من الله.. وقد ذهب كثير من المفسرين إلى هذا الوجه من بينهم الزمخشري في الكشاف.