منذ ان تأسست الدولة العراقية والى يومنا هذا، والشعب العراقي يذبح بدمٍ بارد، بآلات وطرق مختلفة ومتعددة، بإختلاف الزمان والمكان، فتارةً يذبح بيد الإحتلال, وتارة بسلطة الحكام, واخرى بآلة الإرهاب، والعالم بأسره يشاهد عن كثب ما يجري له، وهو ملتزم بالصمت ولا يحرك ساكن، مجازر تلو المجازر، (قتل, حرق, دفن الأحياء, تعذيب, تهجير) والكثير من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، أصبحنا نخجل من عروبيتنا التي اضحت هي الآلة والوسيلة والمال الذي يذبحنا بوضح النهار.
إن غالبية الدول المجاورة والبعيدة جعلت من العراق ساحة حرب متبادلة, وميدان لتصفية الحسابات, ومحط للأطماع والتنافس، ولا يعرف الشعب العراقي أسباب ذلك، هل هو النفط الذي يملأ الأرض ولم يملأ بطونهم خبز؟ أم هو موقعهم الجغرافي الذي لم يجنوا منه غير الحروب والدماء والتقتيل؟ أم هي لعنة من السماء؟ ماذا يفعلون هل عليهم الصبر وتحمل هذا الأمر؟ ام يهجرون بلادهم الى أقاصي العالم، ليكونوا عبيداً لتلك الدول، التي فقدت إنسانيتها وهي الآصرة الوحيدة التي تجمع شعوب العالم.
إن العملية الإرهابية التي حدثت في مطعم (فدك السياحي)، الواقع على الطريق السريع لمحافظة ذي قار، التي طالت الأبرياء العزل، من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، الذين لا يملكون حولاً ولا قوةً، ذبحوا بدم بارد على قارعة الطريق، من قبل مجرمين أُنتُزِعت من قلوبهم الرحمة والانسانية، ليحل محلها العنف والإجرام الذي لا نظير له.
لن يستطيع احد ان يتصور الموقف، أو يتخيل الأحداث التي جرت ظهيرة يوم الخميس، بعد نداء المؤذن لصلاة الظهر، فالأقلام عاجزة عن وصف ما جرى، فلا يمكن لأحد ان يرسم في مخيلته إن إمرأةً تحتضن ولدها الرضيع بشدة لتغلق فمه بصدرها, وتحبس أنفاسه بين أضلاعها, لكي لا يسمع الإرهابيين أنفاسه فيعمدون الى قتله، فتغطيه بعباءتها ضناً منها إنها الدرع الذي سيصمد امام الرصاص المتطاير من سلاح القاتل، فهي لم تحصي كم رصاصة أصابت رضيعها ومزقت جسده الطري، لأنها فارقت الحياة قبل ان الدرع الواقي عنه لترى جراحاته.
ولا يمكن لأحد ان يتخيل الموقف، لطفل يلوذ بأبيه الذي توسد التراب على باب مطعم فدك، معتقداً انه سيحميه من آلة القتل، فما هي الا لحظات ليجد نفسه ملقاً على صدر ابيه يخور بدمه، محتسباً أمره وأمر أبويه الى الله.
مهما تحدث لك القلم فلا يمكنه ان يصور لك مشهد لثلاثة اخوة، كبيرهم لم يبلغ الأربعة عشر ربيعاً، وهم يحتضنون بعضهما البعض في زاوية مكشوفة للعدوة، لم يتعدى إرتفاع جدارها المتر، ودمائهم تشخب من صدورهم، وهم ينظرون الى أبويهما اللذان يجودان بنفسيهما، وعيونهم تبكي دماً على فلذات اكبادهما.
ولم تستطع أن تستشعر الموقف الذي عاشته طفلة صغيرة ذات الخمسة أعوام، عندما إنكبت على وجهها في (دورة المياه)، بعد سماعها أصوات طلقات الرصاص التي ملأت السماء، لتخرج بعدها بدقائق قليلة بعد سماع أصوات صافرات سيارات الشرطة، التي وصلت بعد إنتهاء الجريمة، وهي تتخطى الجثث، لتغمر قدميها ببرك الدم المتجمعة في طريقها، بحثاً عن والدتها التي تركتها واقفةً عند باب المرحاض، لتجدها ملقاةً على وجهها، والأرض مصطبغةً بدمائها الطاهرة.
لا يتمكن اي شخص ان يتخيل تلك الأحداث، إلا من عاش وتحسس مرارتها، لكن العراقيين يبقون صامدين متحدين على تلك الآلام والنكبات المتتالية، ولن ولم يتنازلوا عن إسلامهم ومذهبهم, ولن يهجروا عراقهم, مهما كانت مرارة خبزه وملوحة ماءه، لقد إعتادوا على رائحة دماء الأبرياء الزكية، التي لطالما صبغت الشوارع والارصفة وعطرة الاسواق، فلقد تعلموا الصبر من ال بيت النبوة، فثورة الحسين ضد الظلم والطغيان لم تكن حبراً على ورق، لقد تجسدت في نفوسهم، وكانت مدرسةً الأجيال، يستلهمون منها الصبر على البلاء، والتضحية بالنفوس والأبناء والآباء، وهم باقون ما بقي الدهر.
فسلاماً على عراقنا الجريح، وسلاماً على ترابه الطاهر، والرحمة والرضوان لشهدائه الأفذاذ، والعافية والسلامة لجرحاه الأبطال، فنحن كنا ولا زلنا نفتخر بعراقنا عراق الأنبياء والأئمة الأطهار.