18 ديسمبر، 2024 7:42 م

دمشق و فتنتها في عيون الشعراء العرب

دمشق و فتنتها في عيون الشعراء العرب

دمشق كعبة المثقّفين و الفنانيين العرب و محطّ رحالهم ، عاصمة الدولة الأموية و أجمل بلدان العالم ، يُطلق عليها الآراميون درمسق ، و تعني في الهيروغليفيّة الأرض المزهرة ، عرفها العالم كلّه بمدينة الياسمين نسبة لعطرها الذي فاح أرجاء العالم .
ريحانة الدّنيا التي تغنّى بها العربيّ و الأعجمي ، وصدق من قال قديماً ” من يشرب من مياه الشام سيقع في حبّها إلى الأبد ، وسيعود إليها مهما بَعُد ” .
تملّك حبّ دمشق أفئدة الشّعراء العرب منذ القديم ، فنثروه شعراً فاح في قصائدهم و دواوينهم الأدبيّة .
نرى أبو نواس يتغنّى بالغوطة وهي حديقة دمشق الكبرى و أجمل بساتينها ، فيقول :
يؤمّمن أرض الغوطتين كأنّما اها عند أهل الغوطتين نذور
أمّا أبا تمّام فيكتبه شعره متغنيّاً ببطولات أبناء الشام الذين واجهوا الاعتداءات على مرّ العصور بكلّ صلابة و قوّة :
لولا حدائقها و أنّي لا أرى عرشاً هناك ظننتها بلقيسا
و أرى الزّمان غدا عليك بوجهه جذلان بسّاماً وكان عبوسا
قد بوركت الك البطون و قد سمت تلك الظهور و قدّست تقديسا
و يكملُ البحتريّ لوحة حبّه لدمشق واصفاً محاسنها كما يصف العاشق محاسن محبوبته و تفاصيلها :
أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها وقد وفى لك مطريها بما وعدا
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ مستحسن و زمانٍ يشبه البلدا.
كما تفاخر و تباهى أبناء الشام بنسبهم شعراً ، فأجادوا في الفخر و برعوا ، فها هو محمد كرد علي يتغنّى بنقاء زهرة الفلّ في دمشق ، مُعتبراً أنّ الحبّ أوّله دمشق ، فيقول :
الفلّ يبدأ من دمشق بياضه و بعطرها تتطيّب الأطياب
و الحبّ يبدأ من دمشق فأعلنت عبدوا الجمال و ذوّبوه و ذابوا
فالدّهر يبدأ من دمشق و عندما تبقى اللّغات و تحفظ الأنساب
و دمشق تُعطي للعروبة شكلها و بأرضها تتشكّل الأحقاب .
أمّا الشّاعر السوري شفيق جبري يرحّب بأمير الشّعراء أحمد شوقي بزيارته لدمشق عام 1925 على طريقته الشعريّة معتبراً أنّ بين دمشق و القاهرة علاقة حبّ أبديّة تستدعي أن تبذُل دمشق دماءها فداءاً لأرض مصر إذا ما أصابها مكروه ، فيقول :
و إذا الشّدائد بالكنانة أحدقت وثبت دمشق فقطّعت أوصالها
لو تشتكي دمشق أذى بشمالها بترت ربوع الغوطتين شامها
إنّ العروبة في الشّآم تآصلت كرّ اللّيالي ما يطيق نزالها
ومن جديد يرحّب شفيق جبري بصديقه حافظ ابراهيم شاعر النيل بزيارته لدمشق عام ١٩٢٩ ، مؤكّداً من جديد على وحدة الآلام الدمشقيّة القاهريّة ، فدموع النيل لم تنفصل عن دموع بردى يوماً :
إذا بكت جنبات النّيل من ألمٍ بكت دمشق بدمع منه هتانٍ
أواصر ببيان العرب محكمة النيل و الشام في الآلام صنوان
أمّا خير الدّين الزّركلي الدمشقيّ الأصيل ينحت قصيدته الأشهر ( أنا من دمشق ) مصرّحاً بنسبه الدمشقي بأدبيّة شعريّة فيقول :
قالت أَمِنْ بطماء مكة جارنا ؟ قلتُ : الهناء لمن دعوت بجارك
أنا من دمشق و قد وُلدتُ بغيرها و سكنتُ أُخرى ، و الحنين لدارك .
نزار قبّاني الذي وصلت رائحة الشام بقصيدته بلاد السّند و الهند ، فعرف العالم كلّه شجرة النارنج و الحبق و الطّرخون ، معتبراً أنّ الحبّ له عاصمة واحدة في العالم لا ثاني لها ، وهي دمشق .
فيقول في قصيدته الشّامية :

هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ

إنّي أحبُّ وبعـضُ الحـبِّ ذبّاحُ

أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي

لسـالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ

لو فتحـتُم شراييني بمديتكـم

سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
أمّا محمد البزم فيتغّى ببردى و ببساتين الغوطة التي تحيط به ، فيراها ريحانة الدنيا :
ريحانة الدنيا وظلّ يفيمها من قبل مولد يعرب و تمودا
أخت الخلود وما الخلود مفارق برداك ما عشقتُ الأُناس خلودا
كما كانت لعلاقة الحبّ الأبدية بين القاهرة و دمشق جزء كبير من اهتمام الشّعراء ، فشكلت سورية و مصر عنواناً للمحبّة على مرّ العصور ، وهذا ما قاله حافظ ابراهيم :
لمصر أم لربوع الشّام تنتسب هنا العُلا و هناك المجد والحسب
ركنان للشرق لا زالت ربوعها قلب الهلال عليها خافق يجب
إذا ألمّت بوادي النيل نازلة بانت لها راسيات الشّام تضطرب
أحمد شوقي مُغرَم بجمال دمشق و أهلها ، فيصف جمال الطبيعة و الناس فيها ، معبّراً عن ولعه بالسّحر الذي شاهده بدمشق ، واصفاً إيّاها بجنّة الله على الأرض :
آمن بالله واستثنيت جنته دمشق : روح و جنّات و ريحان
لولا دمشق لما كانت طليطلة و لا زهت ببني العبّاس بغدان
قُم ناج جلّق و أنشِد رسم من باتوا فقد مضى على الرسم أحداث وأزمان
و الجواهريّ شاعر العراق الأكبر يلعب على قافيته بعد أن ملأ فيضه من عشق الشّام ، فطافت أحاسيسه ملء الحروف و القوافي مُغرّداً قصيدته الشّهيدة ( دمشق يا جبهة المجد ) :
شممت تربك لا زُلفى ولا مُلقى و سرتُ قصدك لا حبّاً و لا منفى
وما وجدتُ إلى لُقياك مُنعطفا إلّا إليك ولا ألفيت مفترقا
كنت الطريق إلى هاو تنازعه نفس تسدّ عليه دونها الطّرقا
و سرت قصدك لا كالمشتهي أبداً لكن كمن يشتهي وجه من عشق
ولا يتوقّف حبّ العراقيّ لدمشق عند الجواهري ، فها هو أحمد الصّافي العراقيّ النّجفيّ يغازل دمشق بعد أن وجدها وطناً ثانٍ ، و هذا ليس بغريب على دمشق التي كانت و ما زالت وطناً لكلّ العرب ، فقال في قصيدته دمشق :
أتيتُ جلّق مجتازاً على عجل فأعجبتني حتى اخترتها وطناً
لا يبرح الحسن يوماً عن مرابعها كأنّما الحسن من قدم بها افتتنا
أيقنتُ أنّي من أهلِ الجّنان ففي دمشق أسكن جنّات تفيض هنا
عجبتُ ممّن أتاها كيف يبرحها فهل يرى في دمشق عن سواها غنى؟
و من المهجر يحاكي الياس فرحات دمشق بعد انتهاء زيارته لها عام 1958 فيقول :
جدّدي يا دمشقُ أفراح الشّباب و استمدّي البشر من هذي الروابي
أمّا إيليا أبو ماضي يتغزّل بحسنها و بهائها ، فيقول في قصيدة( جلّق الفيحاء ) :
ما جلّق الفيحاء سوى أنشودة الله غنّاها فجنّ بها الورى .
و أختتم هذه الدرّاسة بالبيت الشعريّ الأقرب لقلبي ، الذي أراه يختصر كلّ ما قيل في عشق دمشق ، عندما تغزّل سعيد عقل بتاريخ شامة الدّنيا و كبريائها و عزّتها و شموخها قائلاً :
قرأتُ مجدك في قلبي و في الكتب شآم ما المجدُ ؟ أنتِ المجد لم يغبِ.