22 ديسمبر، 2024 7:49 م

لم أكنْ مصدقاً للحكاية برمتها، لكنني ومن فرط اليأس أصبحت أتتبع ما يدور في أفواه الناس ولا استبعد حصول أيِّ شيءٍ لغرابته، وكذلك لغرابة العالم المحيط، لم يقدر أبو حسين عاقبة الرؤيا التي رآها البارحة، ولم يكن مستعداً لتقدير نتائجها الخطرة، استيقظ صباحا وهو مهموم ، ولم ينبس بابنة شفة، تناول فطوره الصباحي بصعوبة، وجال ببصره في البيت وكأنه يفتش عن شيء مفقود، أطال الوقوف أمام غرفة نومه، وبعد تفكير وتمحيص ووجل قرر الذهاب الى بيت (أبو سالم)، طرق الباب فخرج ابنهم الكبير واستقبله بكل حفاوة، سأله أبو حسين عن والده، فقال: انه نائم وهذه أول مرة يفعلها، انه لا يتأخر بالنوم لهذه الساعة، هل تحب أن أوقظه لك، رفض أبو حسين الفكرة، ولكنه قص على الابن حلمه المزعج: لقد رأيت ليلة البارحة رؤيا أحزنتني، وأنا جئتكم الآن بخصوصها لأطمئن على صحة والدكم، يا بني جاءني ملك الموت، وسألني عن محل سكن أبيك، فهديته الى بيتكم بعد أن أصابني الهلع، انتهى من قص رؤياه وعاد مسرعاً الى بيته، وما هي إلا لحظات حتى تعالى الصراخ من بيت أبي سالم، هرول باتجاه الصوت ، انه في بيت أبي سالم، اقترب من ابنه الذي كان يبكي بصوت عالٍ، ما الأمر؟ لقد أيقظت والدي فوجدته قد فارق الحياة، حضر مجلس العزاء بأيامه الثلاثة، ولم يدر بخلده انه سيكون مساعداً لملك الموت بقبض روح أبي سالم، كان مستبعداً للفكرة تماماً، لكنه انتبه على صوت طرق الباب بقوة، فخرج ليرى جلية الأمر، وإذا بوفد عشائري كبير يتقدمهم سالم ابن صديقه الذي رحل للتو من الحياة، دخل الوفد الى بيت أبي حسين، وبعد المقدمات الكلامية المشهورة، من أن القوم أبناء حمولة وأنهم لا يظلمون أحداً، وان الحق يجب أن يعمل به وهذه سنة العشائر، وانطلقت المفاجأة من فم احدهم : ( عمي ابو حسين، عليك ان تجلب عمامك وتحول لدفع دية المقتول ابو سالم، فلولا انك أرشدت ملك الموت الى بيته لما كان قد قبض روحه).

تفاجأ الرجل وحاول أن يتذرع بأقوال عديدة للصالحين والأنبياء وآيات من القرآن في أن الموت حق، وانه خُطّ على بني آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، لكن الوفد كان مصراً على إنها جريمة قتل وعليه ان يجلب (عمامه) لدفع دية المقتول، قطعوا الطرق ونصبوا السرادق الكبيرة، وراحت القدور تغلي ، واجتمعت العشيرتان مع تقديم السادة من آل الرسول، ووضع كل منهم ( حظه وبخته) أمامه وراح يحكي الحكايات التي تمتلك دلالات على دفع الدية من قبل عشيرة الميت، فيما انبرى أبناء عشيرة (أبو حسين) إلى سياق آخر، الجميع يعرف أن الأمر لا يعدو أن يكون سوى سباقٍ بالكلمات، ويؤمنون أن الحقوق تحتاج إلى أفواه: ( الحكوك ينراد الها حلوك)، في هذا الوقت بالذات صارت العشائر معروفة بلباقة شيوخها، وأنهم قادرون على الحصول على المغانم في جلسات كهذه حتى إنْ كانوا مع الباطل، انتهت الجلسة بدفع دية القتيل الذي صادرته رؤيا، وبدأت العشيرة بجمع الأموال من أفرادها أمام استهجانهم واستغرابهم لما وصلت إليه الأمور، عقب أبو حسين على اعتراض بعض أفراد العشيرة، هذا هو البلد الذي نعيش فيه وعلينا تقبل الأمر مهما كانت تبعاته، نحن نرتدي العقال منذ زمان طويل وارتداه قبلنا آباؤنا، وهذه ضريبة ندفعها من أموالنا في حين دفع الكثيرون دماءهم ضريبة لما وصلت إليه الحال، سنجمع العشرين مليوناً ونبعثها لهم لنقطع دابر هذه الحكاية، ليكن فنحن ندفع ديةَ رجلٍ ميتٍ وهذه سابقة خطرة.